واشنطن ليست وحدها المسؤولة عن انهيار الموقف العربي في فلسطين

2002-02-:: الاتحاد

تجاوزت الحرب التي تشنها الحكومة الاسرائيلية على القضية الفلسطينية أسوأ التوقعات. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي قد حرص في سياق الهجوم الشامل الذي كان يعده ضد الحركات الاسلامية على التأكيد على اعتراف واشنطن بحق الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية خاصة بهم، إلا أن الأحداث تثبت أن الحرب التي أعلنها ضد الارهاب في أفغانستان والعالم قد وجدت أول تجسيد لا إنساني لها في فلسطين المحتلة. وماكان من الممكن لأحد أن يتصور أن إطلاق يد الحكومة الاسرائيلية اليمينية والمتطرفة في تدمير الأسس التي يقوم عليها بقاء الشعب الفلسطيني هو الترجمة المنتظرة لمثل هذا الإعلان. كان العرب يعتقدون بالعكس من ذلك أن الولايات المتحدة التي عبرت عن رغبتها في خلق الظروف الضرورية لقطع الطريق على الارهاب الدولي سوف تفتتح في فلسطين قبل أي بلد آخر سياستها الجديدة الأقرب للعدالة والانصاف. فما ذا حدث كي يحصل ما هو عكس ذلك تماما؟
ينبغي القول أن مشروع تدمير المقاومة الفلسطينية كان ولا يزال هو البرنامج الوحيد لحكومة رئيس الحكومة الاسرائيلية اليمنية آرييل شارون وأن نجاح اليمنين الاسرائيلي في الانتخابات يعكس بحد ذاته الميل الاسرائيلي العام لحسم الأمور بالقوة بعد أن فشلت الحكومة العمالية الماضية في تحمل مخاطر السير بصدق وجدية في طريق الحلول السياسية. ولم يكن العرب يجهلون هذه الحقيقة. لكنهم كانوا يراهنون على موقف أمريكي معتدل نسبيا، كان خلال حكم الرئيس الأمريكي السابق كلينتون أقرب إلى توجهات حزب العمل الاسرائيلي منه إلى أطروحات تجمع ليكود. بل إن قسما كبيرا من الرسميين العرب كانوا يعتقدون أن سياسة الرئيس بوش الابن سوف تكون في فلسطين أفضل من سياسة سابقه، تمشيا مع سياسة والده من قبل والمصالح المشتركة العربية الأمريكية الكبيرة. وجاءت المفاجأة التي جعلت الحرب ضد الفلسطينيين شاملة ونهائية من حيث لم يكن العرب يتوقعون، أي من الولايات المتحدة الأمريكية التي يحملها العرب على رؤوسهم ويعتبرها بعضهم حليفته الرئيسية إن لم تكن الوحيدة في مواجهة كل مخاطر محتملة إقليمية ودولية. ومنذ اللحظة التي أعطت فيها واشنطن الضوء الأخضر لرئيس الوزراء الاسرائيلي ليستمر في حربه ضد الفلسطينيين بكل الوسائل ومن دون خوف، لم يعد هناك ما يمكن أن يوقف إرادة الدمار والقهر التي ميزت تاريخ رئيس الوزراء الاسرائيلي منذ بداية مساره السياسي.
من هنا يمكن القول أن الحكومة الأمريكية التي لا تكف منذ التحقق من انتصارها في أفغانستان عن تشجيع الاسرايليين بالتصريحات الضمنية أو الصريحة، وعن إدانة الفلسطينيين والتشهير بقادتهم بطريقة أو أخرى قسطا لا يقل عن حكومة شارون في إلغاء خيارات السلام التي عمل عليها الطرفان لأكثر من عقد كامل وكانت قد وصلت إلى نقاط تقاطع كبيرة تمهد للتوصل إلى تسوية قريبة. لقد فهم إلحاح الرئيس الأمريكي المستمر على الرئيس عرفات لوقف الارهاب على أنه إدانة رسمية من قبل واشنطن للانتفاضة الفلسطينية، وهو كذلك بالفعل. وهذا يعني أن ما أعطته الحكومة الأمريكية للفلسطينيين والعرب باليد اليمنى قد انتزعت أكثر منه بكثير منهم باليد اليسرى، وتجاوزت في أهداف سياستها قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية نحو تصفية القضية الفلسطينية ذاتها. 
لكن إذا كان خذل الولايات المتحدة العرب يفسرالتدهور الخطير الذي وصلت إليه الأوضاع الفلسطينية فهو لا يبرؤ العرب من المسؤولية أبدا وإنما يظهر إلى أي حد يخطيء العرب، كما تخطؤ كل أمة، تراهن في تحقيق أمنها وسلامة أراضيها ومصالحها على قوة خارجية. فقد كان العرب يخشون جميعا نجاح الحكومة اليمينة. وكانوا جميعا يرددون قبل سنتين أن نجاح آرييل شارون في انتخابات رئاسة الوزراء يعني الحرب. وقد امتلأت تصريحات مسؤوليهم ووسائل إعلامهم بذكر هذه المعادلة• وهذا ما حصل فعلا. ، لكن لم يقم العرب بالرغم من ذلك بأي مبادرة سياسية أو عسكرية أو دبلوماسية قوية وجدية لمواجهة استحقاقات فوز الحكومة اليمنية الاسرائيلية وتطوير استعداداتهم لمواجهة خطر الحرب أو الحد من احتمال نشوبها . بل لقد حصل عكس ذلك عندما تخلى البعض بسرعة عن التحليلات السابقة ونادى بإعطاء شارون فرصة.
ومن هنا، فيما وراء إرادة الحرب الاسرائيلية وغياب الدعم الأمريكي المتوقع للحق العربي، يقع القسط الأكبر من المسؤولية في وصول الأوضاع الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، بعد ما يقارب السنتين من التضحيات الكثيفة والاستثنائية، على بلدان الجامعة العربية ذاتها لأنها لم تقم بالاستعدادات الكافية لمواجهة احتمال لجوء الحكومة الاسرائيلية للحل العسكري وتركت الأمر كلية ولا تزال في عهدة السياسة الأمريكية. وقد فهمت من مبدأ اعتبار السلام خيارا استراتيجيا إدانة نفسها بالكف عن أي استعداد عسكري جدي بل بإلغاء احتمال نشوء الحرب بمبادرة من الطرف الآخر. وبذلك أدانت نفسها بأن تكون من دون سياسة وطنية ومن دون رؤية استراتيجية وكان من المستحيل عليها في هذه الحال أن تسيطر على عملية السلام أوتساهم في دفعها. لقد فرضت على نفسها الشلل التام وكتفت إيديها بنفسها ولم يعد بإمكانها إلا إنتظار نتائج الوساطة أو عدم الوساطة الأمريكية. 
لقد اعتقد قادة العرب أن لاسرائيل والولايات المتحدة مصلحة في السلام ولذلك فسوف تعملان على تحقيقه، ولم يبق لديهم هم ما يعملونه في هذا المجال، وصار بإمكانهم التفرغ لمشاغلهم ومصالحهم وهمومهم ولذاتهم الخاصة. والحال أنه يمكن أن يكون لاسرائيل وواشنطن مصلحة في السلام بالفعل إذا كان هناك تهديد بالحرب أو خطر انفجار حرب إقليمية، لكن منذ اللحظة التي تنعدم فيها احتمالات الحرب والصدام لن يعود لاسرائيل مصلحة في السلام لأنه يعني تسليم الأراضي المحتلة من دون مقابل، أي مع عدم وجود أي أخطار. كما لن يكون لواشنطن مصلحة أيضا فيه لأنه سوف يخفف عبئا كبيرا عن العرب ويجعلهم أقدر على مقاومة نفوذها وهيمنتها عليهم فيما بعد. إن المصلحة الأولى في السلام هي للعرب، لأنه يعني استعادتهم للأرض وإقامة دولة فلسطينية وتنقية الأجواء الإقليمية بما يسهل خلق شروط تنمية اقتصادية واجتماعية. ولا ينبغي أن ننتظر من عدو أو حتى من طرف محايد أن أن يقدم للعرب مثل هذه الخدمة ويعمل على تعزيز مصالحهم الكبرى طالما لم يكن مضطرا لذلك. ومن هنا فإن السلام، إذا كان مصلحة عربية فعلا، لا يتسول ولكن ينتزع بالقوة، ولا بأس أن تكون هذه القوة سياسية أو اقتصادية أو تهديدا بها. لكن المهم وجود القدرة العملية على الفعل أو مصداقية التهديد بالحرب.