ًالقبليَّة والتطرف فزَّاعة القذافي للاستمرار في الحكم قهرا

2011-02-21 :: دوتشيه فيلي

منصف السليمي -  دوتشيه فيلي

 

 أثار التحذير الذي أطلقه سيف الإسلام نجم الزعيم الليبي بقيام حرب أهلية في ليبيا وتمزقها إلى إمارات، تساؤلات حول الصعوبات التي يمكن أن تواجه عملية إعادة بناء المؤسسات السياسية والدولة في ليبيا في مرحلة ما بعد حكم القذافي . 

يرى برهان غليون المفكر العربي وأستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون في باريس، أن نظام القذافي هو من خلق حالة الفوضى وأطلق فزَّاعتي الانقسام القبلي والتشدد الإسلامي، بهدف مواصلة سيطرته على الشعب الليبي وحكمه قهرا لمدة 42 عاما. وفي حوار مع دويشته فيله قال غليون، إن غياب أحزاب ومجتمع مدني في ليبيا، ربما يجعل مهمة الشعب الليبي صعبة قياسا لحالتي تونس ومصر ولكنه سيتمكن بفضل نخبه وقياداته من القيام بها، مشيرا إلى أن "إزاحة القذافي من الحكم ستكون أصعب من مبارك وبن علي". وفيما يلي نص الحوار مع الدكتور برهان غليون:

 

* هل تعتقد أن نظام الزعيم الليبي معمر القذافي يمكن إصلاحه من خلال ما طرحه نجله سيف الإسلام، بشأن إقامة جمهورية ثانية في ليبيا بدستور جديد؟

لا أعتقد أن ما ورد في خطاب سيف الإسلام يقنع الليبيين،خاصة أنه قدم هذه المقترحات كمنَة على الشعب الليبي، قائلا إنه مستعد في هذه الظروف للقيام بعمليات تغيير سياسي. والأسوأ أنه عرض أفكاره في سياق تهديد لليبيين بأنهم سيواجهون حربا أهلية، وبأن والده القذافي في طرابلس وهو يقود المواجهة ضد الانتفاضة. وقد قال سيف الإسلام بأنهم (أي هو ووالده) سيستمرون في المواجهة حتى آخر طلقة نار. وهذه مفارقة لأنه ليس هنالك زعيم سياسي في التاريخ، يهدد شعبه بالحرب والقتل إذا لم يقبل بالحوار والتصالح، بما أن الموضوع الأساسي هو إيجاد صيغة للتصالح مع الشعب من أجل وقف الاحتجاجات. اعتقد أن خطاب سيف الإسلام نموذج معبر بوضوح عن طبيعة النظام القائم في ليبيا، وهو في حقيقة الأمر ليس بنظام سياسي.

 

* ماذا تقصد بأنه ليس بنظام سياسي؟

* هنالك نظام في ليبيا ولكنه ليس بنظام سياسي ولا يمكن أن يُصلَح أو يُغيَّر، وهو في حقيقة الأمر نظام قائم على حكم عصابة لها موالون توزع عليهم المنافع، ولكن لا يتم الحكم استنادا إلى سياسة محددة. وما يصدر عنه يعتبر كلام مجرمين وليس سياسيين أو مسؤولين، فكيف يخاطبون شعبا بهذه الصيغة التي لا تحمل أي اعتبار أو احترام له. ولذلك اعتبر أن ما هو قائم في ليبيا ليس بنظام سياسي بل نظام سيطرة بالقوة على شعب من أجل السطو على موارده النفطية...

وإذا قارنا خطاب نظام القذافي بوعي الشعب الليبي وبدعوات شيوخ العشائر والقبائل الليبية للثورة على الطاغية، وبدعوتهم إلى إقامة نظام سياسي ديمقراطي، يتبين للمرء الفرق الكبير بين هذه الزمرة الحاكمة التي انخلعت عن شعبها ولم يعد لها أي مفهوم للسياسة، وبين الشعب الذي، وبالرغم من تركيبته القبلية، ما يزال يؤمن بالسياسة والمؤسسات والدولة وباحترام القانون، وبالتصالح والتفاهم بين أبناء مختلف طبقات وفئات المجتمع. ولذلك أرى بأن خطاب سيف الإسلام مهين للشعب الليبي.

 

* هل إن بنية المجتمع الليبي ذات الطابع القبلي وغياب مؤسسات الدولة بالمعنى الحديث، سيجعل مهمة بناء مؤسسات سياسية جديدة صعبة في مرحلة ما بعد نظام القذافي؟

* لا على الإطلاق، لأن القبائل العربية على مر التاريخ هي التي بنت الدولة والإمبراطورية الإسلامية. إن فكر القبيلة لا يعني بالضرورة العداء والتعارض مع الدولة. فالقبائل تتفاهم وتتعاقد على قيام الدولة، وكل الدول العربية بنيت على تفاهم بين النخب المدينية (نخب المدن) وزعماء القبائل، وحتى فترة قريبة كانت البرلمانات في الخمسينات تتكون من زعماء العشائر الذي يمثلون أهلهم، كسبيل لضمان الوحدة الوطنية.

ولكنني مبدئيا أعترض على هذه الصورة النمطية التي تقدم عن المجتمع الليبي بكونه مجتمعا قبليا، هنالك قبائل أجل، لكن هنالك أيضا مجتمع حضري (من المدن) متطور مثل غيره من شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن أن ننفيه، لأن القذافي نفاه (أي المجتمع المديني) وعرضه للتفكيك والقهر.

 

* وكيف يمكن مساهمة البنية القبلية في مؤسسات الدولة الحديثة؟

* اعتقد أن الليبيين قادرون بفضل نخبهم المدينية الواعية، وهي لا تقل وعيا عن نخب البلدان العربية الأخرى، وبفضل التعاون مع زعماء القبائل والعشائر، بأن يقودوا *ميعا حملة بناء مؤسسات الدولة، وفق معادلة تفاهم وتعاقد، يتم في إطارها تلبية مطالب العشائر والقبائل وهي تتلخص في تحقيق التنمية والعدالة وتوفير الخدمات ومرافق الصحة والتعليم ورفع مستوى معيشة أبناء القبائل، وهم لا يطالبون بتولي الحكم. وقد انتهى العصر القبلي، وما يتردد هو مجرد فزَّاعة تم تضخيمها من قبل حكم القذافي وجعلها كحاجز يغطي على الآخرين فهم ما يجري في المجتمع الليبي والتستر على الكارثة الاجتماعية التي ارتكبها في حق بلده. لأنه نظام أفرغ الدولة من كل مضمون.

 

* بعد أربعة عقود من حكم القذافي، يوجد فراغ سياسي في ليبيا وليس بها مجتمع مدني ولا أحزاب ولا نقابات، بخلاف تونس أو مصر التي لعبت فيها هذه المؤسسات دورا مهما بعد الثورة، الا تعتقد أن ليبيا ستواجه مرحلة صعبة بعد نظام القذافي؟

* اعتقد أن الصعوبات ستكون أكبر من حالتي مصر وتونس، ولاشك أن إسقاط القذافي سيكون مهمة أصعب من إسقاط مبارك وبن علي، لأننا لسنا أمام نظام يمتلك الحد الأدنى من مفهوم السياسة وقيم العصر. ولكن ليس هنالك ما يحول دون بروز مجتمع مدني في ليبيا ويلتحم فيما بينه ويتفق على إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية. واعتقد أن النظام التعددي البرلماني هو القادر على استيعاب هذه الحالات في المجتمعات التي لا تتوفر على مجتمع مدني قوي ومنظم بسبب تعاقب الحكومات المتسلطة. ومن شأن هذا النظام ( التعددي البرلماني) أن يسمح للشعب بإعادة ترتيب أوضاعه وتحقيق المصالحة بينه وبين السياسة وإعادة توزيع السلطات بشكل مرن وقابل للتطوير.

 

* هل يمكن مقارنة المرحلة التي يجتازها المجتمع الليبي بحالات أخرى في محيطه العربي أو الإفريقي، وهل هناك بدائل مساعدة، مثلا دور الجيش؟

* يمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى تجارب الدول الإفريقية التي تبنت النظام التعددي وهي أكثر قبلية من ليبيا وبعض الدول العربية. وفي مصر التي هي دولة عريقة تمتد إلى آلاف السنين، كان فيها مجتمع مدني ضعيف جدا، ومن تولي عملية إعادة بناء النظام هو الجيش. وفي ليبيا هناك جيش وهو يستطيع كمؤسسة أن يلعب دورا مع بقية أطراف المجتمع والقوى السياسية والقبلية، من أجل إعادة بناء الدولة. وهذه مهمة لن يجد الشعب صعوبة في تحقيقها طالما هو متماسك وموحد حول رفضه لحالة الفوضى التي كانت الهدف والشرط الأساسي من أجل استمرار حكم القذافي وعائلته. واعتقد أن الثورة القائمة في ليبيا هي ضد القذافي وضد الفوضى والتمزيق الذي خلقه في المجتمع.

 

* هنالك بعض المراقبين الذين يتخوفون من هيمنة التيارات الإسلامية وبعضها متشددة في ظل ضعف القوى السياسية الليبرالية والحداثية في البلاد؟

ليس هنالك شيء مضمون بشكل تام، فنحن بصدد تحول حقيقي وانقلاب بالمعنى السياسي والفكري. ولكن ما يبعث الأمل هو أن حركة الثورة الليبية ليست منفصلة عن سياق حركة الثورة العربية القائمة اليوم من أجل الديمقراطية، وهي جزء من عملية إعادة وضع ليبيا في سياق هذه الثورة كما حدث في سياقات تاريخية أخرى.

واعتقد أن سياق التحول الديمقراطي في المنطقة سيكون عنصر ضغط وتشجيع لليبيين بمختلف خلفياتهم القبلية والحضرية أو السياسية على أن يقتفوا اثر الشعوب العربية الأخرى ويتعاونوا معها ضمن هذه الحركة الديمقراطية الشاملة. وليس لدي تخوف من أن الإسلاميين سيتمكنون من الهيمنة على الوضع، لأن الرأي العام العربي يشعر أن من أنقذ أو من هو في طريق إنقاذ مصير الشعوب العربية هم ليسوا الأحزاب أو الجماعات الإسلامية وإنما هو الشعب. إنه الشعب الذي لم يكن منضويا في أطر تنظيمية هَبَّ من أعماقه في صحوة من أجل إنقاذ مستقبله والتحكم في مصيره. ولذلك لا أرى مجالا للخوف من أن تسيطر الجماعات الإسلامية المتطرفة على الأوضاع، بالرغم من أنه ستكون هنالك أحزاب تستلهم الإيديولوجية الإسلامية والدين، ولكن ليس إلى حد أن تكون عقبة أمام تشكُّل دولة تعددية حديثة في العالم العربي.

 

* ألا تعتقد أن ثروات ليبيا الهائلة واتساع رقعتها الجغرافية، يمكن أن تشكل تهديدا لأمنها، أو ربما تواجه وضعا مشابها لحالة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين؟

* عندما نقارن ليبيا بالعراق، يتعين أولا التأكيد على أن ما حدث في العراق لم يكن نتيجة قيام الشعب بثورة أدت إلى سقوط النظام وتسلم الشعب زمام الأمور بيده وإعادة بناء نظامه السياسي، وإنما قامت دولة عظمى بتحطيم النظام المركزي... أجل استبدادي، لكن اسقاطه لم يكن بسبب سياسة العراق الداخلية ومن أجل إقامة ديمقراطية فيه، بل بسبب سياسته الخارجية.

ولذلك فُرض على الشعب العراقي حكومة تحت نظام أُطلق عليها صفة الفيدرالية، وهي في حقيقة الأمر حكومة ضعيفة غير قادرة على التأثير في السياسات الإقليمية النفطية وأن لا تشكل تهديدا لإسرائيل. ولذلك لا يمكن إجراء مقارنة بين ما حدث في العراق وما يحدث الآن في العالم العربي.

وفي ليبيا الأمر مختلف كليا، وليس هنالك سبب ليعود الليبيون إلى مرحلة الإنقسام بسبب اتساع البلد جغرافيا. بطبيعة الحال فإن ضعف تعداد السكان (5 ملايين نسمة) في مساحة جغرافية فسيحة سيشكل صعوبة في التواصل، ولكن في ظل التكنولوجيا الحديثة وبما تمتلكه ليبيا من ثروة هائلة وفي ظل عدد سكانها المحدود، فإن ذلك يمنحها فرصة نادرة في بناء ديمقراطية جديدة مدعومة ببنيات تحتية ومشاريع وشبكات اتصالات ومواصلات عبر سكك الحديد. ويمكنها أن تحقق ثورة اقتصادية حقيقية خلال سنوات قليلة تُخرج الشعب الليبي من مآسي الماضي وانسداد الآفاق والمطبّات التي أدخله فيها حكم القذافي بهدف السيطرة عليه وإخضاعه إلى الأبد.

مراجعة: يوسف بوفيجلين