نقاش مع عزمي بشارة حول المسألة العربية ومقدمة لبيان ديمقراطي عربي

2007-10-12:: المستقبل العربي

 أعاد المثقفون القوميون العرب اكتشاف الديمقراطية في نهاية الثمانينات، في موازاة إدراكهم إجهاض المشروع القومي الذي كان مركز ثقله مسألة الوحدة العربية. واعتبر المثقفون القوميون في ذلك الوقت أن غياب الديمقراطية هو السبب الرئيس في هذا الإجهاض، وأن تمكين الشعوب من المشاركة في الحياة العمومية، هو الشرط الأول لإعادة تأهيله وتجديده. وفي هذا السياق طبق مركز دراسات الوحدة العربية برنامجا طويل المدى من الندوات والمطبوعات لنشر فكرة الديمقراطية وتسويقها لدى الرأي العام العربي بعد أن تم دفنها من قبل النظم الاستبدادية.

لكن التمسك بالديمقراطية كأولوية في اجندة النهضة أو مشروع النهضة الحضارية العربية، الذي أطلقه هذا المركز نفسه، بدأ يتراجع عند قطاعات عديدة من المثقفين منذ بداية الألفية الثالثة، أحيانا نتيجة تزايد الخوف من مخاطر التغيير السياسي واحتمال أن يكون البديل عن النظم الاستبدادية نظما اسلامية لا تقل استبدادية عنها، وأحيانا أخرى بسبب تفاقم النزاع والمواجهة مع القوى الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة التي أطلقت مبادرة الشرق الأوسط الكبير، وضمنتها شعار الانفتاح الاقتصادي مقابل توسيع قاعدة المشاركة السياسية وإدماج قسم من الطبقات الوسطى فيها.
وجاء احتلال العراق عام 2003، ثم انفجار النزاعات الطائفية والإتنية، ليجعل المقاومة في نظر الكثيرين من القوميين أولوية الأولويات، ويحيد شعار الديمقراطية أو يرجعه إلى الخلف. بيد أن الأمر سوف يتجاوز ذلك بعد تبني واشنطن نفسها شعار نشر الديمقراطية في البلاد العربية، في إطار بحثها عن ذريعة تبرر احتلال العراق بعد أن تبين عدم صحة وجود سلاح تدمير شامل فيه. ومنذ ذلك الوقت حصل انقسام حقيقي داخل جبهة القوى الديمقراطية القديمة التي تكونت في التسعينيات. فبينما استمر بعض أطرافها في التأكيد على أولوية شعار الديمقراطية، ذاهبا إلى حد اعتبار التقدم على طريق التحويل الديمقراطي هو المدخل الضروري للنجاح في المواجهة الوطنية، اعتبرت أطراف أخرى، إسلامية وقومية، أن الأولوية ينبغي أن تعطى اليوم لمقاومة الأجنبي، وذهب البعض إلى حد اتهام الناشطين الديمقراطيين بالتحالف الواعي أو غير الواعي مع القوى الاستعمارية ومراهنتهم عليها.
ويعتبر كتاب عزمي بشارة الجديد "في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" أول محاولة جدية لتفسير هذا الموقف الأخير وبلورته من الناحية النظرية. ومن هذه الزاوية يمثل هذا الكتاب مساهمة كبيرة في تطوير النقاش الدائر اليوم حول العلاقة بين الوطنية والديمقراطية في البلاد العربية في الحقبة الراهنة التي تتميز بهجوم قوي من قبل القوى الاستعمارية على المواقع التي كانت القومية العربية قد اكتسبتها من قبل، سواء ما تعلق منها بتأكيد هوية قومية مشتركة وواحدة، أو بسيادة الدول العربية ووحدة أراضيها، أو باحتمالات تكوين أشكال من الاتحاد أو التفاهم والتعاون بين الدول العربية لا تخضع لإرادة القوى الكبرى ولا تدور بالضرورة في فلكها.
يحشد عزمي بشارة كل ذخيرته الفكرية والعلمية كي ما يبرهن للمثقفين المستمرين في اعتبار الديمقراطية ذات أولوية في مسار استعادة المبادرة العربية، الوطنية والاجتماعية، على أنهم لا يعرفون ما تعنيه الديمقراطية، ولا يفهمون شروط تحقيقها في الظروف العربية. وهو في سعيه لإظهار جهل خصومه وقلة معرفتهم النظرية أو حسهم التاريخيين، يوحد بينهم والنيوليبراليين الأمريكيين. بل يتجاوز ذلك، متهما إياهم بالجهل بواقع مجتمعاتهم وشروط إنتاجها وبقوانين الانتقال نحو الديمقراطية معا.
فلا تستقيم الدعوة الديمقراطية في نظر عزمي بشارة إلا في إطار أمة ناجزة. والحال إن ما يميز وضع العرب اليوم هو تعرض هذه الأمة للتفكيك والتخريب من قبل القوى الغربية. وهذا ما يستدعي الحديث عن وجود "مسألة عربية"، شبيهة بما أطلق عليه في القرن التاسع عشر اسم المسألة الشرقية. والمقصود أن الأمة العربية ما تزال "أكبر قومية معاصرة لم تحظ بحق تقرير المصير، بالتحول إلى أمة ذات سيادة، ولم تحظ بفرصة الصراع بعد ذلك للتحول إلى أمة من المواطنين". ومن هنا فإن " المسألة العربية (تعني) في ما تعنيه أن نفس العناصر التي تمنع تحقق الأمة داخل الدولة القطرية وخارجها، هي العوامل التي تعيق التحول الديمقراطي"، وبالتالي ليس هناك أجندة ديمقراطية ممكنة.
ما يأخذه بشارة إذن على خصومه الديمقراطيين العرب، وهو يخاطبهم بصراحة كخصوم، ومن دون تمييز، ليس تبنيهم للفكرة الديمقراطية، فهو يتبناها أيضا، وإنما عدم فهمهم أن الديمقراطية لا تصح من دون أمة. وهو يفترض، أولا، أن غياب هذه الأمة، بما تعنيه من سيادة ورأي عام حر ومستقل، ومواطنية، ووجود طبقة وسطى قوية، وغياب العشائرية والقبلية، لا يترك أي فرصة لنشوء حركة ديمقراطية فما بالك بتحقيق هدفها. وثانيا أن أي حديث في الديمقراطية في ظروف غياب الديمقراطيين، أي غياب قوى ديمقراطية جماهيرية، لا يمكن إلا أن يحرف الرأي العام عن المعركة الرئيسية، ويشجع على التدخلات الأجنبية أو يبررها أو يستدرجها. وهكذا بدل أن يقود العمل الديمقراطي، المعتمد على مجموعات صغيرة لا أمل لها في تحقيق أي إنجاز، إلى إصلاح أوضاع المجتمعات العربية، لا يعمل في الواقع إلا على تأخير حل المسألة القومية المصيرية.
والسؤال الذي يطرح على عزمي بشارة عندئذ هو: إذا لم يكن هناك أجندة ديمقراطية في المجتمعات العربية، فهل هناك بالفعل أجندة قومية؟ وهل يشكل مجموع المقاومات والممانعات القائمة في بعض البلدان العربية، في فلسطين ولبنان والعراق، تجسيدا لأجندة تشكيل الأمة التي يتطلع إليها، وهل تخدم التضحية بالأجندة الديمقراطية هذه الأجندة إذا وجدت ؟
في اعتقادي أن العكس هو الصحيح. ليست الممانعات التي نعيشها إلا معارك النفس الأخير في عملية تراجع تاريخية مستمرة لفكرة قومية تحتاج إلى مراجعة جذرية، وأن الأجندة الديمقراطية التي تهدف إلى إعادة إدخال الشعوب في المعادلة السياسية الإقليمية والدولية، وليس الوطنية فقط، هي وحدها القادرة على وقف سياسة الهرب المدمر إلى الأمام وخلق شروط إعادة بناء الوطنية العربية على أسس جديدة، وإطلاق طاقاتها في مواجهة الضغوط الاسرائيلية والاستعمارية. ومن دون ذلك سوف يستمر التراجع وتتوالى الانهيارات التي نشاهدها في فلسطين ولبنان والعراق أيضا إلى ما لا نهاية.
هذا هو في اعتقادي الإدراك الذي يجعل الجزء الأكبر من النخبة العربية وجمهور الطبقة الوسطى يتمسكان بأجندة الديمقراطية في كل البلاد العربية، حتى في تلك البلاد التي تشهد ساحاتها صراعات ومقاومات وطنية فعلية. وغيابها هو السبب في انهيار الأوضاع الفلسطينية وبروز ما يشبه الدولتين المتنابذتين.
لكن في ما وراء الخلاف في فهم الوضعية الراهنة للقضية العربية، اعتقد أن عزمي بشارة تجاوز في رده على خصومه الحد الأدنى من الامانة العلمية. فهو يتجنى كثيرا على الحركة الديمقراطية العربية عندما يتهمها بالمراهنة على التدخلات الأجنبية. فباستثناء عناصر قليلة معزولة، تمسكت الأغلبية، وأنا منها، بضرورة الربط بين الديمقراطية والوطنية، لأنهما يشكلان وجهين متضامنين لمعركة واحدة هي معركة الحرية الفردية والجماعية، تماما كما يشكل الاستبداد والإخفاق الوطني وجهين لنظام واحد هو نظام الوصاية والسيطرة الأجنبية، ويعكس تفاهمهما الضمني الواعي أو الموضوعي. وقد كان همنا الدائم تجنيب الرأي العام المأزق المأساوي الذي يقود إليه منهج عزمي بشارة، أي حتمية الاختيار بين الاستبداد والاستعمار. كما يتجنى كثيرا على هذه الحركة عندما يظهرها وكأنها وليدة الضغوط الأمريكية الجديدة على العراق. فهي مستقلة عنها وسابقة لها بعقود. وقد ظهر كتابي "بيان من أجل الديمقراطية" عام 1977 وكان عنوانه الفرعي، مأساة الامة العربية، تأكيدا منذ ذلك الوقت للرابط بين الديمقراطية وإعادة بناء الأمة أو الوطنية العربية. وأخشى أن يعيدنا عزمي في أطروحاته الجديدة إلى حقبة مضت تظهر فيها الديمقراطية نقيضا للقومية، في الوقت الذي تشكل فيه مصالحة القومية مع الديمقراطية الأمل الوحيد في إنقاذ المشروع القومي وبناء وطنية عربية جديدة.
في نظري، لا يشكل العمل على دمقرطة الحياة العربية مدخلا أساسيا لحل "المسألة العربية" وتمكين الأمة من تقرير مصيرها فحسب، وهو ما يطمح إليه عزمي بشارة، ولكن، أكثر من ذلك، الشرط الضروري لحماية المقاومات العربية الراهنة وتعزيز موقفها. ومن دونه سوف تجد المقاومة نفسها في طريق مسدودة، وربما ضحية الفوضى الزاحفة، سواء بقيت السيطرة الأجنبية قائمة أو تعرضت للانهيار.
لكن مهما كان الحال، يستحق عزمي بشارة ثناءا كبيرا لمبادرته في فتح مناقشة جوهرية يتوقف على حسمها تقدم العمل العربي الوطني والقومي أو تراجعه وربما انهياره في السنوات القادمة.