علاء الدين عبد المولى يحاور المفكر السوري برهان غليون

2007-06-26 :: الجمل

علاء الدين عبد المولى


 د. برهان غليون ، باحث ، مفكر ، مثقف مثير للجدل ، كون الأطروحات التي يشتغل في حقلها ويذيعها في الفضاء الثقافي العربي تشكل جزءاً مهما من وقائع الثقافة العربية الراهنة وهو منذ أوراقه الأولى ينمو في داخله هاجس البحث عما يمكن أن يكون " حقيقة " ، لكنه يأبى إدعاء وصوله إليها ، لأنها تبقى في حيز لا يوصل إليه مرة واحدة هكذا ، أنها الأرق الذي يوّلد الأرق، بلا نهاية . وقد استطعنا أن نلتقي معه أثناء زيارته السنوية إلى مدينته " حمص " ، لكي نتداول معه أوجها معينة للحقيقة ، فكان حواراً تكوَّن من ثلاثة محاور أساسية في المثقف ووظيفته ، ثم حول أفكاره في كتابه الجديد ، وأخيراً بعض التساؤلات حول علم الاجتماع ... ولنبدأ من المحور الأول : حول المثقف ووظيفته المحتملة :


* في الوقت الذي يعتبر فيه " إدوارد سعيد " – في كتابه : صور المثقف – مفهوم " غرامشي " للمثقف " أقرب بكثير إلى الواقع من أي صفات إياها " بندا " وبخاصة في أواخر القرن العشرين " يسجل " إدوارد " ملاحظة عن خطورة هذا المفهوم " الغرامشوى " الذي يعلي على المثقف " أن يختفي وجهه أو صورته في خضم بحر من التفاصيل ، واحتمال تحول المثقف إلى مجرد مبني آخر " . كيف نطمئن لمفهوم " غرامشي " الذي تتبناه ، أدبيات فكرية عربية كثيرة ، بدون أن تتأمل في ارتباطه بواقعه المحلي والشروط التي أنتجته ؟ هل يمكن أن نعلّم حسب غرامشي أن كلا من خبير الإعلان أو العلاقات العامة أو مدير شركة طيران " مثقف عضوي " .
* أعتقد أن " إدوارد سعيد " قد شوه قليلاً مفهوم " غرامشي " للمثقف عندما ترجم مفهوم " المثقف العضوي " إلى خبير الإعلان والعلاقات العامة أو مدير شركة طيران . في نظري أن العنصر الجوهري في تعريف " غرامشي " للمثقف هو ارتباطه بمشروع اجتماعي لطبقة ما ، بمعنى التزامه بقضية تتعلق بالشأن العام ، ولذلك ربط " غرامشي " بقوة بين المثقف والسياحة وبين الثقافة والسياحة أيضاً . ولا يزال لهذا المفهوم في الواقع تطبيقات حقيقية كبيرة في مجتمعاتنا العربية بشكل خاص ، طالما أن المثقفين ما يزالون يلعبون دوراً كبيراً في بناء المنظمات السياسية ومساعدة الطبقات الاجتماعية على الارتقاء بوعيها الخاص ومساعدتها كذلك على تحقيق وعيها بذاتها . ونحن نلاحظ بوضوح كيف أن تهميش المثقفين في هذه المجتمعات – وهو واقع قائم اليوم – قد ارتبط بتهميش المنظمات السياسية وبإلغاء – أو بنفي – مفهوم المصالح الطبقية الخاصة لحساب صورة مبسطة إيديولوجية لمجتمع موحد في كلمة " جماهير شعبية " تسير بدون تردد وراء قيادة تاريخية مكفولة من الأزل حتى الأبد .
لا أرى أن هناك ما يشكل عقبة كبيرة في مفهوم " غرامشي " للمثقف إذاً ، ولا ينطبق هذا المفهوم على واقعنا المحلي . لا يزال هناك حاجة للمثقف من أجل بناء التنظيمات السياسية والوعي الذاتي للمصالح الطبقية .


* أنت في تشخيصك لأزمة البيروقراطية العربية تستنتج أن الطلب يزداد الآن على المثقفين للعب دور مستقل ومتميز ، وتريد لهذا الدور أن يكون سياسيا عبر المشاركة المباشرة وغير المباشرة في تكوين النظام العام . وتُريد للمثقفين انخراطاً في العمل السياسي وتحمل المسؤوليات السياسية المجسدة في تسيير الدولة وأجهزتها والأحزاب السياسية ... فأي دولة تريد أنت من المثقفين تسييراً لها والعمل في أجهزتها وأحزابها ، وأنت صاحب النظرية القائلة " الدولة ضد الأمة " وإذا عرض على المثقف والمفكر " برهان غليون " منصب سياسي ما ، فما موقفه ولماذا؟

* هناك عدة أسئلة في هذا السؤال نفسه ، أعتقد أن الطلب الآن يزداد على المثقفين ، في نفس السياق الذي تحدثت عنه في الجواب السابق . ولو دققنا النظر اليوم في الواقع الاجتماعي السياسي العربي لأدركنا أن ما تبقى من التنظيمات السياسية – بعد موجة التشديد على العمل السياسي وإلغاء السياسة تقريباً – هو نوبات من المثقفين . بقدر ما أن المثقفين يستطيعون الارتفاع جزئيا بسبب تعلقهم بالوعي وبالأيديولوجي فوق المصالح الجزئية واليومية . وأعتقد أن المثقفين يلعبون دوراً كبيراً في مرحلة الأزمات الاجتماعية ، بقدر ما يزداد الطلب لدى جميع الفئات والطبقات على الوعي والتحليل وفهم الواقع والمراجعة الفكرية أي بقدر ما تصبح المراجعة والنقد الذاتي شرطاً لإعادة بناء الهياكل السياسية والاجتماعية . ومن وراء ذلك أيضاً إعادة بناء النظام الاجتماعي ككل . ما وقفت ضده هو ما يسود الآن – بسبب ما تعرض له المثقفون من قمع وتهميش – ما يسود من اعتقاد لدى أغلب المثقفين بأن من واجبهم الابتعاد عن مسائل السياسة والمجتمع أي تبنّي موقف الاستقالة الاجتماعية . وأذكر أني قلت في بعض المقالات والمقابلات أنه ليس من المعقول أن يكون الشعور بالمواطنة وبواجباتها أضعف لدى المثقف منه لدى العامل والفلاح أو الرأسمالي . أنا أعتقد أن المثقف لا ينبغي أن يمحو لدى الفرد المواطن والمثقف بوصفه مواطناً لا يستطيع أن يتخلى عن مهمات الانخراط السياسي ، والعمل من أجل الإصلاح والتغيير . وإلا أصبحت الثقافة مبرراً للموقف العدمي والنهيلستي الذي يحول المثقف بالمقارنة مع الفئات الاجتماعية الأخرى إلى نوع من الطفيليات الاجتماعية .
لا يعني رفض موقف الاستقالة والدعوة إلى انخراط المثقفين في العمل السياسي والواجب الوطني أن المثقف مضطر إلى أن يكون أداة للسلطة أو عضوا في أجهزة السلطة . السياسة لا تتماهى بالضرورة مع الدولة . السياسة هي نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطا خاصا بالدولة والنشاط الخاص بالدولة ليس فقط نشاطا سياسيا ، ففي الدولة نشاط إداري تقوم به الإدارة ونشاط تقوم به البيروقراطية العسكرية ، ونشاط تقوم به أجهزة متنوعة أمنية وغيرها .
انخراطي في العمل السياسي لا يعني أنني مضطر ، أو من واجبي ، أن أقبل منصبا رسميا أو أكون وزيراً أو غير ذلك . فكل مواطن ينبغي أن يكون مهتماً بالعمل السياسي ، أي بالشأن العام ، ولا يصبح جميع المواطنين الذين يشاركون في الانتخابات التشريعية وزراء أو نواباً ولا يقود نشاطهم السياسي إلى تحويلهم إلى رجال سياسة بالمعنى الاحترافي للسياسة . وأنا من الداعين إلى المشاركة في الحياة السياسية للمثقفين وغير المثقفين ، ليس من أجل تحويل المثقفين إلى وزراء ولكن من أجل تجديد الأفكار والحركة والبنى السياسية التي تسمح بتكوين كوادر سياسية ومفهوم جديد للمسؤولية يصلح من أوضاع الدولة العربية .
إذا ينبغي أن نميز النشاط السياسي العام ، الذي هو واجب على كل مواطن مثقفا كان أم لا ، وبين ممارسة العمل السياسي كمهنة . نحن نريد من خلال توسيع دائرة الحريات وبناء النظام الديمقراطي أن نفسح المجال لبناء طبقة سياسية مرتبطة أكثر بالشعب ، وذات شعور ومفهوم سليم للمسؤولية الاجتماعية .

 

* في حوار معك " الكفاح العربي بتاريخ 10/7 / 1997 / تعوِّل على أئمة المساجد في تربية العقول وتجهيز الأفكار أكثر من المثقفين . وتعتبر في الحوار نفسه أن الدين هو اعتقاد وليس براهين علمية .. وفي مكان آخر " جريدة الاتحاد بتاريخ 10 / 8 / 1995 / تعلن عن انتهاء الدور الأول للمثقفين الذي قاموا به منذ بداية القرن ، وهو دور المرشد العام للأمة والداعية الإمام أو المنور الفكر ...
كيف تستقيم المفاهيم السابقة منطقيا ، وهي مفاهيم أرى أنها تفصح عن التباس بين " تعويل على أئمة المساجد في الثقافة " وبين إعلان عن انتهاء دور المثقف كمرشد هام وإمام "
* أنا لم أقل في أي مقابلة أنني أعوّل على أئمة المساجد في تربية العقول أكثر من المثقفين . أنا تأسَّفتُ لأن أئمة المساجد – بسبب انسحاب المثقفين أو انقطاعهم عن مجتمعهم – أصبحوا المصدر الرئيسي تقريباً للتربية والتوجيه العقائدي بالنسبة لقطاع كبير من الرأي العام . وهذا تعبير عن فشلنا ، وهو ما أردت أن أشير إليه .
أمَّا فيما يتعلق بدور المثقفين فإني أشعر اكثر فأكثر أن مهمات المثقف لم تعد في عصر العولمة هي نفسها المهمات التي كان يمارسها منذ بداية النهضة في بدايات القرن التاسع عشر المرشد ، والتي جعلت من المثقف في الرأي العام نوعا من الداعية ومصدراً للتنوير لمجتمع جاهل أو شبه أمي في أغلبه . والمقصود من ذلك هو نقد الاتجاه السائد اليوم الذي يسمي نفسه اتجاها تنويرياً والذي ما زال يعتقد أن مهمته هي توعية الشعب الجاهل ومحاربة الظلامية . والسبب في ذلك أنني لا أعتقد اليوم أن مثل هذه العلاقة يمكن أن تشكل قاعدة لإعادة البناء السياسي في المجتمعات العربية ، أنني أعتقد ، بالعكس ، أنها تستخدم كوسيلة لتبرير القطيعة بين المثقفين والمجتمع ، وبالتالي التمديد للأوضاع الراهنة . أنا أنظر اليوم إلى المجتمع على أنه مجموعة متعددة من المصالح ، وأن الخلافات الفكرية ليست نتيجة وعي النخبة وأمية الأغلبية ، وإنما بالعكس هي التعبير عن التضارب الحقيقي في المصالح بما في ذلك بين النخبة وأغلبية المجتمع . ويستدعي الخروج من هذا المأزق الذي قاد إليه هذا المفهوم التنويري في السياسة ، تغييراً جذريا في تصورنا لدورنا في هذا المجتمع ، دورنا نحن المثقفين ، فالمثقف ليس وعيا خالصاً مجرداً من المصالح مقابل مجموعة مشوهة الوعي وفاقدة لأي قدرة على إدراك مصالحها وما عليها إلا أن تسلم قيادتها للنخبة الواعية . أنا أعتقد أن علينا أن نؤمن بتعددية المصالح ونؤمن بصراع المصالح ، وهذا الإيمان هو الذي يدفعني إلى تبني الديمقراطية كآلية للتسوية بين هذه المصالح وحل تناقضاتها بالطرق السلمية .
وفي هذا المنظور ، ليس المثقف داعية أو منوَّراً ومُرشداً للطريق الصحيح ، وإنما هو في نظري ، أو ينبغي أن يكون وعيا نقدياً . والمقصود بالوعي النقدي هو الوعي بهذه المصالح المتعددة وبهذه التعددية ، وإظهار التناقضات التي تكمن فيها . وفي هذا المعنى أن دور المثقف الارتقاء بوعي جميع الطبقات فيما يتعلق بالشأن العام . إذا ، ليس المثقف مربياً ولا مرشداً ، ولكنه عضو اجتماعي تكمن مساهمته في توسيع دائرة المدرك في مجتمعه وتوسيع دائرة هذا المدرك يعني بناء الوعي الجمعي أو المتعلق بمواجهة المسائل السياسية والمدنية التي تتعلق بوجود الناس معاً ، بالوجود الاجتماعي " ومن هذا المفهوم أرى – بخلاف " غرامشي " – أننا بحاجة اليوم إلى مثقف قادر على الاستقلال الذاتي تجاه جميع المصالح الاجتماعية الطبقية المتعارضة ، أي مرتبط بمسألة بناء العام أكثر مما هو مكرس لبناء الوعي الطبقي الخاص بفئة من الفئات الاجتماعية . ومن هنا يبدو المثقف الحقيقي مثقفاً " نقديا " لا " عضوياً " " وطنيا " . وفي نظري أن بناء المثقف يرتبط اليوم ببناء هذا الوعي المستقل والنقدي عند المثقفين ، ومن ورائهم عند جميع أفراد المجتمع . وهذا هو الاتجاه الذي ينبغي أن تدفع به فيما يتعلق بمجموع سياساتنا الثقافية إذا أردنا بناء مجتمع جديد فعلاً .