تجديد العلمانية بين الدولة السياسية والدولة العقائدية

2005-08-28 :: الملف الثقافي - التجديد اليومية المغربية

 بلال التليدي

 

* تثير العلاقة بين الدين والسياسة أكثر من إشكال، وينتج عن الخلاف في فهم هذه العلاقة فرز ثقافي وسياسي نجد تعبيره في مشهد سياسي يتصارع فيه الاتجاه الإسلامي مع التيار العلماني. دكتور كيف تنظرون لهذه العلاقة؟

* هناك جانبان للموضوع. الاول يتعلق بوصف الواقع كما هو، أي علاقة الدين بالسياسة في الوضع الراهن العربي والعالمي، والثاني يتعلق بما ينبغي أن يكون، أي بالخيارات السياسية المطروحة علينا في منظور العمل على تحسين واقع المجتمعات ونظمها المدنية.

في ما يتعلق بالجانب الأول نحن لا نلحظ وجود نموذج واحد للعلاقة بين الدين والسياسة في العالم ولكن نماذج متعددة تكاد تكون بعدد المجتمعات. وهي تتراوح بين نموذج الفصل الكلي بين السلطة الدينية والسلطة السياسية بكل جوانبها، كما هو الحال مثلا في النظام الفرنسي الذي يرفض أي تداخل بين صلاحيات السلطتين، وهناك نموذج الربط العميق بينهما، كما هو الحال في الدول العقائدية سواء أكانت إسلامية أو شيوعية أو قومية، مرورا بحالات وصيغ متنوعة تفصل في جانب لضمان استقلالية إحدى السلطتين العقائدية والسياسية وتسمح بالتداخل والاختلاط بين صلاحية السلطتين في جانب آخر. والسبب في هذا التعدد هو أن لكل مجتمع مساره التاريخي والاجتماعي الذي حدد بنية أنظمته السياسية والمدنية وله أيضا توازناته الاجتماعية وثقافته العامة والسياسية. فالنموذج الأول، بقدر ما يجعل من الدولة ممثلا لسلطة عمومية تتجاوز جميع الأطراف والجماعات الثقافية الخاصة المكونة لها يلغي أي فلسفة عقيدية للدولة تتوسط بينها وبين أعضاء مجتمعها، باستثناء تلك التي تؤكد على واحدية ووحدانية المواطنية وهي المساواة القانونية. ومن هنا تبقى وسيلة التوسط الوحيدة التي تربط الدولة بالأفراد كما تربط الأفراد في ما بينهم في هذا النموذج هي قانون الحرية والمساواة الفردية. وفي هذا النموذج تشكل العلاقة السياسية، أي المشاركة في وضع التشريع والقانون واحترامه وتقديسه، أساس التعاقد بين الأفراد لبناء الجماعة الوطنية واستمرارها لا عقيدة الفرد ولا عقيدة الدولة. ولذلك فإن السائد هنا هو القانون الواحد الذي يعكس في بنائه وحدة الجماعة السياسية ومساواة أفرادها أو تمثيلهم بالتساوي، والذي يساوي أيضا بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات مهما طرأ عليه من تبدلات. وصدور هذا القانون أو التشريع عن هيئة تمثيلية أو سلطة تشريعية وضعية قابلة للتبديل والتجديد دوريا وممثلة لعموم الجماعة السياسية هو أساس عمومية هذا القانون وطابعه المساواتي وشرط حياديته العقائدية أو موضوعيته.

بالمقابل نسمي الدولة دينية او شبه دينية عندما تتوسط العقيدة التي تتبناها أو يتبناها الحاكمون العلاقة بينها وبين أعضاء المجتمع وتشرط علاقات هؤلاء أنفسهم فيما بينهم أيضا كما تتوسط علاقة الدولة نفسها بالقانون تشريعا وتطبيقا.  وهذا هو نموذج الدولة العقائدية التي يعتبر تمثل العقيدة فيها من قبل أفراد المجتمع وليس الخضوع للقانون فحسب هدفا للسلطة العامة كما يجعل من التمييز بين الأفراد على أساس درجة تمثلهم للعقيدة أو التزامهم بها معيارا لانتمائهم للسلطة ولتعامل السلطة معهم. وهو ما يفسر الأصل العميق لدولة محاكم التفتيش التي تسعى إلى فرض العقيدة الواحدة عقيدة السلطة على الجميع كما تحرم من لا يعتقد بعقيدة السلطة من حقوقه الجمعية وتعمل على نبذه واستئصاله فكريا أو حتى جسديا.

ومن هنا، بقدر ما تجنح الدولة السياسية الحديثة  إلى تأكيد العلمانية أو استقلال السلطة السياسية عن السلطة العقائدية تؤسس للدولة الديمقراطية  أي دولة المواطنية التي تتعامل مع جميع أفرادها بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية وأصولهم القومية ومواقعهم الاجتماعية بأسلوب واحد وعلى قدم المساواة. وهي على النقيض من الدولة العقائدية التي تنزع إلى تأكيد ثقافة الهوية وبثها كوسيلة لتحقيق التمايز والفصل بين أصحاب الولاء وأصحاب المعارضة وإخراج غير الموالين من طاعة السلطة وحمايتها معا فتؤسس للدولة الطائفية التي تلحظ في دستورها نفسه أسبقية أو إمتيازات خاصة بجماعة أو بعصبية دينية أو قومية ولا تتعامل مع الأفراد حسب ماهيتهم وسلوكهم وانتاجهم وإنما ترى فيهم دائما تجسيدا لهوية جماعية صديقة أو معادية ولا تعاملهم بالتالي على قدم المساواة ولكن حسب الموقع الذي تحتله هذه الجماعة من الولاء أو العداء للسلطة. 

ولو طبقنا هذه الترسيمة الخاصة بدولة المواطنية والدولة الطائفية على العالم العربي لوجدنا أنه لا يوجد هناك نموذج واحد أو موحد للعلاقة بين السلطتين العقائدية والسياسية في مجتمعاته. فهناك بالتأكيد دول من النمط الطائفي شبه الصافي حيث يسيطر حزب واحد على السلطة في جميع مستويات البنية الاجتماعية وليس فقط في مستوى السلطة السياسية العمومية أو سلطة الدولة، ويخضع جميع علاقات الدولة مع جميع أفراد المجتمع وهيئاته المدنية من نقابات وجمعيات أهلية ومؤسسات ثقافية بل دينية إلى مبدأ الانتماءات الجماعية. فيحول المنتمين لعقيدة الحزب والسلطة إلى جماعة من الأسياد المالكين للدولة ملكية شبه عقارية أي دائمة وثابتة ويجرد الآخرين من حقوقهم المدنية والسياسية مبيحا لنفسه التصرف بشروط حياتهم كما يشاء باسم الوطنية أو الاحتياجات الأمنية، ومثاله نظم البعث التي سادت في العراق وسورية. وهناك نماذج أخرى تتراوح بين الطائفية والمواطنية، أي تعترف بهامش استقلالية أقل أو أكثر سعة للفرد غير المؤمن بعقيدتها تجاه الدولة من دون أن تتقيد بمبدأ الدولة القانونية أو بالمساواة في القانون وأمامه بين الأفراد.  وهو ما يستدعي الاعتراف بدرجة من الوجود المستقل للفرد تجاه السلطة بصرف النظر عن انتماءاته العصبية والجمعية وبدرجة متفاوتة أيضا من استقلال المؤسسات التشريعية والقضائية وحياديتها، كما يستدعي حصر مسائل ضمان استمرار السلطة السياسية وإعادة إنتاجها في مستوى محدد من التقنين على الحريات العامة لا يتجاوزه ولا يخلط أمن السلطة أو استمرار الدولة وهدفها بتغيير فكر الافراد واعتقاداتهم.

هناك إذن، كما نرى، تفاوت كبير بين الدول العربية في درجة تميز حقل السلطة السياسية واستقلاله عن المسائل العقدية وعلى الممارسة السياسية. لكن من الممكن القول إن ما يميز معظم النماذج القائمة هو استعمال العقيدة، الدينية أو القومية أو الاشتراكية، من قبل السلطة العمومية في تحديد علاقتها بمواطنيها وبالتالي في التمييز بين هؤلاء المواطنين في درجة المواطنية وتنظيم آليات الدمج والطرد من الجماعة السياسية الوطنية. وهو ما يخلق عوامل الانقسام العقدي داخل المجتمعات وما يؤثر سلبيا وبشكل واضح على نشوء ولاءات وطنية قوية ويبقي الوطنية أو الوطنيات العربية المتبلورة حول الدولة الحديثة ضعيفة وطرية العود معرضة بسهولة للانتكاس والتفجر لصالح بروز العصبيات والولاءات ما تحت السياسية، الدينية والأقوامية والعشائرية والعائلية.

الآن في أي اتجاه ينبغي العمل لتحسين صيغ التنظيم السياسي والمدني في المجتمعات العربية؟ هل ينبغي تعزيز الاتجاه نحو قيام دولة سياسية هي وطن لجميع أفرادها بالتساوي وبصرف النظر عن انتماءاتهم العقائدية أم الدفع في اتجاه دولة عقائدية هدفها المطابقة بشكل أكبر بين المجتمع والهوية العقائدية وبالتالي التضحية بالسياسة لصالح الرسالة الدينية وما تشير إليه من ضرورة انشاء جماعة عقدية متكاتفة ومتراصة يجمعها الايمان المشترك ويوحدها الولاء لسلطة عقائدية أو لزعيمها؟

على هذا المستوى العام من تحديد العلاقة بين الدين أو العقيدة الفكرية والسياسة العمومية، لا يمكن تعيين المطلوب والمرغوب للمجتمعات العربية بشكل مجرد ومن دون النظر في مسألتين. أولا في ما نطمح إلى تحقيقه، أعني كل فرد بوصفه شريكا في بناء المستقبل، من نظم مدنية وما نعتبر أنه الأفضل لتسيير العالم الاجتماعي ومساعدة الأفراد على التفتح والانعتاق والسعادة الدنيوية. وثانيا في ما يتوفر لدينا أو في كل مجتمع من شروط وعوامل لتحقيق هذا الطموح بصورة أكثر أو أقل اكتمالا وسرعة. ولا شك عندي في أن الأغلبية الاجتماعية في البلاد العربية، حتى تلك المتمسكة بشدة بالقيم والتقاليد الإسلامية، تطمح إلى بناء جماعة وطنية تخضع لمباديء المسؤولية الفردية والمساواة في الحقوق والواجبات والارتفاع على الانقسامات الطائفية الدينية أو الأقوامية، أي أنها تطمح إلى بناء نموذج الدولة المواطنية. لكن التقدم على هذا الطريق يصطدم بحواجز عديدة في مقدمها ممارسات السلطات العمومية نفسها لاستراتيجية التلاعب الطائفي الديني والأقوامي على قاعدة فرق تسد، بالإضافة إلى ضعف الوعي بمفهوم المواطنية ومسائلها وثقافتها عند عموم طبقات الشعب، وأخير بسبب الخوف المستفحل من الخوض في غمار التفكير بعيدا عن رعاية السلطة وربما رقابتها.

من هنا ، أعتقد أن تذليل العقبات التي تحول دون تطور نموذج الدولة المواطنية يحتاج إلى انخراط أكبر للمجتمع في النشاطات العمومية كما يستدعي الارتفاع على الحساسيات الطائفية التي تغذيها السلطات في سعيها إلى ضمان التحكم بسلوك جميع الفاعلين السياسيين. وكل ذلك يتطلب  إطلاق المناظرة الوطنية وزيادة مساهمة المثقفين والنخب الاجتماعية عموما في التفكير في الأسس السياسية والمدنية التي ستحدد إعادة بناء المجتمعات العربية التي تبدو مخربة الآن، وفي مقدمها تطوير النقاش حول طبيعة هذه العلاقة بالذات، وطرح الأسئلة المؤجلة أو التي لا تطرح إلا مواربة وهي : إلى أي حد يمكن القبول في أوساط الرأي العام العربي بفصل الدولة كبنية سياسية قانونية عن العقيدة الجماعية والشخصية معا للمنتمين إليها أو التابعين لسلطتها. ثم، في السياق نفسه، ما هي الصيغة أو بالأحرى الصيغ التاريخية الانتقالية أو المتصورة التي تضمن مثل هذا الفصل مع الأخذ بالاعتبار ضعف درجة الاندماج الوطني في العديد من المجتمعات العربية واحتمال أن تستمر الانتماءات الطائفية في مجتمع متعدد الطوائف والمعتقدات في الضغط على الممارسة السياسية الاجتماعية والرسمية.

وتحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة إلى جرأة كبيرة على تجاوز الصيغ والحلول الجاهزة الخارجية والتاريخية كما يحتاج إلى مقدرة على الإبداع والتجديد  والنظر البعيد والثاقب، أي إلى تطوير مقاربات خاصة مرتبطة بالبنية الراهنة للمجتمعات العربية وبتعدديتها الثقافية والدينية في حقبة تراجع الانتماءات الوطنية أو انحسارها تحت ضغط تحولات عالمية لا تخضع لإرادة أحد وليس للعالم العربي أي تأثير يذكر على مسارها. لكن مهما كان الحال، يبقى مبدأ تأكيد حياد الدولة العقائدي والكفاح من أجله بوصلة أساسية لتوجيه العمل في الاتجاه الصحيح. فبقدر ما ننجح في تحقيق هذا الحياد نضمن العاملين الرئيسيين لأي تغيير. الأول فتح الطريق أمام تعضون الدولة كبنية سياسية قانونية مستقلة عن معتقدات الأفراد والأشخاص الذين يقودنها أو يسيطرون عليها، وبالتالي الارتقاء بفاعليتها ورصيدها المعنوي والأخلاقي معا. والثاني إبعاد السياسة عموما عن الرهانات العقائدية وتوجيهها نحو أهداف عملية وإجرائية وبالتالي تحرير الأفراد أيضا من ضغوط الولاءات العصبوية وتحويلهم إلى مواطنين أحرار يتعاملون في ما بينهم مباشرة وبمعيار ما يمثله كل منهم من جهد واجتهاد، لا من خلال انتماءاتهم العصبوية وهويتهم الجماعية. وهذه هي في الواقع شروط نشوء وتطور دولة المواطنية المتساوية. وهذه هي المهام التي يتوقف على الحركة الديمقراطية العربية تحقيقها في كل بلدان العالم العربي.

 ولأن نشوء مثل هذه الدولة ليس مسألة نظرية فحسب وإنما هو مسألة صراع سياسي على أرض الواقع بين قوى حية وعبر توسطات متعددة سلطوية ومادية، فمن المستحيل تصور أنموذج واحد لتحقيقها. ولا بد لكل حركة ديمقراطية أن تبلور، حسب الشروط التي تعيشها وطبيعة الصراعات التي تنخرط فيها، طريقها الخاص للوصول إليها، أي لتحرير الدولة من أسر العقائدية وذيولها.

 

* العلمانية مصطلح يحمل عدة دلالات قد تصل في بعض الأحيان إلى حد التناقض، فإذا أضفنا اختلاف التمثل تعدد طرق التنزيل والتطبيق نصبح أمام علمانيات كثيرة. في نظركم دكتور كيف تفسرون هذا التعدد؟ وكيف يمكن التعامل معه؟

* حتى الآن ارتبطت العلمانية بمسألة الفصل بين مجال اختصاص الدولة ومجال اختصاص الدين بالمعنى الدقيق للكلمة، وبشكل خاص الدين السماوي الذي برزت فيه اتجاهات شمولية تنزع إلى إحلال سلطة رجال الدين محل سلطة رجال السياسة. لكن التجربة التاريخية الحديثة للشيوعية والقومية والتيارات العقائدية الأخرى تظهر الحاجة بشكل أكبر إلى تجاوز هذا المفهوم القديم للعلمانية في سبيل إعادة بنائه على أسس جديدة تهدف إلى دراسة العلاقة بين العقيدة والدولة بصرف النظر عن طبيعة هذه العقيدة دينية كانت أم وضعية. وفي هذه الحالة تصبح إشكالية العلمانية القديمة التي تتعلق بتأكيد استقلال السلطة السياسية العمومية عن السلطة الدينية بالمعنى الحصري لكلمة دين جزءا من إشكالية أكبر تطرح مسألة علاقة السلطة العمومية بالعقيدة نفسها. وما ينطبق على الإشكالية الأوسع ينطبق على ما يضمها. فالعلمانية بالمعنى الجديد هي جانب رئيسي في سيرورة تحديث الدولة وتحرير منطقها وتحويلها إلى بنية سياسية قانونية إجرائية تابعة للجماعة لا مخضعة لها بالقوة، وبالتالي فهي شرط لتأسيس جماعة وطنية تنشأ حول الانتماء لسلطة قانونية سياسية بدل التماهي مع الجماعة أو الجماعات الدينية والطوائف الاجتماعية المتمحورة حول الانتماء لعقيدة واحدة. ومن حيث هي كذلك تشكل العلمانية اتجاها تاريخيا موضوعيا لا إراديا تخضع له جميع المجتمعات السائرة نحو الحداثة وهو شرطها. وهذا ما يضمن اتساق مفهومها وطابعه الكوني. لكن هي متعددة لأن تنزيل المبدأ في الواقع التاريخي يختلف أيضا حسب طبيعة الدول وشروط قيامها وثقافة المجتمعات أيضا وتاريخها أي تاريخ الصراع الداخلي بين قواها المختلفة على تحديد الخيارات العامة. فالعلمانية واحدة كمفهوم ومتعددة كواقع.

 

* دلالات التجربة العلمانية في منبتها الأصل تحيل على معان أكثر من إحالاتها على نمط في الحكم أو التدبير لعلاقة الدين بالسياسة. فالعلمانية الفرنسية ليست هي البريطانية أو الأسبانية أو الأمريكية، لكن هذه التجارب تحيل على معان واحدة مثل احترام حرية الرأي والتعدد الفكري والسياسي والرقابة الشعبية على الحاكم، كيف تفهمون دكتور التعدد في التجارب والتوحد في المفاهيم والمعاني؟

* كل ماذكرته عن الدولة السياسية والدولة العقائدية ينطبق على مسألة العلمانية وينبع من منطق واحد هو تحييد الدولة عقائديا وتحويلها إلى بنية سياسية قانونية إجرائية هدفها تجسيد وحدة جماعة تريد أن تتحول إلى جماعة وطنية مواطنية، أي سياسية، بصرف النظر عن اختلافات أفرادها العقائدية بل من خلال تحييد هذه الخلافات في ما يتعلق بتسيير شؤون الجماعة السياسية على الأرض. ولا يعني هذا التحييد تقييد حرية الأفراد في ممارسة اعتقاداتهم داخل الدولة أو زوال الحاجة إلى مثل هذه المعتقدات وإنما تحويل الاعتقاد إلى مسألة خاصة بمجال الحياة الاجتماعية الثقافية التي ينبغي أن تتمتع باستقلال كلي عن السلطة العمومية السياسية. ولذلك بدل أن تكون العلمانية مناسبة لتقليص دائرة إشعاع العقيدة الدينية والتضييق على حرية المؤمنين تصبح في الواقع، وكما أظهرت التجربة التاريخية، إطارا لا غنى عنه لضمان حرية الاعتقادات والمعتقدات جميعا وازدهارها من دون ضغوط خارجية أو استخدامات جانبية.

لكن أهمية التمييز بين مجال عمل السياسة ومجال عمل العقيدة وسلطانهما لا تقتصر على مسألة تحرير الأفراد من كابوس الفكر الواحد المدعوم من السلطة العمومية وعلى تأسيس التعددية الفكرة والسياسية فحسب. إنه يشكل، أكثر من ذلك، شرطا لا غنى عنه لوضع أسس ومنطق بناء وتحسين عمل الدولة كهياكل ومؤسسات تعنى بتنظيم النشاطات الاجتماعية المختلفة بين الأفراد والجماعات المكونة لها بصرف النظر عن أصولهم ومعتقداتهم. أي بناء الدولة القانونية السياسية التي تعمل بالقانون وتساوي بين الناس وتضمن انتماءهم المشترك لها بضمان حكم هذا القانون ومساواة الجميع فيه وأمامه.

 

* هل يمكن أن يتعايش الطرح الإسلامي مع علمانية بمعنى من المعاني؟

* لا أدري ما ذا تعني بالطرح الاسلامي. إذا كان المقصود دعوة الدولة الإسلامية بشتى صورها فمن الواضح أنه لا يتعايش أبدا. فمنذ البداية وبالتعريف يحدد هذا الطرح برنامج السلطة العمومية القادمة على أنه تأسيس دولة تجسد هوية جماعة متميزة هي جماعة المسلمين وتدافع عن قيمها وعقائدها وتعبر عنها وتضمن استمرارها وبقاءها أو سلطانها. فوظيفة هذه الدولة الأساسية ستكون تجسيد الهوية أو ترميمها وضمان استمرارها وديمومتها. وهي تتوسل في ذلك النهوض بالعقيدة الاسلامية التي هي أساس ضمان الانتماء للسلطة العامة الاسلامية وتأكيد نفوذها وسلطانها في البقاع التي يشكل المسلمون غالبية فيها. والحال أن العلمانية الجديدة تهدف قبل أي شيء آخر إلى فصل مسألة تأكيد الهوية الجمعية التي تتركها للثقافة والوعي الجمعي العام، عن مسألة تنظيم الحياة السياسية ومهامها التي تحيلها إلى الدولة. وهذا يتطلب إعادة نظر في مفهوم السياسة نفسه. فليس هدف السياسة ولا واجبها تكوين وعي الناس وعقائدهم الخاصة ولكن تأمين الشروط المادية والتنظيمية التي تسمح للوعي الحر بالتطور والازدهار. إنه يفترض إذن أن السياسة لا تكون الثقافة ولكنها خادمة لها. والثقافة لا تتكون بالاكراه وإنما بالحرية، أي بالتنافس الحر بين التيارات العقائدية والفكرية والدينية.  فهي بنية تنظيمية ضرورية لتطور الوعي ونمو القيم الأخلاقية والمدنية.

 ولا يمكن لمثل هذا المبدأ التنظيمي الذي هو السياسة بالمعنى المذكور أن يحقق أهدافه، أي أن يؤسس لتنامي الوعي الأخلاقي والمدني عند الأفراد إلا إذا قبل الأفراد المنضوون تحت راية الدولة التعامل في ما بينهم كأفراد متساوين ومتعادلين ومتكافئين ولم يطلبوا أي شرط آخر لضمان حسن هذا التعامل سوى احترام القانون الذي يشاركون هم أنفسهم وبطرق واضحة ومعروفة في سنه وتطبيقه. ولهذا بقدر ما تؤمن الدولة الحديثة المساواة القانونية الفعلية بين الأفراد تؤسس لوحدتهم السياسية. وبالمقابل بقدر ما تضمن الثقافة الحريات الفكرية تؤسس لحرية الاعتقاد والتسامح وبالتالي للتعايش السلمي بين الهويات وجماعات الرأي والاعتقاد المختلفة التي تنشأ في سياقات متعددة ومتحولة ومتبدلة فردية وجماعية. فالهوية متغيرة ومتعددة الأوجه وكل يفهمها من منظاره الخاص ودرجة ثقافته ووعيه أما الدولة القانونية فهي بنية موضوعية لا تقبل أي تأويلات ذاتية أو شخصية.

الحالة الوحيدة التي يمكن لحزب إسلامي أن يتعايش فيها مع العلمانية هي أن يقبل بقاعدة الدولة الديمقراطية وما تعنيه من تداول في السلطة وبلورة برنامج لتنظيم النشاطات الاجتماعية المختلفة لا للدفاع عن الهوية الدينية أو القومية. ولا يهم بعد ذلك أن يستلهم هذا البرنامج القيم الاسلامية لكن على شرط ان ينظر إليه الجميع ويقدم لهم على أنه برنامج سياسي أو برنامج حزب سياسي يحتمل الخطأ والصواب وينأى بنفسه عن أي ادعاء تمثيل الأفراد كجماعة دينية أو كعقيدة سماوية. وهذا يعني حرص الفئة الداعية له على أن لا تدعي أي شرعية أخرى غير تلك النابعة من صناديق الانتخابات. ومشكلة الحركات الاسلامية العربية جميعا حتى الآن أنها ترفض النظر إلى نفسها كأحزاب سياسية ذات برامج علمانية، أي سياسية محضة، كما تصر على أن تستند في تبرير برامجها ووجودها نفسه على الشرعية الدينية أو تمثيل العقيدة الصحيحة. فهي مشدودة بشكل كبير نحو فكرة تأكيد أولوية مسألة فرض الهوية الاسلامية على دولة نزعت هويتها الجماعية في نظرها أو أخضعت بالقوة لهوية قومية أو اشتراكية أو علمانية فئوية وبعيدة عن تقاليد الجماعة الاسلامية.

وفي اعتقادي يشكل هذا الميل المناويء للسياسة عند الحركات الاسلامية العربية رد فعل تاريخي على تحديين كبيرين أظهرت النخب الحاكمة عجزا كبيرا عن مواجهتهما. الأول هو تحدي الضغوط الخارجية القوية إن لم نقل الحرب الباردة التي تشنها الدول الغربية في سياق تحلل النظم العربية القومية  وفي سبيل تجديد شروط السيطرة الاستعمارية، على المجتمعات العربية باسم جمود الاسلام وتخلف تقاليده. والثاني اصطدام النخب السياسية الجديدة الصاعدة في سياق التحلل السياسي الداخلي ذاته والعدوان الخارجي بتكلس النظم القائمة ونجاحها في مقاومة كل أشكال التغيير والتداول على السلطة في جميع مستوياتها. لكن مهما كان الحال، لا يبقي هذا الطرح الاسلاموي مكان كبير لازدهار فكرة الدولة بمعناها السياسي أي كبنية قانونية سياسية وطنية لا كأداة للدفاع عن الهوية وما تعنيه من تأكيد قيم ومباديء وعقائد يعتبر الاسلاميون  أن تحقيقها في المجتمعات الاسلامية برنامجا تاريخيا، بل برنامجهم السياسي الأول إن لم يكن الوحيد.

 

* في بلدنا المغرب يميز كثير من الإسلاميين بين العلمانية كفكر يؤمن بالاختلاف والتعدد وحرية الراي والمعتقد وبين اللادينية كمنهج للتفكير والتقويم . هل توافق مثل هذا التقسيم , وما رايك في أثره على مستوى الموقف من العلمانية الفكرية’

* لم يكن لهذا التمييز أي قيمة إجرائية في البداية. فلفظ اللادينية نحت أساسا في العربية في العصر الحديث لترجمة فكرة اللائيكية أو العلمانية. ولم يقصد منه ناحتوه معنى الالحاد وإلا لما كان لنحته قيمة، وإنما تحييد الدولة عن الصراعات والنزاعات الايديولوجية التي كانت في القرون السابقة بشكل أساسي صراعات دينية. لكن خطر هذا المصطلح ناجم من أنه يوحي بالخلط بين العلمانية التي تعني كما رأينا تحديد مجال اختصاص كل سلطة اجتماعية بما فيها السلطة العمومية أو الدولة ونزعة العداء للدين أو محو أثره في المجتمع والدولة معا. واختلاط العلمانية بمثل هذه النزعة يفقدها الشرعية بقدر ما يحولها من أداة إجرائية إلى عقيدة ثانية مماثلة ومضادة معا للعقيدة الدينية، أي إلى ايديولوجية كفاحية.

بالمقابل هناك بالتأكيد فروق كبيرة بين العلمانيين. فمنهم المغالين والمعتدلين. وبعضهم يطلب العلمانية الناجزة والفورية وبعضهم يقبل بعلمانية تدريجية قائمة على التفاوض بين التيارات والقوى السياسية المختلفة. وهو ما نجد شبيها له داخل الحركة الاسلامية نفسها بين متشددين يؤمنون براهنية الدولة الاسلامية وجذرية الوسائل لتحقيقها ومنهم من يرى فيها هدفا بعيدا ينبغي الاقتراب منه بالتدريج وبالتفاهم مع القوى الاجتماعية العلمانية العقلانية. 

فالتيارات العلمانية الكفاحية لا تكتفي بالدعوة إلى انتزاع هامش استقلال قوي للسلطة العمومية لحماية الدولة من نفوذ رجال الدين والسلطة القوية التي يتمتعون بها بسبب علاقتهم الروحية بجمهور واسع من المواطنين وإنما تنزع، أكثر من ذلك، إلى محاربة الدين داخل المجال الاجتماعي الخاص أيضا. وهذه التيارات هي التي أساءت أكثر من أي شيء آخر لقضية العلمانية في العالم العربي في الواقع. لكن مواجهة هذه التيارات لا تكون في الذهاب في الاتجاه الموازي لها، أي في تكبيل الدولة وتضييق الخناق العقائدي عليها ولكن بالعكس في تعزيز استقلالها تجاه جميع تيارات الاعتقاد السائدة حتى يمكن تحويلها إلى مؤسسة عمومية تتعايش في إطارها وبواسطتها جميع فئات المصالح والاعتقادات وتتفاعل فيما بينها لصالح الجميع. ويبدو لي أن شعار الدولة الاسلامية قد نشأ كرد على الدولة العقائدية التي تستخدم فيها السلطة الدين في سبيل تكريس مصالح ومواقع وامتيازات دنيوية وأحيانا دنيئة لفئات خاصة ومحدودة ومعادية للأغلبية الاجتماعية. لكن الرد تبنى المنطق نفسه الذي كان في أصل خراب الدولة والتمرد عليها، أعني منطق تحويل الدولة إلى سلاح بيد مجموعات مصالح خاصة استخدمت الدين أو العقيدة المثالية لتبرير احتكارها السلطة والثروة وإقصاء الأغلبية. وهي تريد أيضا باسم الجماعة الاسلامية والتمسك بقيم الاسلام بناء سلطة تضمن مصالح ومواقع وامتيازات الفئة التي توحد نفسها مع قيم الاسلام وغاياته وتطمس من وراء ذلك الحاجة إلى تقييد السلطة وإخضاعها لقواعد الشرعية والمسؤولية والمحاسبة والشفافية التي لا يمكن لأي دولة أن تتحول إلى مؤسسة راسخة غير مشخصنة من دونها.  فالرد على الدولة العقائدية لا يكون بالمطالبة بدولة عقائدية أكثر منها وإنما بتحرير الدولة من نير المصالح الخاصة والفئوية التي تكبلها وتنزع عنها صفة المؤسسة العمومية والتي تستخدم الانتماء العقائدي للتغطية على هذه الخصوصة، أي على استلاب الدولة السياسي وفقدانها لهويتها وماهيتها كمؤسسة عمومية سياسية.

إن تحييد الدولة عقائديا لا يعني تحييد الدين في المجتمع أو القضاء عليه أو تضييق دائرة نفوذه وإنما بالعكس خلق شروط تحرر الفكر وتحريره من أي وصاية دولوية ومساعدته على أن ينتج من داخل قوانين عمله نفسها، أي عبر جدلية الحوار والنقاش والمناظرة والدعوة ومقارعة الحجج والتفسيرات، معايير ضبطه وتنظيمه الخاصة. وهو ما يسمح بنشوء سلطات عقائدية ومعرفية وعلمية متميزة ومستقلة تعمل تحت سلطة الضمير والأخلاقيات العلمية لا بدافع خدمة السلطة العمومية وإرضائها كما هو الحال في الدول العقائدية. وهذا هو السبيل إلى تطور الفكر والثقافة والدين كما لم يحصل في أي دولة عقائدية تضع قيودا على حرية التفكير والتأويل والإبداع. وهذا هو الأصل في ما نشاهده من غنى في التفكير ومقدرة على الابداع وخصب في التحليلات والتخريجات الفكرية والعلمية وازدهار في الرؤى والتفسيرات والتأويلات الدينية في البلدان الديمقراطية.   وليس الحال كذلك في  الدول العقائدية، من أي نوع كانت. وهذا هو الأصل كذلك في تأسيس التعددية الفكرية والسياسية.

 

* هل هناك من أرضية للقاء علماني إسلامي ، أرضية تجنب الاحتراب المحموم الذي تشهده معظم الأقطار العربية ؟

* نعم. ربما كان التقارب بين الفريقين المعتدلين على جانبي خط المواجهة هو الطريق الأسلم للوصول إلى صيغة متفاوض عليها تضمن تحييد الدولة أو حياديتها العقائدية وتطمئن أصحاب العقائد المختلفة، بما فيهم الاسلاميون، على حريتهم في الدعوة لعقائدهم وتفسيراتهم ضمن حدود القانون وبالوسائل السلمية.

 

* ما هو التدبير الفكري الذي تراه مناسبا لعلاقة الدين والسياسة سواء من منطلق استلهامك للتجربة العربية الإسلامية,أو من خلال تقييمك للوضع العربي السياسي الراهن؟

* الواقع أن هناك تداخلات وتشابكات كثيرة تجعل أن اختلاط الدين في السياسة من الأمور الرائجة في البلاد العربية. ففي غياب البنية الوطنية السياسية القانونية للدولة وسيطرة السلطات العصبوية الطائفية أو الأقوامية وانتشار شبكات المصالح المافيوية والزبائنية يزداد الطلب الاجتماعي على الولاءات والانتماءات العصبوية الطائفية أو الأقوامية لضمان حد أدنى من التواصل والتكافل والحماية الذاتية في مواجهة سلطة عاتية لا تحترم قانونا ولا عرفا ولا قيما أخلاقية. وبالمثل، يزداد النزوع الطبيعي نحو تعبئة المشاعر الدينية كمصدر للهوية لدى المجتمعات العربية التي تواجه شبه عارية من السلاح بعد أن أخفقت في ثورتها التحديثية الضغوط الثقافية والسياسية والاستراتيجية الدولية. وفي هذه الحالة تنحو صور الدفاع عن الهوية الدينية والتمسك بقيمها إلى أن تشكل قاعدة المقاومة لهذه الضغوط وتعوض عن افتقار المجتمعات العربية إلى ثقافة وهوية سياسيتين من نمط الثقافة والهوية الوطنيتين.

ولهذا تشكل علمنة الممارسة السياسية على مستوى الدولة والمجتمع معا، أي بناء رؤية عقلانية للسياسة، تحديا كبيرا للمجتمعات العربية يستدعي بذل الكثير من الجهد النظري والعملي ولا يمكن تقليصه كما تميل بعض التيارات العلمانوية إلى مجرد إجراءات قانونية. إنه لا يتحقق إلا بقدر ما ننجح في إخراج المجتمعات العربية نفسها من الأزمة ووضعها على طريق الاندماج الفعال والايجابي والابداعي في حضارة عصرها. ولا يمكن أن تتقدم قضية "العلمانية" أي النظر إلى سلوك الفرد والتعامل معه من قبل الدولة والمجتمع معا من خلال أعماله وانعكاسها على المصالح العامة لا من حيث معتقداته الشخصية وقوة أو ضعف ايمانه وأصله الطائفي أو الأقوامي أو العائلي، بمعزل عن مسيرة التغيير العربية بأكملها. وهي جزء لا يتجزأ منها.