الواقع الفلسطيني في ضوء سيطرة حماس على غزة

2007-06-26 :: الراية القطرية

هادي يحمد 

 

*  ما هو تحليلكم للواقع الفلسطيني اليوم في ضوء سيطرة حماس على قطاع غزة و السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس على الضفة الغربية , هل نحن بصدد منعرج سيغير اولويات النضال الوطني الفلسطيني  ؟

*  نعم. لكن ليس في الاتجاه الذي كنا نتمناه ولكن في الاتجاه المعاكس. فمن الواضح أن تناقضا عميقا قد نشأ داخل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ التسعينات، ودفع إلى نشوء حركتين من توجهات وحساسيات ومناهج رؤية مختلفة تماما: فتح المرتبطة بايديولوجية الحركات الوطنية الحديثة من جهة وحماس ذات التوجه الاسلامي الواضح من الجهة الثانية. وبالرغم من الخلاف الشديد في أسلوب التفكير والاستراتيجية والهدف، أمكن حتى وقت قريب الحفاظ على حد أدنى من التعايش، إن لم نقل التواصل، بين ما أصبح يشكل جناحي الحركة الفلسطينية. وقد بدأ هذا التناقض يتفاقم شيئا فشيئا مع تنامي ميل فتح، التي سيطرت على مقاليد الأمور في إطار السلطة الفلسطينية، وصار للفئة القائدة فيها مصالح في الدفاع عن الوضع القائم، إلى الاعتدال ثم المساومة في علاقتها مع إسرائيل، وبشكل خاص مع البلدان الغربية التي تمول السلطة الوطنية من جهة، وتفاقم إحباط الشعب الفلسطيني التي أخذت حماس تعبر عنه، بسبب تراجع الوضع الفلسطيني وغياب الانجازات وانتشار  الفساد في أوساط الإدارة الفلسطينية من جهة ثانية. وقد دفع هذا التناقض المتنامي إلى المواجهة السياسية بين حماس وفتح. وفي سياق هذه المواجهة تخلت حماس عن موقفها التقليدي بالبقاء في موقع المعارضة ودخلت الانتخابات التشريعية لتظهر قوتها وتؤكد مواقفها. ومنذ ذلك الوقت أخذ النزاع بين الطرفين وجهة متصاعدة باضطراد، حتى وصلنا إلى قطيعة كاملة بينهما، قبل أن تتحول هذه القطيعة السياسية إلى قطيعة على الأرض، تتجسد في تكوين سلطتين مستقلتين بعضهما عن بعض، وقائمتين في قطعتين من الارض الفلسطينية. وينطوي هذا الوضع على انهيار خطير في مشروع السلطة الوطنية أو ما أطلقنا عليه سلطة وطنية فلسطينية، كما ينطوي على مشروع حرب أهلية مدمرة. ومنذ الآن يقوم كل فريق في منطقته باحتكار السلطة والقضاء على الفريق الآخر.

ما كان من الممكن لاسرائيل أن تحلم بوضع أفضل. فانفصال حماس عن السلطة الوطنية يمهد  لفرض الحصار عليها في غزة، ويجعل منها هدفا سهلا من الناحية السياسية لآلة الحرب الاسرائيلية، التي تستطيع منذ الآن، بذريعة القضاء على الارهاب، توجيه ضربات مستمرة واغتيال قيادات سياسية، بمأمن من أي نقد، وبإغماض عيون الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية نفسها في الضفة الغربية. ووضع حماس أمام خيار الحصار والموت سيدفع بشبابها حتما إلى المزيد من التطرف  والمغالاة. وفي المقابل سيدفع الدول المانحة وإسرائيل إلى احتواء فتح وسلطتها الوطنية في الضفة من أجل دفعها إلى الوقوف في وجه حماس وتأكيد تبعيتها المتزايدة للسياسة الامريكية الاسرائيلية. وهذا ما سوف يؤجل إذا لم تنجح دول الجامعة العربية في احتواء الموقف بسرعة، إلى أجل غير منظور مسألة ايجاد حل للقضية الفلسطينية، ويمكن اسرائيل من تحقيق أهدافها الاستيطانية والتهرب من من التزاماتها الدولية.

 

*  بعد استلاء حركة المقاومة الاسلامية حماس بالقوة المسلحة على قطاع غزة هل نحن بصدد تاكيد الصورة التي رسمت  على  كون الحركات الاسلامية بشكل عام همهما الاول الاستيلاء على السلطة مهما كانت خصوصياتها ؟

* لا أعتقد أن الاستيلاء على ا لسلطة كان هو الدافع الرئيسي لدخول حماس الانتخابات التشريعية، ولا لاستخدامها السلاح في قطاع غزة لتاكيد سيطرتها على القطاع. ليس هناك في نظري أي شك في أن حماس تضع القضية ا لوطنية الفلسطينية في بؤرة اهتمامها، وتتعامل مع قضية السلطة من هذا المنظور. وفي اعتقادي أن حماس وقعت في فخ نصبته لها الإدارة الأمريكية في إطار الحرب ضد ما تعتقد هذه الإدارة أنه امتدادات للقوة الايرانية والسورية الاقليمية، بهدف قطعها عن العالم ومحاصرتها وتشديد الخناق عليها.

 

* في خصوص الحركات الاسلامية بالذات هل نستطيع القول ان حماس وضعتها مجددا في مأزق جديد و خاصة امام المجتمع الغربي وهو ما يزيد من التخوفات  منها مهما كان اعتدالها ؟

 * نعم سوف يستخدم مثال حماس في الدعاية العالمية وحتى العربية للتدليل على أن الحركات الاسلامية لا تفكر إلا في السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب القضايا الوطنية الكبرى، وأنها حركات متطرفة وعنيفة، لا يؤمن جانبها، وليس هناك خيار آخر للتعامل معها سوى محاربتها. وهو ما يقود إلى تأكيد منطق الحرب ضد الارهاب الدولي الذي تعتمده الإدارة الامريكية في سياستها الدولية، وتجعل منه محور استراتيجيتها في الشرق الأوسط والعالم. لكن لم تكن هذه الإدارة بحاجة إلى ما حدث في غزة حتى تبرر مذهبها الاستراتيجي، فلديها أمثلة كثيرة أخرى تستطيع أن تستعين بها، في العراق وغيره، لتضفي الشرعية على سياستها الاستعمارية الجديدة.

بيد أن ذلك لا يعفينا نحن من مراجعة التجربة وأخذ العبر منها. وفي اعتقادي إن مشكلة الحركات الاسلامية الوطنية المماثلة لحماس وحزب الله، وهي حركات مقاومة شعبية، تختلف كثيرا في بنيتها وأساليب عملها واهدافها عن منظمات مثل القاعدة وفتح الاسلام وغيرها من الفرق ذات الطابع الارهابي،  لا تنبع من استخدامها السلاح ولا مشاركتها في السلطة أو سعيها إليها. فهذا ليس ممنوعا ولا محرما على الحركات الشعبية التي تواجه الاحتلال، مهما كانت العقيدة السياسية التي تحملها. إن مشكلتها تكمن في أنها لا تأخذ بما فيه الكفاية في الاعتبار أنه لم يعد هناك سياسة اليوم مستقلة كليا عن محيطها، وان السياسة ذاتها أصبحت مسألة إقليمية ودولية. فالسلطة الفلسطينية التي قامت بعد اتفاقات اوسلو ليست ثمرة قوة فلسطينية مستقلة، وإنما نتيجة تسوية متعددة الأطراف، دولية وعربية وفلسطينية، حصلت كحل وسط بين الحل النهائي للقضية الفلسطينية والاستمرار في الحرب الوطنية المفتوحة. وإذا أراد طرف، حتى لو كان ذا قاعدة شعبية عريضة، حرف هذه السلطة "الوطنية" عن مسارها أو استخدامها لغير الأغراض التي رسمت لها، فلن يتردد القائمون عليها من القضاء عليها أو القضاء على من يريد حرفها عن اهدافها.

 وينطبق هذا المبدأ المتعلق بطبيعة العملية السياسة، التي أصبحت عابرة أكثر فأكثر للحدود، على ما يتجاوز ذلك بكثير، أي على أي عمل سياسي. وهنا تكمن ازمة العمل الاسلامي في السياسة العربية والدولية. فبسبب إدانته المسبقة من قبل البيئة الدولية، حتى لو كانت هذه الإدانة على باطل، لا يستطيع هذا العمل أن يثمر مكاسب سياسية. بل إن نتائجه تزداد سلبية بقدر رفض القوى الدولية التعامل معه. هكذا كلما تعاظمت تضحيات الحركات الاسلامية كلما قلت قدرتها على انجاز مكاسب سياسية. وهنا تكمن المفارقة: تضحيات أكثر تساوي مكاسب أقل، وهو ما يعني أنه كلما زادت الحركات الاسلامية قوة كلما قل مردودها  السياسي. باختصار لا تسمح شروط البيئة السياسية والجيوسياسية الدولية اليوم بتنفيذ أي أجندة إسلامية سياسية كأجندة وطنية. وخطا حماس أنها أرادت، بالإضافة إلى ذلك، أن تعطي لنفسها أبعادا دولية فاتصلت بايران بعد أن كانت على علاقة قوية بسورية، فأثارت حفيظة جميع القوى التي تقف في الصف المقابل، بما فيها قوى أغلبية الدول العربية. وكان من الأفضل لها أن تبقى في الموقع الثاني، وأن لا تتصدر الحركة الوطنية، حتى تحمي نفسها، وتمكن قوى أخرى من قطف ثمار تضحيات الشعب الذي يعمل تحت رايتها. لكن هذا يتطلب حسا بالتفاني لا حدود له، وتجاوزا للإساءة والاستفزاز اليومي الموجه بالضرورة لها من قبل خصومها ومنافسيها معا.

 

* ما يحدث في الاراضي الفلسطينة المحتلة هل هو مواصلة للمواجهة بين المحور الايراني السوري الذي له انصار في الاراضي المحتلة امام ما يسمى بالمحور المعتدل الذي يتشكل اساسا من بعض الانظمة العربية المساندة للادارة الامريكية ؟

* في حزء منه بالطبع، كما ذكرت أعلاه. لكن ليس في مجمله. فالاستقطاب الإقليمي والدولي الذي حصل، ودفع حماس إلى التقرب من ايران وسورية، كما دفع فتح من التماهي مع ما يسمي بحكومات الاعتدال العربية، واكب التباعد المضطرد بين مواقف وتوجهات وأسلوب عمل قطبي الحركة الوطنية الفلسلطينية. كان الاستقطاب بهذا المعنى تتويجا للانقسام الوطني نفسه، وتبني استراتيجيتين متباينتين ومتعارضتين، الأولى تراهن على الضغوط العربية والدولية، وتتبى تكتيكات سياسية لفتح أفق التسوية الفلسطينية الاسرائيلية، والثانية تصر على متابعة الكفاح المسلح وتكثيف الضغوط العسكرية وتعميم ثقافة المقاومة والشهادة كوسيلة لتحرير جميع الأرض الفلسطينية وطرد المستعمرين اليهود منها. السؤال هل كان الطلاق بين الفريقين والاستراتيجيتين حتميا أم أنه كان من الممكن حصول تسويات مؤقتة أو مستمرة بينهما؟ في اعتقادي أن مثل هذه التسويات كانت ممكنة، وهو ما دل عليه تطور التصريحات المؤكدة على استعداد حماس للقبول بدولة فلسطينية في الضفة وغزة، وتجميدها للعمليات العسكرية واقتراحها مبدأ هدنة طويلة، إذا التزمت إسرائيل بذلك. وهو ما يبرهن عليه أيضا  تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. ونحن نعرف أن هذه التسويات لم تحظ بموافقة واشنطن ولا تل أبيب، وتمت إدانتها من قبلهما. فهي تجنب حماس العزلة والحصار والحرب التي تريد العاصمتان فرضها عليها. وهو ما سعت إليه وعملت على تحقيقه في النهاية من خلال استفزاز حركة حماس، وإدخالها في حرب داخلية، والضغط على الدول العربية التي رعت إنشاء حكومة الوحدة الوطنية على التخلي عن مساعيها، واتخاذ موقف إدانة رسمية وصريحة لحماس، وتأييد حكومة محمود عباس وحدها. لذلك لن يكون هناك اليوم مساع عربية لرأب الصدع، بل بالعكس رفع الغطاء عن حماس ومشاركة في تجريدها من شرعيتها لتبرير عزلها وضرب الحصار عليها.

 

* الى اين نحن نسير في الاراضي المحتلة ؟ هل يمكن ان نتحدث عن نهاية مشروع التحرر الوطني القلسطيني ؟

* عاش مشروع التحرر الوطني الفلسطيني والعربي معه في مأزق منذ عقود طويلة. بل إن وصوله إلى طريق مسدودة هو الذي يفسر الانقسام الذي حصل داخل صفوف الحركة الوطنية، والاستقطاب المتزايد فيه بين قوى تريد التعامل مع الواقع، بل الاستسلام له، من جهة، وقوى أخرى تريد الذهاب أبعد في التحدي والمواجهة وتلقين دروس في التضحية وقبول المخاطر. وهو ما أصبح مصدر مزاودة البعض في البرهان على الاستعداد للشهادة واستخدام العنف، والبعض الآخر في الذهاب حتى التفاهم والتعاون مع الأجنبي للحفاظ على المصالح البسيطة، المجسدة في الاستقرار الأدنى وتأمين شروط الحياة اليومية. وقد تجاوزنا اليوم، في فلسطين وغيرها من البلاد العربية نقطة الانقسام ووصلنا إلى القطيعة الناجزة ، بل إلى المواجهة الداخلية، التي تعبر عن نفسها أكثر فاكثر من خلال المواجهة الإقليمية بين دول الاعتدال المرتبطة بالكتلة الغربية ودول الممانعة والمقاومة والصمود الممثلة بايران وسورية والمنظمات المتحلقة حولهما.  وإذا استمر هذا الاتجاه فسوف تذوب المشاريع والصراعات الوطنية ومشاريع التحرير وتنحل في المواجهة الإقليمية وتنتهي معها.

لذلك لست متأكدا من أنه لا يزال من الممكن أن نستخدم مفاهيم عادية أو قياسية مثل مشاريع التحرر الوطني لوصف ما يجري في منطقة خرجت فيها استراتيجيات الدول والمنظمات عن أي قواعد مرعية، وأصبحت اللغة الوحيدة السائدة فيها هي لغة الهمجية والقتل والخراب أو التهديد بالخراب الشامل، وذلك بقدر ما تنزع القوى المتضاربة، الدولية والإقليمية، التي تعيش مأزق مشاريعها السلطوية، إلى استخدام جميع الوسائل، مهما كانت لا أخلاقية ولا إنسانية، لتحرير نفسها من القيد، أو للخروج من المطبات التي وقعت فيها، والحفاظ على رهاناتها ومصالحها. وهذا ما يعني أن المواجهة مستمرة، وأن شيئا لم يحسم ولن يحسم في المدى المنظور، طالما لم تدرك القوى الكبرى أنها لن تستطيع الحفاظ على مصالحها من دون اعتبار مصالح الأطراف الأضعف والتعاون معها على صيانتها وتعظيمها.