مقابلة مع مجلة الشراع: حوار في العمق مع برهان غليون

2020-06-27 :: الشراع

 الدكتور برهان غليون أول من نادى بالخيار الديمقراطي بديلا عن الاستبداد المغلف باليسار القومي – الاشتراكي ، وحذر من أزمة لا براء منها ولا حل لها سوى بالديمقراطية . مع ربيع دمشق عاد الى سورية في زيارات متتالية يبذر بذور التغيير والثورة ، ويدعو لإنقاذ سورية من أزماتها المستفحلة ، داعيا للتغيير السلمي بعد وفاة حافظ الأسد ، وواجه عنت السلطة ورفضها لما يطرحه . ومع اشتعال  ثورة 2011 الشعبية تقدم صفوف النخب السورية داعيا الى تحالف وطني واسع ليكون مظلة لثورة الشارع وحراك الشباب ، وأجمعت كل التيارات عليه ليكون أول رئيس لأول مؤسسة تمثل الثورة وتجمع كل أطياف المعارضة ( المجلس الوطني السوري ) ولكنه قبل أن يكمل العام استقال بعد أن تبين له أن المعارضة هزيلة وتفتقر للكفاءة والصدقية والاخلاص وتتلهى بالأشياء الصغيرة . وبعد عدة سنوات أصدر كتابه " المدوي " [ عطب الذات / وقائع ثورة لم تكتمل ] الذي شرح التجربة في بداياتها الأولى ، وبين أخطاء المعارضة بوضوح وشفافية وشجاعة ، ووجه انتقادات عديدة لغالبية قوى المعارضة، وحملها قسطا كبيرا من المسؤولية عن اخفاق التجربة على الصعيد السياسي . ورد الآخرون على الاتهامات الموجهة لهم بالرفض، ووجهوا اتهامات مضادة لمؤلفه.

الحوار التالي يدور حول ما ورد في الكتاب الكبير حجما ومادة ومحتوى وأهمية الذي ستصدر منه الطبعة الثالثة قريبا ، ويتوسع الحوار الى كل قضايا الثورة .

 

 هل قلت كل ما تريد وما يجب قوله في كتابك (عطب الذات)- ؟ 

 هيهات. ذكرت بالكاد ما لا يمكن تجاهله لفهم ماجرى لنا وبعض الأسباب التي بدت لي أساسية لفهم أخطائنا في تنظيم قوانا وانتزاع مكاسب سياسية كانت في متناول اليد لو احسنا اداءنا السياسي والاعلامي والعسكري. لكن هذا غيض من فيض مما ينبغي ان يتناوله الباحثون في المستقبل لتحليل تجربتنا الماضية والتعمق في وصف احداثها والكشف عن دروسها. وأنا أشبهه بإزالة بعض الأنقاض التي تقبع على صدورنا وتشل حركتنا. 

لا تزال امامنا في هذا المجال، وجيل الشباب الذي شهد الثورة بشكل خاص، مهام كثيرة ينبغي تحقيقها قبل ان نصل إلى الغاية النبيلة التي ضحى من اجلها ملايين السوريين، بعضهم بارواحهم وبعضهم بأرزاقهم وبعضهم بتشردهم وغربتهم وبؤسهم. والمقصود طبعا إعادة البناء للمجتمع والدولة والعقل والضمير والعمل والانتاج. وهذه مهام أصعب بكثير وينبغي ان نركز الآن عليها ولا نبقى غارقين في مناقشات عقيمة عمن هو السبب في الخراب والدمار والبحث في الانقاض عن شواهد وأدلة لإدانة هذا أو ذاك، بينما السبب واضح أمامنا كالشمس: نظام العبودية والقهر والاستئثار بالسلطة واستملاك الموارد ومنها البلاد نفسها ورهن مصيرها ومستقبل شعبها بمصالح دنيئة. لكن ما لم ننجح في معرفة لماذا استطاعت سلطة قهرية انقلابية غاشمة أن تتحكم بنا، أي بشعب غاية في النشاط والحركة والذكاء، خلال نصف قرن، وتقودنا إلى المذبحة، لن نتمكن من الخروج من الكارثة التي نعيشها، ولا من إقامة سلطة شرعية وبناء نظام اجتماعي جديد. 

 – ما ردك على اتهام البعض بأن غاية "الكتاب" تبرئة ذاتك من المسؤولية عن الفشل والانحراف الذي وقعت فيه المعارضة وتوزيعها على الآخرين ..؟

ما ينبغي ان نفهم من هذه الجملة هو العكس تماما، أي أن من يشرح للجمهور أسباب فشل المعارضة في قيادة الثورة يدين نفسه، أما من يصمت عما حصل فهو يثبت براءته، وليس بحاجة إلى تقديم اي كشف حساب ولا للقيام بأي مراجعة. وبالفعل هذا ما شهد عليه سلوك أكثر قادة المعارضة الذين فضلوا الصمت، ولم يشعروا بالحاجة لتقديم اي تفسير للجمهور يشرح ما حصل ورؤيتهم لأسباب الكارثة. 

لو كان ما يقوله هذا البعض صحيح  فالمدان الأول في هذه المسألة هو المعارضة والنشطاء الذين ولوا أمرهم لشخص لا يستحق من جهة وانتظروا صدور "كتاب عطب الذات" حتى يعلنوا لا مسؤوليتهم عما تسميه في سؤالك انحراف الثورة وفشلها من جهة ثانية. ولكان عليهم، اكثر من ذلك، أن يثبتوا انهم نجحوا في تصحيح مسار الثورة وتحقيق اهدافها بعد ثمانية سنوات من استقالة المتهم الاول في فشلها. أما فيما يتعلق بالتبرئة فأنا لم أدعي انني كنت سياسيا محنكا أو صاحب تجربة سياسية عتيقة حتى اسمح لنفسي بمحاسبة الآخرين أو اتهامهم، أو بنزع  الشرعية عن كلام احد وأقل من ذلك احتكار الحقيقة او ادعاء معرفتها. إنما أنا محلل سياسي لتجربة شاركت فيها، وأحاول ان أشرح للجمهور الذي أولاني ثقته دوافع اختياراتي ومواقفي، ورؤيتي للمصاعب التي واجهناها واقتراحاتي لتجاوز اخطائنا الماضية. لكن سؤالي: من هو هذا "العبقري" الذي بدل الاعتذار عن أخطائه بكلمات معدودة، ينفق أربع سنوات من العمل المضني في البحث والتنقيب ومراجعة الوقائع والتدقيق في التواريخ، لتحرير كتاب بأكثر من 500 صفحة لينفي عن نفسه تهمة لم يوجهها إليه احد؟ 

لا يمكن لمثل هذه الاتهامات الرخيصة بالفعل ان تعفي من يريدون خدمة الثورة والشعب السوري من مهمة المراجعة الموضوعية الصعبة والشاقة، والبحث في الظروف والاشكالات والتحديات التي واجهتنا، والتمييز بين العوامل الذاتية والموضوعية والفردية والجماعية. فليبادر من لديه رد أو نقد يستحق النقاش إلى عرضه على الجمهور، وننتهي من هذا الموضوع الشخصي لنناقش القضايا المهمة والمركزية؟  

 وبالمناسبة لقد أهديت، أنا نفسي، نسخا عديدة من الكتاب لأصدقاء كثر، بمن فيهم أشخاص شاركوا في قيادة المجلس الوطني، وطلبت منهم إرسال ملاحظاتهم لتصويب ما يمكن ان يكون بدر مني من نسيان أو خطأ في سرد الوقائع وتحليل الأحداث. وقد ارسل لي البعض ملاحظاتهم التي سأستفيد منها في الطبعة القادمة. فمن دون تبادل الآراء، والنقد والرد على النقد، لا يمكن ان نتقدم لا في الفكر ولا في السياسة. أما ال"نق" والنميمة فلا يقودان إلا إلى المزيد من النق والنميمة.

للأسف، كثير مما تنتجه بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة من خطابات وتعليقات يعكس الخوف من تحمل مسؤولية ما حدث، والتهرب من مواجهة الواقع المؤلم بل الفاجع. لكن هذا دليل ضعف. وأخشى ان نقرأ بعد وقت بدل المراجعة اتهاما للشعب بالمسؤولية عن الكارثة، بذريعة التخلف أو التدين والتعصب القومي والقبلي والطائفي، بدل التركيز الذي كان سائدا في البداية، عن حق، على بسالة ابنائه وبطولاتهم. عندئذ سنكون شركاء مع حفاري القبور لدفن روح الثورة الشعبية والقضاء على صدقيتها وشرعيتها وصدق الحديث عن ثورة كرامة وحرية.  

يعكس اللجوء إلى منطق الاتهامات السائد، من دون قرائن ولا أدلة ولا وقائع، الدرجة العالية من الاحتقان والغيظ والاحباط الذي يزعزع ضمير بعض أفراد النخبة الأكثر هشاشة. لكن لا يفيد هذا المنطق في شيء. إنه يشبه تخبط الغريق الواقع في رمال متحركة. وهو أسوأ مرشد للعمل. فبدل التحلي برباطة الجأش والتصميم على التأمل والمراجعة العقلانية لإصلاح الحال يدفع هذا المنطق إلى البحث عن كبش محرقة نرمي عليه جميع الأخطاء والإخفاقات لنحرر ضميرنا من اي شعور بالذنب، ولتعود الأمور إلى سابق عهدها. في هذاه الحالة من الطبيعي ان يتحول النقد الى اتهام، ولا تحدث اي مراجعة للذات، ولا يحصل اي تغيير في الوعي أو في الممارسة، وبالطبع أي تغيير في الواقع المادي أيضا. ومن ينظر إلينا من الخارج يرى اننا ما نزال في المكان نفسه منذ قيام الثورة الى اليوم. لم نصحح اي خطإ قمنا به، بالعكس زادت اخطاؤنا وتراكمت حتى لم نعد نتعرف على نفسنا. 

 

- من هي إذن هذه الذات التي وصفتها بالعطب في الكتاب وما ذا أردت تحقيقه من هذا الكتاب وأين يكمن العطب الرئيسي في نظرك؟

ليس المقصود بكلمة ذات، التي اثارت بعض اللبس، ذاتك او ذاتي او ذات اي فرد، إنما نقول للتبسيط "الذات الوطنية"، التي تشير إلى استعدادات شعب للتصرف كذات واعية ومريدة وموحدة، أو إذا شئت ما يجعل من جمهور مشتت قوة تملك الوعي والإرادة والشعور بوحدة مصيرها ومستقبلها المشترك، ويحول ملايين الأفراد من حشد لا معنى له إلى أمة، أي إلى فاعل "تاريخي" يعمل مع أمم أخرى على مسرح الأحداث، ويحقق ما لا قدرة لفرد، أو أفراد، أو أحزاب او جمعيات، مهما عظم شأنها، أو شأنهم، على تحقيقه: بناء الدول وتغيير النظم وانجاز التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والعلمية. وفي الرد بنجاح على هذه المهمة: مهمة جعل المتعدد واحد، التي عبر عنها الجمهور الثائر بشعار : واحد واحد واحد، ثلاثا، في بداية الثورة، تكمن عبقرية النخب وتبرز أيضا جدارة كل واحدة من الأمم واتساق عملها وفعلها. وبالعكس في إخفاق النخب في الاستجابة الصحيحة تجاه هذه المهمة التأسيسية للذات الجمعية تبرز درجة ضعفها وهزال تفكيرها وتنظيمها ووعيها. 

لذلك لم تكن الغاية من الكتاب حتى نقد المعارضة، فهي نفسها ضحية تغول عقود من قبل نظام الاستبداد والعسف والعنف، ولا يحتاج تبيان نقاط ضعفها الكثيرة إلى كل هذا الجهد، والعطب الذي نشكو منها يتجاوز المعارضة افراد وجماعة، كما يتجاوز كل فرد منا. أما العطب فيتعلق في نظري بضياع الثقة الاجتماعية والوطنية والانسانية التي لا غنى عنها لتحويل المجتمعات من رميم سياسي الى ذات جماعية فاعلة. لذلك لم يركز نقد الذات على المعارضة السياسية بالمعنى الضيق للكلمة، وإنما على جميع أعضاء النخبة السورية، موالاة ومعارضة، ثوار ونشطاء وفصائل عسكرية ورجال اعمال ورجال دين ومثقفين ومنشقين، أي على عجزنا كشعب، بصرف النظر عن شخصياتنا ومهننا، عن العمل المتسق، على قلب رجل واحد، وتنظيم صفوفنا وتوحيد جهودنا، لتحقيق الاهداف التي كنا مجمعين عليها. 

 فغاية الكتاب هي تحليل أسباب الكارثة التي وصلنا إليها، وفهم دورنا فيها ومسؤوليتنا الجماعية عنها. وربط هذا التحليل، الذي هو نوع من نقد الذات أو محاسبة النفس، بنقد الخيارات السياسية والخطط والاستراتيجيات، أي بنقد ممارستنا الجماعية، كما تجلت خلال الثورة. وهذا من خلال قراءة تنصف الثورة وتبين الظروف التي أدت إلى "انحراف"ها، هنا وهناك، وتغير خططها وردود افعالها ووسائلها، وذلك في احد منعطفاتها الأكثر حساسية وخطرا، وفي مواجهة رواية خصومها الكثر، ومشوهي صورتها، وناكري قضيتها العادلة. وليس لهذا النقد الذاتي السياسي علاقة بالتشهير او الكشف عن العيوب والنقائص الفردية أو التاريخية، وإنما يستند إلى السعي لفهم الواقع كما هو، وتبيان الصحيح من الخاطيء في خياراتنا، وأحكامنا ومواقفنا. وهذا هو معنى القراءة النقدية للثورة. ومن ضمن هذه القراءة، وفي هذا السياق، جاء تحليل سلوك بعض القادة الذين لعبوا أدوار رئيسية في توجيه دفة الممارسة والتنظيم والتخطيط. 

فالنخب هي التي تتحكم بموارد المجتمعات البشرية والمادية وتخطط لمستقبلها وتتحكم بتوظيفها واستثمارها. ومنها تولد القيادة التي تصوغ الرؤى والغايات والخطط للجماعة المتفاعلة معها وعلى قدر هذا التفاعل. وفي هذا الميدان تتفاضل النخب وتتمايز. فليس لمن يمارس القيادة من منطق النخبة/العلقة التي تعيش على مص دماء جمهورها وإضعافه حتى الموت أو التشكيك بقدراته وأهليته، الصفات ذاتها التي تميز النخبة/الاجتماعية التي تدرب شعوبها وتهيئها لتحقيق الانجازات الكبرى، كما يهيئ السائس فرسه لنيل المركز الأول في السباق. وهنا بالضبط ينبغي البحث عن عطب الذات الجمعية او صلاحها.

ودعني استغل هذه المناسبة لأذكر من لم يتسن له حتى الآن رؤية الكتاب، بمادته ومسائله الرئيسية التي ليس لهذا الاتهام غير البريء هدف سوى إخفائها وصد الجمهور عن اكتشاف نقائص النخبة واخطائها، والتي لا مهرب لنا من مراجعتها والنقاش فيها اذا اردنا الخروج من الكارثة. المسألة الأولى  هي المسألة التنظيمية التي لا نزال نعاني منها حتى اليوم، وهذه كانت مهمة المجلس الوطني الذي حاول جمع قوى المعارضة الحزبية والنشطاء وتوحيدها، والذي كان فشلنا في الحفاظ عليه يعني تشتت قوانا وخسارتنا معركة ايجاد قيادة سياسية للثورة. والثانية مسألة الاستراتيجية التي تخبطنا فيها وراهنا لفترة  على التدخل الدولي، وتنازعنا حول طلبه او عدم طلبه بعد انتقال النظام إلى خيار الحرب الشاملة. والثالثة مسألة الانتقال من السلمية إلى الثورة المسلحة، وكيف جرى التسلح، والمشاكل التي رافقته، وفوضى السلاح التي ولدت من عجزنا عن توحيد الفصائل وإخضاعها للقيادة السياسية، بل لقيادة عسكرية موحدة. والرابعة مسألة صعود الايديولوجيات الاسلاموية على مختلف اشكالها إلى واجهة الثورة الفكرية والاعلامية، مع تزايد الشعارات والتسميات الدينية، وانحسار الشعارات والهتافات الديمقراطية التي سيطرت على المرحلة الأولى، وما نجم عن ذلك من انقلاب الموقف الدولي على الثورة والنظر إليها كحرب اهلية طائفية او مذهبية لا تستحق تضامن المجتمع الدولي معها ولا دعمها. والخامسة ادارة العلاقات الخارجية، العربية والاقليمية والدولية، وكيف أدى تشتتنا ونزاعاتنا الداخلية إلى خسارتنا رصيدنا السياسي وانحسار التعاطف الدولي عن قضيتنا. والسادسة كيف نفهم اسباب تشتتنا وانقساماتنا وما اظهرناه من عجز عن العمل المتسق والمتناغم مقابل الميل الواسع للانفراد بالقيادة والفصائلية والشللية والمحاصصة وغيرها من النقائص التي اعتورت ممارستنا الجماعية. باختصار إن ما سعى إليه الكتاب هو البحث في دينامية العوامل الذاتية والموضوعية وتفاعلاتها التي أدت إلى ما سميته الكارثة. ولذلك قلت في مناسبات عديدة وفي الكتاب أيضا ان موضوع الكتاب الرئيسي هو الكارثة السورية وليس الثورة التي تستحق كتابا آخر يليق بما قدمه السوريون من تضحيات اسطورية.

- لماذا فشل المجلس الوطني وانت كنت من المبادرين لإنشائه؟ ألم يكن هناك امكانية لإنشاء مجلس أفضل وأكثر تماسكا؟

أنت لا تملك دائما الخيارات الكثيرة وعليك ان تتعامل مع واقع ما هو موجود. لا يمكن ان تلغي المعارضة القائمة وتأتي بمعارضة جديدة حسب الطلب. كان المجلس الوطني في نظري في تلك اللحظة المحاولة الانقاذية الأخيرة الممكنة للمعارضة من سقوطها الكامل وفقدانها رصيدها وسمعتها ووجودها. وكنا بحاجة إليها لسد الفراغ السياسي الذي احدثه تحطيم النظام للنخبة الشبابية المبادرة وايداعها السجون وقتل العناصر النشيطة منها، وقطع رأس الثورة بعد أشهر قليلة من انطلاقها. وكان هذا شرطا لا مهرب منه لكسب معركة التعاطف الدولي والتأييد العالمي بعد سبعة اشهر من فشل احزاب المعارضة ومثقفيها المزري في التوصل إلى إتفاق من اي نوع، في الداخل وفي الخارج على حد سواء، وتعاقب تنظيم المؤتمرات الفاشلة. 

وكان قبولي المشاركة استجابة لمهمة أصبحت أخلاقية اكثر منها سياسية لان تنفيذها صار شرط الرد على تحد سياسي وتاريخي كبير، هي جمع قوى الثورة والمعارضة، الذي لم أكف عن الدعوة له منذ بداية الاحتجاجات. لم أكن أفكر لحظة بمجلس ولا بأن عبء رئاسته سوف يقع على كاهلي، ولا كنت في مشاركتي مع المعارضة نقاشاتها ومبادراتها طامحا بمنصب ولا جاريا وراء سمعة أو جاه. ولا اعتقد ان مشاركتي في تشكيله كانت خطأ بأي وصف. بالعكس تماما. كنت الشخص الوحيد الذي يعمل من خارج تنظيمات المعارضة ومعها جميعا، في الوقت نفسه. ولهذا نظر إلي الآخرون بوصفي شخصية توافقيه تحظى بثقة الاطراف وتطمئنها. وقد قبلت أن أضع رصيدي وسمعتى الشخصية وتاريخي بأكمله على المحك وأقبل الرهان، وما كان بإمكاني ان ارفض المهمة واتخلى عن واجبي في المعركة التي رأيتها مصيرية، كانت ولا تزال. وقد أظهر نجاح المجلس عند انطلاقته صحة هذا الرهان. 

لقد مثل المجلس الوطني المبادرة الاولى التي مكنت المعارضات المشتتة، القديمة والجديدة، من تجاوز انقساماتها ونزاعاتها المستديمة، والتحول الى فاعل على الساحة العربية والدولية والسورية. وهو أول محاولة جدية لتشكيل قيادة سياسية مثلت مختلف فصائل الثورة والتنسيقيات واحزاب المعارضة، ونالت ثقة جمهور الثورة، ونجحت في التواصل مع الدبلوماسية الدولية من مستوى رفيع، وفي انتزاع الاعتراف بشرعية الثورة والمعارضة والتعامل معها كطرف ومحاور جدي يستحق الثقة والاحترام. وجميع من شارك في قيادته في هذه الحقبة يعرف ذلك. ولولا نجاحه في الأشهر الأولى ما كانت المعارضة قد اقلعت من أرضها أبدا، بعد سبعة أشهر من الكفاح المضني والدامي. 

من الممكن جدا انني لم انجح في استيعاب التناقضات التي كانت تنخر المجلس، ولا التوفيق بين طموحات قاعدته، من جمهور الثورة الواسع، وامكانياته الضعيفة، البشرية والمادية. ولم تكن لديه في الواقع اية امكانيات مادية حتى الشهر السادس من تشكيله. ومن الممكن انني كنت متفردا ببعض القرارات، او لم احسن التشاور مع من كان يعتقد أنه القيادة الخلفية الحقيقية، أو مع من لم ينزع خنجره لحظة من ظهري من أعضاء مكتبه التنفيذي، وأنني ترددت في الكثير من الأحيان في وضع استقالتي على الطاولة حرصا على عدم تهديم الهيكل وإضاعة فرص محتملة لتحقيق مكتسبات سياسية للشعب المغدور به. لكنني حالما أدركت أنه سائر إلى حتفه بسبب التناقضات التي أصر بعض ضباعه على تفجيرها،  قدمت استقالتي بعد يومين من انتخابي لثلاثة أشهر جديدة. ومع ذلك كان المجلس عندما تركته في أوج صعوده السياسي، وفي الشهر الذي بدات المساعدات المادية تنصب عليه، والدول تتعامل معه كممثل للشعب الثائر، مقابل نظام يفقد الأرض من تحت أقدامه بالمعنى الحقيقي وليس المجازي للكلمة.

بالمقابل جاء الفشل والانحراف من غياب الرؤية وخطة العمل والشعور بالمسؤولية، ومن "عودة حليمة إلى عادتها القديمة"، واستعادة المعارضة نزاعاتها الشخصوية والايديولوجية السقيمة، ومناوراتها ومؤامراتها وتناحرها على المناصب، لاسباب شخصية او ايديولوجية لايهم، وتحويل المجلس من إطار وطني مفتوح لتنسيق جهود الشعب والمعارضة إلى ناد خاص بأعضائه المخلدين والمؤبدين، وإعمال سيف الاقصاء والاستبعاد والتلاعب والفهلوية باسم الحفاظ على المواقف الوطنية الجذرية اللفظية.  وهكذا لم تمر اشهر معدودة حتى فقد المجلس رصيده المعنوي والسياسي وقضى على صدقيته، وانعزل عن المعارضة والشعب والعالم، واضطر مرغما، قبل نهاية عامه الأول، إلى ان يدخل طرفا في ائتلاف لم تكن حظوظه في العمل الجبهوي افضل من سابقه. 

كما ذكرت، لا شيء أهم عندنا اليوم من النقد والمراجعة لمعرفة أخطائنا وإصلاح مسارنا الجمعي. لكن يحتاج النقد الذي يهدف إلى إصلاح الحال واستعادة صدقية الثورة والمعارضة، أو انقاذ ارثها ورسالتها وصورتها على الأقل، إلى نظرة عقلانية صادقة ومنزهة عن الغرض، اي موضوعية، بعيدة عن الاتهامات التعسفية والتعميمات العشوائية والمبالغات وخلط الواقع بالأهواء والمشاعر السلبية البغيضة من الحسد والغيرة والغل والانتقام. فمن المؤكد أننا لن نخرج من الفشل أبدا إذا بقينا نخلط بين الإخفاق والنجاح، ونمزج بين مشاعرنا الشخصية والوقائع المادية، أو لا نميز واحدهما عن الآخر.

 

 – هناك ما يشبه فرض حصار أو احتواء على كتابك .. فما رأيك بردود أفعال أطراف وشخصيات المعارضة على كتابك ؟

 في اعتقادي، أن كلمة حصار للكتاب كبيرة جدا على تبرم عدد قليل من الأشخاص، وربما احتجاجهم على الصورة غير الصادقة التي اعتقدوا ان الكتاب يمكن ان يروجها عنهم. والحال إنني بمقدار ما لعب الكتاب دور مرآة تعكس او تحاول ان تعكس بصدق، الصورة الملحمية لكفاح شعب رمى بنفسه قاتلا او مقتولا في المعركة القاسية لانتزاع حرية مجبولة بالدم أمام وحش سلطة بهيمية، أبرز في الوقت ذاته الصورة القبيحة لبعض أخلاقياتنا وفوضى سلوكنا وسوء تعاملنا فيما بيننا وتنازعنا المضحك على مناصب وهمية.  كثير من  أصدقائنا من المثقفين والسياسيين المحترفين، الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم كعمالقة، فوجئوا بالصورة التي ظهرت في هذه المرآة وأرادوا بكل بساطة كسرها على سبيل انكارها واستنكارها.  لكن ما كان ينبغي أن يحصل قد حصل. وإدراك هؤلاء بأنهم ليسوا عمالقة سوف يحررهم من الكثير من الاوهام حول انفسهم ويحرر الجيل الجديد ايضا من الشباب السوري من الخوف من تجاوزهم. هذا هو الدور المحرر للمرآة. فلا توجد وسيلة أفضل لاكتشاف عيوبنا وتغيير سلوكنا من رؤيتنا بأم أعيننا قبح أفعالنا. 

لكن هذا لم يؤثر على انتشار الكتاب وربما شجع عليه. فنحن على أبواب الاعداد للطبعة الثالثة بعد أكثر قليلا من سنة على صدور طبعته الأولى، بالاضافة الى النسخ المحملة  مجانا في الانترنيت. ونحن نتحدث عن كتاب تعرض منذ البداية الى حملة تشويش واسعة من قبل أولئك الذين أرادوا طمس الهوية الحقيقية للثورة الشعبية السلمية، لابراز سردية الارهاب والطائفية والفصائل الجهادية والداعشية. 

لكن ما يؤسف له ان المعارضة السياسية حرمت نفسها من فرصة ثمينة لإطلاق مناقشة جدية وموضوعية للمسائل الرئيسية والخيارات السياسية الكبرى التي واجهتها الثورة واختلفت من حولها وجادل فيها الكتاب. وفضلت أن تركز على الأمور الشخصية، وتبحث عنها وفيها، سواء تلك التي ارتبطت بدور أفرادها أو بدور الكاتب نفسه، وهي إن فسرت كذلك لا تغطي عشرة بالمئة من صفحات الكتاب. وكما ذكرت نحن نخب تحب النميمة وتعيش على النميمة، ولا تفكر إلا من خلال الأشخاص ونقائصهم أو محاسنهم، على مبدأ المدح أو الهجاء، ولا يثيرها كثيرا التفكير بالقضايا السياسية والاستراتيجية. والحال لا قيمة لنقد المواقف الشخصية إلا بوصفه جزء من مراجعة تجربة جماعية لعب فيها افراد ادوار، لكن هذه الأدوار ليست هي نفسها مفصولة عن الديناميكيات التي حكمت تطور الاحداث وصنع الوقائع، والتي تتجاوز بكثير الافراد مهما كانوا، ومهما كانت مواقعهم وأدوارهم. لذلك وحدها الشخصيات القيادية حظيت بهذا النقد.

 

 - وجهت نقدا قاسيا للمثقفين وعبرت عن خيبة أملك بهم، بعد أن أثنيت على دورهم في ربيع دمشق وما قبله. ما حكمك النهائي على دورهم بعد الثورة ؟ 

أنا أرى أنه في حالات تشبه حالتنا السورية، حيث لا توجد طبقات اجتماعية راسخة وثابتة وإنما تحتل مواقع السلطة طبقة لقيطة مشوهة أقرب إلى أن تكون عصابات ثعالب وضباع تنهش بالمجتمع وببعضها منها إلى الطبقة السياسية أو الاجتماعية التي تدافع عن رؤية ومصالح مشتركة، ومن خلالها عن مصالح استقرار المجتمع والنظام العام، وحيث يسود حكم القوة والقهر والعسف الشامل، لا يبقى هناك ملجأ للسياسة، أي للتفكير والعمل من أجل المصالح العمومية، سوى النخبة المثقفة. فهي الفئة التي تتمتع  أكثر من غيرها بشروط تسمح لها ببلورة وعي، تاريخي أو نظري أو أخلاقي، يتيح لها ان ترتفع أكثر فوق المصالح الشخصية والفئوية، وتتفاعل مع المصالح الكلية للمجتمع، أي أن تقارب القضية  السياسية من النواحي المبدئية. 

من هنا يقع على هذه النخبة، التي اطلق عليها الباحثون منذ أكثر من قرن اسم الانتلجنسيا، العبء الأكبر في قيادة الحركة الاجتماعية للتغيير في اللحظات التاريخية الحرجة، كما هو الحال في الثورات الكبرى. لكن كما ذكرت في الكتاب، هذه المعجزة لم تحصل عندنا للأسف. وقد حاولت في الفصل المتعلق بها أن أفهم أو اشرح لنفسي اولا ثم للقاريء لماذا لم تكن الانتلجنسيا السورية على مستوى التوقعات، وبقيت مترددة أو منعزلة أو خائفة من التقدم إلى موقع القيادة كما هو منتظر منها، وكما كان تشكيل المجلس الوطني في نظري يطمح إليه ويأمل فيه. وهذا بالضبط ما لم يعجب النخبة في كتابي وسبب غضبها عليه.

 - هل جرت بينك وبين النظام أو مواليه وحواضنه وأجهزته أي اتصالات أو محاولات اتصال من جانبه خلال رئاستك للمجلس الوطني أو بعد استقالتك ؟

لا شيء عدا الاتهامات والشتائم وحملات التشويه والتحريض من طرف أجهزته وحلفائه طبعا.

 – هل تشعر بالندم على تجربتك في رئاسة المجلس الوطني والعمل مع هكذا معارضة ؟ .. وهل أنت مستعد لتكرارها ؟!

لم أشعر أي لحظة بأن قبولي قيادة المجلس الوطني قد ابعدتني عن موقعي الفكري او الاكاديمي وعن اهتماماتي الطبيعية. بالعكس لقد قربتني مما كنت ارى فيه دائما رسالة المثقف في مثل مجتمعاتنا كما ذكرت للتو. ولا تختلف في جوهرها عن تجربة ارتماء ملايين السوريين، الذين لم يعرفوا السياسة في اي يوم، ولم يطمحوا إلى احتلال اي منصب أو الانتماء لأي حزب، في الشوارع والساحات العامة لإطلاق صرخة الخلاص : الموت ولا المذلة. 

وبالمثل، لم أشعر لحظة واحدة أنني أعمل مع المعارضة أو لها، ولم أكن جاهلا بأحوالها أبدا. وإنما سعيت إلى جرها إلى الموقع الذي كان عليها ان تحتله منذ الايام الأولى للثورة الشعبية، أي في الصفوف الأمامية لمعركة الكرامة والحرية، لأننا لم نكن نملك خيار آخر. ولذلك لم أكن أسمع، حقيقة، لا ما كان يكيله لنا النظام من تهم وافتراءات، ولا ماكانت تتبادله شخصيات المعارضة من ضربات لم تكن أقل ايذاء من ضربات النظام، ولا شكاواها المتواصلة ومؤامراتها الصغيرة الدائمة. وقد اكتشفت غيابها في اول ايام حضورها. لكن لم يكن هذا كافيا لاحباطي أو دفعي للتردد أبدا. كنت أقول لنفسي ليس هناك حل سوى ان نجعل لها رجلين من قصب، وقد قبلت أن أكون ذاك القصب، حتى نقضي مهمة تاريخية لا مهرب منها. فما كانت الثورة بحاجة إليه، بأي ثمن، هو واجهة سياسية نعمل من ورائها لكسب الرأي العام الدولي وعزل النظام. ووجود الأحزاب التاريخية فيها كان ورقة مهمة وضرورية. 

لست نادما أبدا على أي لحظة قضيتها في هذه التجربة الفذة، بالرغم مما شاب العلاقات الشخصية فيها من حساسيات واحيانا من تهجمات وإساءات. لقد كان انخراطي في الثورة وعملي في المجلس الوطني لانتزاع الاعتراف العالمي بحقها في الانتصار وحق السوريين في حياة حرة وكريمة، معركة استثنائية ملهمة ومحفزة كما لا يمكن ان تكون اي تجربة أخرى، وقد خضتها بكل ما لدي من حماسة واستثمرت فيها كل ما أملكه من خبرة ومعرفة وأحاسيس ومشاعر وافكار. ولم اقدم استقالتي الا عندما ادركت ان المعارضة نجحت في ضرب ثقة النشطاء برئاستي، وأصبحت من دون رصيد اواجه به المعارضة والنظام. 

 – هل يصلح المثقف لقيادة السياسيين في مجتمع وبلد كمجتمعنا وبلدنا ..؟ 

بعض المثقفين من أصدقائي انتقدوني لأنني غامرت بسمعتي الفكرية وفقدت الكثير منها بسبب "توريط" نفسي بنظرهم في لعبة السياسة الوسخة، وكنت في غنى كامل عنها. وكانوا ينتظرون مني أن أقول ذلك واردده كي يتحققوا انهم، هم أنفسهم، كانوا على حق عندما بقوا خارج هذه "اللعبة الوسخة". والمسألة في هذا الموضوع مسألة اختيار شخصي، ولا يملك احد أن يجادل في خيار أحد. لكن رأيي أنني ما كان بإمكاني ان أنظر الى وجهي في المرآة لو أنني رفضت القبول بقيادة المجلس الوطني والمعارضة عندما طلب ذلك مني، ثم حصل ما حصل. ففي المنعطفات الحاسمة في تاريخ الشعوب، والثورة كانت واحدة منها بالتأكيد، تسقط الألقاب والصفات والمراتب والتصنيفات، ولا يبقى هناك معيار سوى التعاون والعمل الجماعي وفي المكان المطلوب منك لتحقيق الهدف الأسمى. وغياب مثل هذا التفكير هو الذي أفشل المعارضة وحرمها من أن تتوصل إلى أي اتفاق خلال سبعة أشهر كاملة قبل تشكيل المجلس الوطني، كما حرمها من التفاهم على أي إطار مشترك للعمل بعد تقويضه بخلافاتها، وقادها إلى التسليم للدول العربية بتنظيم مؤتمراتها ولجانها. 

على جميع الأحوال، وكما اثبتت الوقائع، المشكلة لم تكن في المثقف وإنما في السياسيين الذين عجزوا اكثر من المثقفين عن لعب دورهم، بل عن التفاهم فيما بينهم لتشكيل جبهة واحدة، وإلى اليوم، في مواجهة الطغيان والحرب، في لحظة وضعت الثورة فيها الشعب كله تقريبا بين ايديهم وتحت تصرفهم لقيادته. إذا كان المثقفون قد بينوا هشاشة مواقفهم وعجزهم عن تكوين فاعل اجتماعي او سياسي متماسك في وقت الأزمات والتحولات الكبرى، لاختلاف حساسياتهم الشخصية وتورم ذاتيتهم، ربما، والخصام المزمن السائد بين صفوفهم، فقد أثبت السياسيون افتقارهم لأي بنية متماسكة، أو رؤية واضحة، أو شعور بالمسؤولية، يمكنهم من العمل المتسق والتعاون والتفاهم لانتزاع انتصار سياسي مدو كان في متناول اليد. 

أما إذا كان المقصود من السؤال معرفة فيما إذا كان المثقف يصلح للعمل السياسي فالجواب أن العمل السياسي ليس حرفة خاصة بارستقراطية سياسية ترثه أبا عن جد، وأنما هي في عصرنا مجال مفتوح للمثقف وغير المثقف والعامل والموظف والمزارع والحرفي، جميعهم لهم الحق ولديهم الأهلية إذا اشتغلوا على أنفسهم ان يمارسوا السياسة، وهم اصلا يمارسونها كمواطنين في الدول الديمقراطية، وهذا واجبهم أيضا وليس حقهم فحسب. ولا يمكن للسياسة التي تعنى بتنظيم شؤون المجتمعات والدفاع عن مصالحها العامة أن تكون حكرا على متوسطي الذكاء الذين فشلوا في دراساتهم، كما هو الحال في العديد من بلداننا، أو على العسكريين ورجال الأمن وعلى الشبيحة من رجال المال والأعمال والمهربين وتجار المخدرات الذين لا تهمهم مصالح المجتمعات العامة في شيء. 

لا أعتقد ولا أحبذ أن يكون العمل السياسي احتكارا لهؤلاء  وأن يعزل المثقفون انفسهم في المكتبات والمراكز البحثية. هذا في البلدان التي حسمت صراعاتها المتفجرة تعبير عن شكل متقدم من تقسيم العمل الاجتماعي يستفيد منه المثقف والسياسي معا، لكن في بلدان متفجرة لم تحسم أمورها بعد، ويهددها باستمرار وحش الاستبداد وسيف التسلط والسلب والنهب، هذا يعد من الكماليات. ولا يمكن ان يكون فيها للمثقفين مهام أكثر نبلا من تكريس جزء من وقتهم وجهدهم لخدمة شعبهم ومجتمعهم ومساعدته على التخلص من الأوباش. وهذا أولى من الشكوى والتبرم من جهل الشعب وبدائية ثقافته السياسية. لا يوجد مثقف لديه حد ادنى من المسؤولية وروح الواجب يقبل بأن يترك شعبه يقاد من قبل انقلابيين وهواة وحاقدين وتجار حروب ومخدرات وهو واقف على الحياد. 

          

  – هل ما جرى في سورية ( ثورة ) أم مجرد (انتفاضة غضب) تاثرت برياح الاقليم ؟؟

 في النهاية الكلمات ليست مقدسة. هناك شعب ثار على نظام غاشم بسبب القهر والاضطهاد والبؤس، ويريد تغيير النظام بنظام يحترم حقوقه ويشاركه في تقرير مصيره لا يتسلط عليه وينهب موارده ويحرمه من السعادة وفرحة الحياة. ليسمي كل فرد ذلك كما يشاء المهم ان نفهم المضمون ونتفق عليه. 

 

- هل تعتقد أن هذه (الثورة) كانت مؤهلة لاسقاط نظام توتاليتاري عات ؟

لا توجد ثورة مؤهلة لاسقاط نظام واخرى لا. كل ثورة مغامرة تاريخية كبرى يرمي فيها شعب كامل بنفسه من دون شبكة حماية، ويلعب مصيره من اجل غايات تبدو له عظمية وتستحق الموت، ولا يهمه عندما ينطلق فيها إذا ما كانت ستنجح او ستفشل. اقصد لا يضع هذا في حساباته، ولو وضعها منذ البداية لما فعل شيء. لأن كل عمل كبير يستدعي المخاطرة، والثورة بحد ذاتها هي المخاطرة الأكبر، في كل زمان ومكان، لأن الشعوب تلعب فيها كما ذكرت مصائرها ومستقبلها وأرواح ابنائها. وهذا هو المعنى العميق لشعار: الموت ولا المذلة. السؤال ليس هل كانت الثورة مؤهلة لاسقاط النظام، وإنما هل كان لدى السوريين خيارات اخرى غير الثورة للتخلص من نظام الإذلال والعنف والفساد والاختناق؟

 

 – هل تكفي تظاهرات الشارع وانتفاضة المحتجين لنقول إن ما يجري (ثورة) قادرة على صنع التغيير ؟

الثورة هي بحد ذاتها فعل ولحظة التغيير بامتياز. وهي باندلاعها تدلل على حصول التغيير.  لو لم يتغير مزاج الناس وأفكارهم ومشاعرهم وتطلعاتهم ما قامت الثورة. لا يوجد حدث يعبر عن التغيير روحا ومادة أكثر من الثورة. 

هل تستطيع جميع الثورات ان تنجح في تحقيق غاياتها النهائية اي تغيير نظام الحكم، وأكثر من ذلك بناء نظام الجمهورية الحرة والديمقراطية؟ هذا هو التحدي لجيل ما بعد الثورة. شرف الجيل الذي ثار انه امتلك الشجاعة الخارقة بل الأسطورية التي أشعلت الانتفاضة على جلاديه العتاة وفرضت إرادته وعبرت عن مطالبه وتطلعاته. لم يصل إلى غايته القصوى، ولا توجد ثورة واحدة في العالم بلغت غايتها القصوى من الانتفاضة الاولى. وحتى استقرت الجمهورية الفرنسية احتاج الأمر إلى سبعة عقود. لكن المهم ان تكسر قوقعة الاستبداد وتفقس بيضته حتى تستحيل العودة إليه.  وباعتقادي هذا ما حققه الشعب السوري وإن بتكاليف باهظة، زادت أثمانها بسبب التدخلات الدولية المعادية، ولن تتوقف التضحيات ايضا في المستقبل القريب. وهنا يصدق قول الشاعر شرف الوثبة ان تبغي العلى ظفر الواثب او لم يظفر. 

بمجرد قيامه بالثورة أعلن الشعب السوري تحرره وصار كل فرد فيه سيد نفسه. لا تنظر الآن إلى ماء الولادة المعكر دائما وبالضرورة، أنظر إلى الوليد وانتبه ان لا ترميه مع ماء الولادة من دون انتباه. 

 

 – وما رأيك بمن يرى أن الانتفاضة العفوية عام 2011 لم تكن مهيأة لتحقيق ما يتمناه الشعب لأن شروط تحولها ثورة منظمة بأداة واحدة، وبرنامج سياسي توافق عليه الغالبية ويدعمه المجتمع الدولي لم تتوفر ؟

كلام محبطين ما كان يمكن ان نسمعه قبل وصول الثورة إلى ما وصلت إليه. كيف يمكن لشعب أمضى نصف قرن تحت حكم الارهاب والحرمان من اي وسيلة للتواصل بين افراده، ومن الكلام والتنظيم، أفرغت جميع مؤسساته وعقول ابنائه منذ الصغر من اي فكر، واحتلت عبادة الشخصية الصنم محل الاديان جميعا، واجبرت رجال الدين انفسهم على العمل لخدمتها والتحول الى رجال دينها، أن يخرج هذا الشعب من فم الوحش جاهزا للسير والتفكير والتنظيم، وبرنامجه السياسي في جيبه، وبموافقة المجتمع الدولي الذي ساهم في عزله لأربعين عاما ولم يظهر في اي مناسبة تضامنا ولو لفظيا معه؟ وهل كان الاستبداد ونظام العبودية استمر خمسين عاما لو لم ينجح في تمزيق الشعب وتحطيم بنياته وتفريغه من نخبه وقادته ورموزه او حتى من المتعاطفين معه؟  

الرد على جميع هذه الاسئلة هو ان احدا لا يصنع ثورة في انبوب اختبار. وبالتالي لا احد يملك السيطرة عليها او توجيهها ما لم يكن قد اعد نفسه لاحتواء جزء من تطلعاتها والسير بها وخوض المعركة إلى جانبها ومن اجل تحقيق أهدافها. وهذا ما تقوم به الاحزاب الثورية السابقة على الثورة اذا وجدت. والحال نحن لم تكن لدينا لا احزاب ثورية ولا اصلاحية. لم تكن لدينا احزاب وانما صور باهتة عنها، لأنه لم تكن في دولنا فسحة ولو صغيرة للسياسة اصلا، كانت السياسة جريمة، بل هي الجريمة الوحيدة التي لا تغتفر. 

من الطبيعي أنه بعد فترة أولى سيطر فيها الجمهور الثائر على نفسه بفعل الانتصار الذي حققه على نفسه والتجرؤ على الانتفاض وأمله بالتغيير وسواد العواطف والروح الايجابية على العواطف السلبية، انتكست المعنويات امام الحرب الدموية التي اعلنها النظام، وأصبح كل فرد وكل مجموعة تبحث عن طريقة مقاومة العنف الواقع عليها بنفسها وحسب ما يتوفر لها من وسائل. فلتت القيادة او الامور من التنسيقيات الشبابية التي كانت تحتمي هي ذاتها بشكل ما ببعض الشخصيات المعارضة السياسية، وتشكلت حركة مقاومة شاملة تغطي اكثر القرى والمدن والبلدات، اعتمدت في البداية على مواردها الذاتية قبل ان تجد نفسها في العراء. وهنا برز دور الجمعيات السلفية والاحزاب الدينية والقومية الانفصالية والدول الاجنبية التي كانت تترصد هذه الفرصة لتتغلغل في الثورة من خلال تقديم السلاح والمال والتحكم بقيادات الفصائل العديدة منها او اكثرها لتحقيق اجنداتها الخاصة. 

أصلا لم تكن غاية النظام من جر الثورة الى الحرب او دفع الامور في هذا الاتجاه إلا استغلال غياب القيادة السياسية الواحدة للثورة لتشتيت صفوفها وفرض خيار عليها لا تملك وسائل مقارعته، اعني الحرب الشاملة التي استخدمت فيها جميع صنوف حرب الابادة الجماعية واقتلاع المدنيين من جذورهم وتوجيه تحديات لا تملك اي ثورة شعبية سبل الرد عليها. 

 

 – أخطاء المعارضة وقصورها وتمزقها أم خطايا المجتمع الدولي هي السبب في فشل عملية التغيير في سورية ..؟

كلاهما. لكن لا ينبغي الحديث عن فشل عملية التغيير في سورية. التغيير حصل بالرغم من كل شيء. وأسد اليوم ليس أسد الأمس ولا نظامه نظامه. والعالم اجمع ينتظر عملية استبداله المحجوزة من قبل الروس والايرانيين دفاعا عن مصالح استراتيجية واقتصادية وسياسية خاصة بهما. لكنه لم يعد يمثل بالنسبة للشعب السوري، بما في ذلك ما كان يعتبر حاضنته الشعبية، سوى مجرد نظام قاتل وصاحب اكبر سجل في المجازر الجماعية والتهجير والتدمير قام بها نظام سياسي في العصر الحديث. وسوف تظهر الوقائع القادمة أننا بالفعل لسنا إزاء سلطة سياسية من أي نوع، حتى سلطة طغيان، وانما في مواجهة عصابة إجرامية تعمل كمافيا دولية تحت حماية دولة استخدمت 13 فيتو لتعطيل قرارات فضحها وادانتها، وهي تنتظر الفرصة لمقايضة وقف الجريمة بمصالح استراتيجية واقتصادية. 

كان من المقبول القول ان الثورة فشلت لو نجح النظام في ايقاف عجلتها في الاشهر الاولى. لكن الدليل على انها لم تفشل حرب السنوات العشر التي شنها النظام عليها والتي تعتبر الاعنف التي خيضت ربما ضد شعب، حتى من قبل قوى احتلال اجنبية، والتي لم توقف مع ذلك اشتعالها.  فاستمرت وهي لا تزال مستمرة بعد ان اطلقت روح تضحية وبطولات لا مثيل لها اجهزت في النهاية على نظام من أعتى الأنظمة، يرى فيه المجتمع الدولي اليوم أسوأ نظام عرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية. ولا أحد يصدق ان من الممكن اعادة تأهيله او التعامل معه بعد ذلك ابدا، حتى مستخدمينه من الروس والايرانيين. هكذا حققت الثورة الهدف المرحلي الأول وحكمت على نظام الاسد بالموت ولو بقي الحكم، لمناحرات اقليمية ودولية، مع وقف التنفيذ. 

اما إقامة دولة سورية ديمقراطية تخلف دولة الطغيان فهذا هو الهدف الثاني الذي لا يزال ينتظر التنفيذ. وجمهور الثورة الذي اضطر الى ركوب كل المخاطر ومواجهة الأهوال لايزال لم يتراجع عنه ولن يتراجع عنه، وهو مستمر فيه، كما تدل تظاهراته ومواقف شبابه في مخيمات اللجوء وفي المهاجر والعواصم الأجنبية، وفي الداخل في جميع المناطق، التي يسيطر عليها الان النظام والتي لا يسيطر عليها، وفي كل الميادين: القانونية حيث تتم ملاحقة مجرمي الحرب الذين لايزالون على رأس عملهم والهاربين، والسياسية والدبلوماسية حيث تعمل مجموعات عديدة من النشطاء على استعادة كسب الموقف الدولي والاحتفاظ بالقضية السورية حية في وعي الرأي العام العالمي والعربي، وعلى الصعيد الفكري والاعلامي حيث تفجرت مواهب الآلاف من الشباب السوريين الذين لم يكن لديهم من قبل أي ارتباط او صلة بالعالم أو بالاعلام أو بالمجتمع البحثي والعلمي والفكري، ويكاد لا يمر يوم من دون أن تظهر عشرات المقالات والابحاث والأفلام والفيديوهات التي تدافع عن حق الشعب السوري بالانتقال الديمقراطي وتدين حكم الاسد الذي تحول بالفعل، ليس في نظر السوريين فحسب ولكن في نظر القادة الدوليين والرأي العام العالمي، إلى نموذج للسادية والفساد الشامل والقتل المجاني، بما في ذاك الصحافة الروسية ذاتها التي حاولت المستحيل لتضفي عليه الشرعية والجدارة السياسية.

الثورة مستمرة سواء فشلت المعارضة أو نجحت، وهي في طريقها إلى ان تنشيء ثقافتها وكتابها ومفكريها ومعارضتها السياسية والمدنية ومؤسساتها المدنية التي لن تتأخر حتى تفعل امكانياتها على الأرض السورية ذاتها.

 

 - ما تقييمك لتجربة الائتلاف الوطني ما الفرق بينه وبين المجلس الوطني، ومن كان وراء تشكيل الائتلاف وانهاء المجلس ؟ وهل تعتقد أن معارضة الداخل، وخاصة هيئة التنسيق برئاسة عبد العظيم كانت قادرة أن تفعل أكثر مما فعلت بحكم وجودها في جحر النظام وبين براثنه ..؟ وه كان ممكنا تحاشي خيار العسكرة في تجربة الثورة ؟ ما خلاصة رأيك المدعم بتجربتك بأدوار المكونات، وخاصة الاكراد في الثورة ؟  وهل كان بإمكان قوى الثورة السورية تغيير سياسات ومواقف الدول الكبرى ؟ هل كان بإمكانها التأثير في المجتمع الدولي ؟ كيف تلخص وترتب الدول الغربية والكبرى من حيث المسؤولية في تمديد معاناة شعبنا وافشال التغيير ؟ هل كنت تعتقد للحظة في بداية الثورة أن الروس يمكن أن يتخلوا عن النظام والأسد ؟ ما تقييمك للدور التركي في المحصلة سياسيا وميدانيا ؟ كيف تعاملت معكم الدولة التركية كمجلس وطني ومعارضة ؟ هل كان لفرنسا تأثير خاص عليكم .. أو على الثورة السورية ؟ إدارة أوباما : هل ساندتنا جزئيا ؟  أم تنكرت لنا ؟ أم تواطأت ضدنا مع ايران ؟

 فيما يتعلق بهذه الاسئلة جميعا يجد القاريء شرحا بالتفصيل لها في: كتاب "عطب الذات وقائع ثورة لم تكتمل". وعلى جميع الاحوال لم تعد موضوعا مهما اليوم واصبحت الى حد كبير من الماضي. فالصراع كما ذكرت اصبح في مكان آخر، أعني أن معركتنا اليوم تجري من حول بناء القوى الجديدة القادرة على مواجهة تحدي بناء سورية ديمقراطية وحرة. المعارضة القديمة بمجلسها وإئتلافها ومؤسساتها قامت بما استطاعت من مهماتها، في عصر اسقاط النظام، واليوم نحن امام مهام جديدة وتحتاج إلى قوى وادوات جديدة مختلفة تماما. 

 

 – هل أخطأ المفكر الاكاديمي الوطني العلماني الديمقراطي برهان غليون بتعاونه مع الإخوان المسلمين , والثقة بهم , والرهان عليهم ؟  وما رأيك بمن يلقي القسط الأعظم من مسؤولية فشل الثورة على أطياف (الاسلام السياسي ) في الداخل السوري ومحوره في الخارج ؟

 برهان غليون لم يتعاون مع الأخوان المسلمين ولا غيرهم وانما سعى إلى إقامة جبهة وطنية عريضة، تضم ديمقراطيين وانصاف ديمقراطيين يساريين وليبراليين وقوميين واسلاميين وعرب وكرد ونشطاء ومعارضين مخضرمين أعلنوا جميعا التزامهم بسيادة الشعب والتسليم له بالقرار في إطار دولة ديمقراطية مدينة تعددية تساوي بين جميع مواطنيها. وكان الهدف ايجاد بديل سياسي واضح وذي صدقية وفعالية لنظام ارهابي وقاتل بالمعنى الحرفي للكلمة. وهو النظام الذي كان يجعل من الاخوان المسلمين فزاعة ليمزق المعارضة السورية ويضرب بعضها ببعض. ولو انشق جزء من البعث الحاكم لكان ينبغي ضمه. هدف الجبهة التي حاول ان يمثلها المجلس الوطني ليس نشر رسالة ايديولوجية ولا توحيد الايديولوجية السورية ولا تعويم هذا الطرف او إقصاء ذاك، وانما تجميع أكبر ما يمكن من القوى للنجاح في تحقيق هدف واضح ومشترك، هو إسقاط نظام العبودية وإقامة نظام ديمقراطي يسلم الشعب القرار. فمهمة السياسة تغيير الواقع السياسي القائم، أي التغيير المادي للواقع، وليس هداية أحد ولا التبشير بأي ايديولوجية أخوانية كانت أو علمانية. المهم احترام الالتزامات، والوصول إلى نظام ديمقراطي يحترم الحريات الفكرية والدينية والسياسية، وبعد ذلك لكم دينكم ولي دين. 

هذا هو اساس شرعية الحكم الديمقراطي. وإقصاء أي حزب او قوة أعلنت التزامها بهذه المباديء من جبهة العمل ضد نظام الطغيان يعني شرعنة الديكتاتورية والمحاسبة على الاعتقادات. الأخوان ليسوا مجرمين لمجرد انتمائهم لجماعة اسمها الاخوان المسلمون، ولا ينبغي أن نعاملهم كذلك، أي على النوايا والانتماءات، لا هم ولا أي تيار سياسي فكري آخر. ولا ننسى ان تجريم الأخوان وإدانة من ينتمي إليهم بالاعدام  قانون سنه الاسد ليستخدمه في تقسيم المعارضة وفرض الاذعان على جميع السوريين. ولا يمكن ان يكون مثل هذا القانون أساسا للعمل في جبهة ديمقراطية او في نظام ديمقراطي قادم. وإلا لم نعد نتحدث عن ديمقراطية ولا حرية العمل السياسي والاعتقاد. فالديمقراطية ليست حزبا او تيارا، الديمقراطية إطار سياسي وقانوني للعمل بين أطراف متباينة المذاهب والبرامج والأهداف، والقبول بالتنافس على السلطة لكن على قاعدة الالتزام بالشفافية واحترام القانون والمباديء الدستورية المتفق عليها. وهذا مصدر تفوقها كدليل لنظام جمهوري شعبي، وإلا فلا يوجد في الصراع الاجتماعي سوى قاعدة الاحتكام للقوة والحرب الأهلية الدائمة. 

ماذا كان مصير الديمقراطية في اوروبا لو أنها قررت إقصاء الأحزاب الشيوعية من صفوف المقاومة ضد الاحتلال النازي في الدول الاوروبية وحرمتها بعد الفوز بالحرب من المشاركة في الحياة السياسية واعتبرتها أحزابا لا ديمقراطية وبالتالي غير شرعية؟ كانت الديمقراطية قضت على شرعيتها نفسها. بينما أظهر الديمقراطيون الاروبيون، بتشريعهم تشكيل احزب شيوعية تدعو لديكتاتورية البروليتاريا وهدم الجمهورية الديمقراطية، ان الديمقراطية ليست وسيلة ناجعة لإدارة التناقضات واختلاف الآراء والقوى السياسية فحسب وإنما أكثر من ذلك لاحتواء واستيعاب وهضم القوى المعادية صراحة للديمقراطية. 

إذا لم نستفد من هذه التجربة لا ينبغي أن نأمل بالخروج من الحرب الأهلية التي يغذيها بعضنا بإرادته اعتقادا بأنه سيكون هو الرابح الأكبر منها. وبالعكس. ان النتيجة خسارة شاملة للجميع.

هل هذا يعني ان الأخوان أو المعارضة العلمانية، وفي نظري هذا تمييز سقيم، لأن الأخوان اكثر براغماتية في السياسة من اليساريين، من وراء وهم سيطرة الحسابات العقائدية، هل هذا يعني ان الأخوان لن يخطئوا في العلاقة مع غيرهم او في التوجه السياسي الخاص بهم او في تعاملهم مع الثورة وأنهم سيفهمون الممارسة السياسية كما افهمها انا أو يفهمها حزب يساري او ليبرالي، وأنهم لن يسعوا إلى غناء موالهم القديم المعهود؟ طبعا لا. وهم ليسوا الوحيدين الذين اتبعوا أهواءهم ولم يعرفوا معنى العمل الجبهوي والتكاملي والتفاعل مع جمهور الثورة والانصات له، وفهم محاور الصراعات الدولية الجيوسياسية والايديولوجية أيضا. ولو كانوا الوحيدين لما حصل ما حصل، ولكان بالإمكان إصلاح الأمر. فقد فاقم من تماديهم وزاد من أخطائهم السلوك المماثل للقوى الأخرى، الضعيفة الانتماء السياسي وكذلك التي لا تزال تنسب نفسها لتيار القومية أواليسار أوالليبرالية، بالإضافة إلى ضعفها الأصلي وتمزق صفوفها وتناحر قادتها وزعمائها او وجهائها، بحيث وجد الاخوان في الفراغ السياسي والايديولوجي الذي تركته هذه القوى المتناحرة والمتكارهة مجالا واسعا للتمدد والتوسع وانتزاع المبادرة ايضا وعدم السؤال عن أحد. 

وليس المجلس الوطني هو الذي شرعن حضور الاخوان كمعارضة سورية. هم كانوا معارضة وجناحا مهما منها، خلال العقود الأربع التي سبقت الثورة، وعضوا في تكتل إعلان دمشق، وما كان من الممكن لا سياسيا ولا أخلاقيا لقوى ديمقراطية ان تعاملهم مثلما كان يعاملهم الأسد اي بقانون الاعدام السياسي بعد الجنائي. كان إقصاؤهم يعني شرعنة قانون 47 الاسدي الذي يبيح قتل الفرد بسبب انتمائه وأفكاره ويشرعن التجريم الجماعي وجعل الانتقام والحقد قاعدة للحياة العامة. 

أما الفشل في الثورة فهو كما ذكرت مرفوض كمفهوم في مثل هذه الحالة، تماما كما ان الانتصار الذي يستخدمه اعلام الاسد لا معنى له، وهو يستخدمه للتغطية على الفشل المدوي للنظام في إدارة الازمة ولجوئه الى الحرب والابادة الجماعية والتهجير القسري وتحطيم الغصن الذي يجلس عليه، اي سورية ذاتها. وكما ذكرت انه محكوم بالاعدام مع وقف التنفيذ، وسوف يواجه عاجلا او آجلا حسابه المنتظر. وهو لم يعد نظاما سياسيا بأي حال. 

وبالنسبة للأخطاء التي منعتنا من العمل كفريق واحد منتج ومتضامن فهي مسؤولية الجميع ولا يمكن لأحد ان يبريء نفسه منها. وأكاد أقول انها كانت عابرة للايديولوجيات والمذاهب والتنظيمات.

 

 – ما هي القوى السورية التي شرعت وصول ووجود المنظمات الجهادية المتطرفة في سورية ورفضت ادانتها .؟؟

 شرحت ذلك بالتفصيل في عطب الذات. وينبغي الرجوع إليها لتجنب التبسيطات المخلة بالتحليل الموضوعي.

 

 – هل كان يمكن للعالم أن يساندنا في اسقاط الاسد بينما القوى المتطرفة هي الممسكة بالأرض ؟

 نعم كان يمكن قبل ان تسيطر القوى المتطرفة. عمليا لم تصبح القوى السلفية والجهادية المتطرفة ممسكة بشكل واضح بالأرض إلا منذ منتصف  2013. وقبل ذلك كانت قد جرت مجازر عديدة منذ الشهر الثاني للثورة في بانياس والبيضا والحولة وغيرهما لم تحظ برد فعل قوي من قبل المجتمع الدولي. وحتى بعد استخدام السلاح الكيماوي تردد المجتمع الدولي في التدخل. واخفى تردده او عجزه او استسلامه وراء الفيتو الروسي الذي عطل مجلس الأمن. ما من شك في ان سيطرة المتطرفين وبعضهم برعاية الاسد وطهران، أخاف الرأي العام الغربي والعالمي من عواقب سقوط النظام، لكن الحكومات كانت تعرف تماما حقيقة اللعبة وكيف استخدم المتطرفون من قبل النظام وحلفائه وبعض اعدائه ايضا لنقل المعركة الى مكان آخر حتى تصبح ضد الارهاب وتغيب معركة الشعب السوري من اجل حريته وحقوقه. 

 

 - هل ستتحكم ايران بسورية لوقت طويل ؟ هل سيخضع المشرق العربي لتاج الأمبراطورية الايرانية الجديدة ؟

 برأيي ان الفراغ لا بد ان يجد من يملأه وان الحيط الواطي يشجع القوى والضعيف على ركبه. وهذه قاعدة اللعبة في العلاقات الدولية عندما يفتقر الاقليم او تفتقر المنطقة الى نظام للأمن والتعاون بين الدول المتعددة التي تقطنها. وهذا ما سعت الدول الاوروبية لتجاوزه بعد حربين عالميتين مدمرتين بتصميمها على بناء اوروبا موحدة تضم الدولتين الرئيسيتين اللتين تسببتا بمعظم الحروب القارية الاوروبية فرنسا وألمانيا. ونحن، اقصد العرب جميعا، ندفع ثمن فشل الحكومات العربية في تطوير أسس التعاون المثمر فيما بينها لتكون طرفا في المنظومة الاقليمية يحسب حسابه، ولا أقول الوحدة او الاتحاد الذي لا يمكنها تصوره لأن كل واحدة منها تعتقد ان البلاد التي تحكمها هي ملكها الخاص لا ملك شعبها، ولا تريد ان تتقاسم ملكيتها مع مؤسسات لا تخضع لارادة حاكمها الشخصي. ونحن لسنا للأسف إلا في بداية محنتنا في هذا المجال.

– هل تعتقد أن الثورة السورية انتهت ..؟  وهل سنشهد ولادة ثانية لهذه الثورة في المدى القريب .. أم سندخل مرحلة حالكة تشبه مرحلة ما بعد 1982 ؟؟ 

اعتقد انها لن تنتهي كحركة فكرية وسياسية شعبية لتحويل الدولة، التي اصبحت امارة خاصة للاسرة الحاكمة، الى وطن حقيقي لمواطنين احرار يتصرفون في بلدهم كأسياد لا كعبيد. ولكنها سوف تستمر بطرق ووسائل مختلفة عن الانتفاضة الشعبية الكبرى، وربما اضطرت ايضا الى العودة إليها. لا نستطيع بعد ان نحكم لكنها بالمعنى التي ذكرت لن تنتهي قبل تحقيق غايتها التي ذكرتها للتو.

 

 – كيف نساعد على تجديد حيوية الثورة وتصحيح بوصلتها ؟ 

بأن لا نفقد الثقة بشرعية مطالب الشعب وتطلعاته وقدراته الكامنة وأن لا نتخلى عن الأمل في تحقيقها مهما كان الثمن ومهما طال الزمن ايضا.

 – كيف نتخلص من الاحتلالات والمحتلين .. بالسلاح والمقاومة أم بالمحادثات السلمية والتسويات الدولية ؟ 

لن نتخلص من الاحتلالات  الخارجية ما لم نتخلص من الاحتلالات الداخلية التي تقيد كل شيء فينا: عقولنا وإرادتنا وروحنا ودولتنا ومؤسساتنا ومجتمعنا، والتي تجهض كل جهودنا للرد على التحديات التي تواجهنا. 

 

– هل ستستعيد سورية كيانها ووحدتها واستقرارها على نحو ما كانت عليه قبل 2011 أم أن ذلك مستحيل ؟

لا يهدد وحدة سورية سوى نظام الطغيان والاحتلال. ولا يوحدها إلا تفاهم أبنائها على قاعدة للحكم تساوي بينهم وتشركهم في القرارات التي تمس مصيرهم، وتمثل تطلعاتهم وتعبر عن إرادتهم في التحرر والأمان والسلام.

 

 – هل ستبقى سورية أم ستتفتت وتتفكك ..؟ هل سيبقى الأسد أم سيرحلوه ..؟ هل ستبقى ايران وسورية مسيطرتين عليه ..؟  والى متى ؟؟

ما تعيشه الدولة السورية أزمة متفجرة ناجمة عن تسلط عصبة اجرامية وغير سياسية عليها، وتحويلها إلى إقطاعة خاصة على شاكلة الإقطاعات القرسطوية الاوروبية حيث السيد يملك الأرض والاقنان الذين يعملون فيها، وليس لأحد حق فيها سوى ما يتنازل السيد عنه عن طيب خاطره، وله الحق دائما في استرجاعه. وسوف تستعيد هويتها ووحدتها وتظهر مواهب ابنائها ووحدتهم جميعا حالما تخرج من هذه الأزمة وتنجح في محاصرة الوباء، أي الفساد المتعدد الأوجه، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والفكري الذي عطل وظائفها وأوهن قلبها وجسدها وأثخنهما. 

 

 – ما هي مهمة النخب المثقفة والسياسية في هذه المرحلة ..؟    

أن لا تنفصل عن شعبها وتتركه وحيدا امام جلاديه ومحتليه

حوار محمد خليفة وقد نشر هذا الحوار على ثلاث حلقات وفي عدة مواقع في الوقت نفسه وهذه روابط الحلقات الثلاث في مجلة الشراع اللبنانية

الحلقة الأولىhttp://www.alshiraa.com/topics/2233-alhlk-alaol-hoar-fy-alaamk-maa-brhan-ghlyon-hol-aatb-almaaard-alsory-barys-hoar-mhmd-khlyf

الحلقة الثانيةhttp://www.alshiraa.com/topics/2273-alhlk-althany-2-mn-hoar-fy-alaamk-maa-brhan-ghlyon-hol-aatb-althat-alotny-almhaor-mhmd-khlyf-barys

الحلقة الثالثة http://www.alshiraa.com/topics/2309-alhlk-33-hoar-fy-alaamk-maa-d-brhan-ghlyon-hol-aatb-althat-alotny-hoar-mhmd-khlyf-barys