نظام الفرص الضائعة

2005-09-28:: الاتحاد

الاحتضان الدولي للنظام السوري

بصرف النظ عما سيسفر عنه التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصلت العلاقات السورية مع الكتلة الغربية المكونة من أهم قوى دولية قائمة اليوم، أعني الولايات المتحدة وأوروبة، إلى قطيعة نهائية لن يكون من الممكن تجاوزها أو الالتفاف عليها بأي شكل. وغني عن القول إن أخطر ما يمكن أن تتعرض له دولة أو نظام هو أن يضطر أحدهما إلى أن يواجه تحالفا أوروبيا أمريكيا ضده. ولا يمكن لأي نظام، مهما كانت الحيثيات والدوافع والتبريرات، أن يتحمل مثل هذا التحالف ومن باب أولى أن يسمح بنشوئه أو أن يدفع إليه. فهو يعني لا أكثر ولا أقل أنه يدين نفسه بالعزلة العالمية ويسد أمامه جميع الآفاق. وفي منطقة مثل منطقة الشرق الأوسط الخاضعة بشكل لا مثيل له في أي منطقة أخرى للهيمنة الأمريكية الأوروبية التاريخية والمكشوفة معا، يعني مثل هذا الموقع، أكثر من ذلك، عزلة إقليمية كبيرة أيضا وبالتالي تعليق النظام نفسه في الفراغ.
لا ينبغي الاستهانة بالمخططات الغربية الأمريكية والأوروبية معا ولا الاعتقاد بأنها تهدف إلى خدمة المصالح العربية. فليس هناك شك في أن الولايات المتحدة تسعى اليوم إلى كسر شوكة الوطنية العربية التي اتخذت شكل الحركة القومية الوحدوية الماضية والتي لا تزال تعيش تحت الرماد وأنها تهدف من مشاريعها إلى قطع الطريق على أي تفاهم عربي واسع كي ما تتمكن من بناء الشرق الأوسط الذي يمر تفاهم جميع بلدانه وشعوبه عبر واشنطن وبفضلها. وهذا هو الطريق لتكريس الهيمنة الإقليمية الأمريكية وضمان المصالح النفطية والاستراتيجية معا. وليس هناك شك أيضا في أن ما تريده أوروبة اليوم في المنطقة العربية هو تأمين حدودها الجنوبية ومنع نشوء مخاطر عليها سواء أكان ذلك نتيجة قيام تكتلات استراتيجية قوية أو انتشار الأسلحة الهجومية الشاملة أو تصاعد حركات العداء والعنف المناوئة لها. وفي هذه السياسات نقاط خلاف جوهرية تفصل المصالح العربية العليا عن المصالح الأمريكية والأوروبية. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضا قضايا خلاف ظرفية نابعة من اختلاف وجهات النظر أو التعارض في المصالح التكتيكية أو الاستراتيجية العربية الغربية كما هو الحال في ما يخص الحرب في العراق والموقف من الاستيطان الاسرائيلي في فلسطين والجولان ومن بعض تشكيلات المقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعراق.
لكن بالرغم من هذه الخلافات السياسية التي دفعت وتدفع واشنطن إلى ممارسة ضغوط استثنائية على الدول العربية لتغيير أجندتها وإعادة النظر في الكثير من خياراتها الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية القديمة أيضا، لا أعتقد أن المواجهة التي نسير إليها اليوم بين سورية والولايات المتحدة الأمريكية كانت حتمية أو لم يكن من الممكن تجنبها. فزوال الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة من جهة بما يعنيه من التراجع الدولي عن سياسات الاقتصاد المخطط والانخراط الطوعي والمتزايد للدول العربية وغير العربية في سياسات التحرير الاقتصادي والاندماج في السوق الدولية والخوف من تنامي حركات العنف والارهاب في العالم كل ذلك يخلق مجالات لمصالح مشتركة أيضا بين الدول العربية والكتلة الغربية. وهذه المصالح المشتركة هي التي سمحت للعديد من النظم العربية التي تعرضت في السنوات الماضية إلى ضغوط أمريكية وأوروبية قوية من أجل الاصلاح بالوصول إلى تفاهمات جديدة غيرت من طبيعة السياسات العربية والغربية معا بما في ذلك التمديد لأنظمة كانت الولايات المتحدة تقف ضدها بصورة قطعية.
ولا يختلف الأمر عن ذلك في ما يتعلق بالنظام السوري الذي تبنى مثله مثل جميع النظم العربية الأخرى سياسة الانفتاح على الولايات المتحدة وأوروبة والتوصل معهما إلى تسويات في جميع الملفات. وهذا ما يفسر الحيوية التي طرأت على العلاقات السورية الغربية في الأعوام القليلة الماضية والتعاون الواسع الذي نشأ بين البلدين إلى فترة قريبة قبل انفجار الأزمة الراهنة. وهو الأمر الذي يستحق أن نتأمل فيه لنعرف أين حصل الخطأ الذي أدى إلى هذا الوضع ومن هو المسؤول الرئيسي عنه. فكما أن من الصعب تصديق النظام السوري عندما يؤكد بأن الولايات المتحدة وفرنسا ومن ورائهما اليوم المعسكر الغربي كله يريدون القضاء على النظام السوري بسبب خياراته الوطنية من الصعب أيضا تصديق ما يردده الغربيون من ادعاءات حول حرصهم على نشر السلام وتحقيق الديمقراطية لشعوب المنطقة ومنها الشعب السوري. فحتى أشهر قليلة، وربما حتى هذه اللحظة، كما لا يزال يعتقد البعض، لم يكن أحد يشك في أن نظام الرئيس بشار الأسد لا يزال يحظى برعاية خاصة في العواصم الغربية نظرا لما وسم به من علمانية ومقدرة مجربة على مواجهة الحركات الاسلامية والتعامل بواقعية مع الاحتلال الاسرائيلي للأراضي السورية. وبالاضافة إلى ذلك، كان هناك اعتقاد قوي لدى حكومات اوروبة وامريكا معا بأن النظام السوري يلعب دورا ايجابيا بوجوده في لبنان ويضمن الاستقرار على حدود اسرائيل الجنوبية جميعا كما أن من الممكن أيضا أن يكون له دور ايجابي في العراق.
وقد وجدت الولايات المتحدة وأوربة في الميول الاصلاحية التي أظهرها العهد الجديد سببا آخر للتمسك بالنظام السوري والعمل معه بدل الانقلاب عليه في سبيل تقريب سورية من السياسات الغربية وإعادة إدراجها في السياق العالمي الجديد. ولم تكن السلطة السورية معارضة لهذا الاندراج. بل إن العكس هو الصحيح. فقد بدأت السلطة البعثية التي كانت تتبنى سياسات اشتراكية وقومية متطرفة في وقت من الاوقات بالتخلي تدريجيا عن خياراتها السابقة والتعامل بايجابية مع الطروح الغربية الأمريكية والأوروبية على جميع الأصعدة. هكذا قبلت دمشق بالدخول في مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وشاركت مع مصر والمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول المقربة من الغرب في بلورة مشاريع سلام عربية اسرائيلية قطعت نهائيا مع مشاريع الوحدة العربية والشعارات القومية مثل شعار"ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، وأظهرت تعاونا كاملا مع الولايات المتحدة من أجل التوصل إلى سلام مع إسرائيل على أساس قرار مجلس الأمن : الأرض مقابل السلام. كما أظهرت تعاونا أمنيا معلنا مع السلطات الأمنية الامريكية في الملف العراقي الملتهب. وعلى المستوى الاقتصادي أظهرت المبادرات السورية المتعددة للتوقيع على اتفاقات التجارة الحرة مع العديد من البلدان بما فيها منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى لكن، بشكل خاص، على اتفاقية الشراكة المتوسطية، رغبة حكومة دمشق القوية بالتعامل مع واقع السياسات النيوليبرالية والانخراط في اقتصاد السوق قبل أن يكرس المؤتمر العاشر لحزب البعث في حزيران يونيو الماضي رسميا هذا الخيار.
باختصار شهدت السنوات الأربع الأولى من حكم الرئيس بشار الأسد انفتاحا قويا ومتبادلا أيضا بين الكتلة الصناعية الغربية وسورية هو الذي ثبت أركان النظام السوري وجعله يبدو وكأنه في طريقه إلى القطع مع تاريخه السابق والتحول إلى نظام جديد. ويمكن القول إن مشروع التغيير السلمي للنظام، أي أيضا التغيير من الداخل هو الذي يفسر الإجماع الذي حظي به الحكم الجديد ليس في الخارج فحسب ولكن في الداخل أيضا. فقد كان الجميع على اقتناع بأن مثل هذا التغيير يشكل مصلحة عامة لأنه يخفف من مخاطر الانزلاق إلى الفوضى التي ترافق عادة مراحل الانتقال ويؤمن إعادة إدماج سورية في الحياة الدولية بتكاليف أقل كثيرا مما تستدعيه الانقلابات والثورات الشعبية. وجاءت التجربة المرة للانتقال الفوضوي في العراق لتزيد من اقتناع الرأي العام السوري والعالمي معا بأفضلية هذا النمط من التغيير. وفي هذا السياق ضاعفت الدول الغربية من دعمها للنظام، وبشكل خاص الدول الأوروبية ذات المصالح الأمنية الكبيرة في المنطقة. وأرسلت فرنسا من أجل هذا التغيير السلمي مستشارين وخبراء في التحديث والإصلاح، مؤملة أن تساهم في أن يعيد النظام السوري، الذي لا يزال في بنياته السياسية والاقتصادية يعيش في ما قبل تاريخ الاقتصاد والسياسة المعمول بهما اليوم في بلدان العالم، بناء نفسه بما يسمح للغرب بالتعاون معه ودمجه في الدورة الاقتصادية وفي المعادلة الجيوسياسية الجديدة الشرق أوسطية. لقد تبنت الدول الغربية بشكل واضح، ضد أية نزعات انتقامية أو حتى ديمقراطية مستعجلة كما كانت تقول، مشروع تجديد نظام البعث السوري تدريجيا ومن دون ضغوط خارجية وأعادت المراهنة عليه بما يعنيه ذلك من ضرورة إخراج سورية من انغلاقها وعزلتها ودمجها في اقتصاد السوق الدولية الجاري بناؤها على قدم وساق. لا بل لقد تحولت المشاركة في تجديد النظام وتبنيه موضوعا للتنافس بين الاوروبيين والامريكيين، فطرحت أوروبة مشروع الشراكة المتوسطية لدمج الدول القريبة منها في منظومتها الإقليمية ولو بشكل ضعيف وطرحت الولايات المتحدة مشروع السوق الشرق أوسطية. وكلاهما كانا يحتفظان للنظام السوري بموقع أساسي ومهم في التركيبة الجديدة المنتظرة للشرق الأوسط في ما بعد حقبة الحرب الباردة. ومنذ سنوات ثلاث فقط استقبلت أوروبا الرئيس بشار الأسد وزوجته استقبال الفاتحين في لندن ومدريد وباريس وكانت ترى فيه نموذجاً لجيل جديد من القادة العرب المتنورين العازمين على التغيير ومكافحة الفساد وتحقيق الانتقال ولو تدريجيا إلى نوع من التعددية تغير أسلوب التعامل بين سورية والعالم. وبالمقابل تجاهلت جميع الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، خلال سنوات طويلة المعارضة الديمقراطية السورية على مختلف اتجاهاتها ولم تولها، حتى وقت قريب، أي اهتمام. فما الذي حصل حتى انقلبت الأمور رأسا على عقب في أقل من سنتين وصار التكتل الغربي ينظر للنظام السوري على أنه أصل البلاء ومنبع جميع المصائب المحيقة بالشرق الأوسط؟

الانقلاب الدولي على النظام

ليس هناك شك في نظري في أن سورية قد أضاعت في السنوات الخمس الماضية أكبر فرصة تاريخية عرضت لها في سبيل الخروج مما يقارب نصف قرن من التقوقع والانغلاق والتقهقر في معايير المعيشة والمعاملة والحكم والحياة عموما وفي النهاية الترهل والتعفن والفساد. فقد توفرت للنظام الجديد شروط داخلية وخارجية لم تتوفر لأي نظام آخر، بما في ذلك النظم المحسوبة على الغرب منذ عقود طويلة. فقد كان الشعب خائفا فعلا من أن يؤدي التغيير إلى انقلاب واضطراب في السلام الأهلي فوجد في تبني الحكم مشروعا للاصلاح التدريجي مخرجا استثنائيا لأزمة البلاد. ولم يكن موقف الدول الأوروبية والولايات المتحدة مختلفا عن ذلك كثيرا. فقد اعتقدت هي أيضا أن إصلاح النظام من الداخل يوفر عليها مخاطر كبيرة ويمكنها من الاستفادة في الوقت نفسه من إمكانيات النظام البعثي وخبرته الطويلة في محاصرة بؤر الارهاب والعنف المتنامية في المنطقة والعالم. وكان من المنتظر أن يستفيد الحكم السوري بشكل كبير من المراهنة القوية التي وضعها التكتل الغربي، الأمريكي والأوروبي، عليه وعلى استمراره ويوظفها في إطلاق مشروع إصلاح كبير يمكن سورية من أن تتحول إلى رائدة في المنطقة عن طريق الجمع بين الرعاية الاستثنائية التي يحظى بها من قبل الدول الصناعية الكبرى من جهة وما تتمتع به سورية من موقع وموارد بشرية تحسد عليها وما يحظى به شعبها أيضا من تقدير واحترام لدى جمهور واسع في العالم العربي وخارجه أيضا بسبب نضاله وتراثه الحضاري العريق من جهة ثانية.
لكن عاملين قويين ساهما في تبديد تلك الفرصة قبل أن يدفعا إلى تغيير الموقف من النظام السوري من النقيض إلى النقيض، فيحولانه من موضوع رعاية وعطف شاملين إلى موضوع نقمة ورفض قاطعين، في الداخل والخارج على حد سواء، وتقريبا في الوقت نفسه. العامل الأول داخلي يتلخص في نظري في ما تميزت به القيادات المختلفة في الحزب والإدارة العسكرية والمدنية من سوء قراءة للأحداث، وعجز عن تجاوز المصالح الضيقة السائدة في النظام بالإضافة إلى قدر كبير من انعدام الخبرة السياسية والسقوط في حمى المزاودات الرخيصة بالوطنية لقطع الطريق على المعارضة الداخلية وتجنب فكرة المشاركة. أما العامل الثاني فهو من دون شك ما تميزت به السياسة الامريكية بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 من تخبط واضطراب. فبينما حالت مثالب النظام دون تحقيق الحد الأدنى من التغيير والإصلاح المنشود وبالسرعة المطلوبة لوقف مسار التدهور المتواصل في المناخ السياسي وشروط الحياة المعنوية والمادية والاجتماعية، جاءت السياسة الهجومية الرعناء لإدارة الرئيس الجمهوري لتعيد الأجندة الوطنية والقومية إلى مركز الأولوية في تفكير الجمهور الواسع، مما أضعف قضية المعارضة الديمقراطية ودفع النظام إلى الاعتقاد أن بإمكانه مقايضة استحقاقات التغيير والاصلاح الداخليين برفع الشعارات الوطنية والعزف على وتر العداء للاستعمار والامبريالية والالتفاف حول السلطة في مواجهة الأخطار الخارجية.

أثار إخفاق النظام في التكيف مع الوضع الجديد وتمسكه بصيغته وسياساته القديمة المتسمة بالانغلاق وعدم الشفافية والتكور على النفس والشك بأي تغيير خيبة أمل عميقة لدى العواصم الغربية وليس فقط في وسط الرأي العام السوري. ولم يحصل ذلك دفعة واحدة وإنما كان ثمرة تراكم خبرة السنوات الخمس الماضية جميعا. فقد كان للاعتقالات والعقوبات غير المعقولة وغير المقبولة بأي معيار دولي للناشطين السياسيين والمدنيين وفي مقدمهم الشخصيات الثمانية الذين شاركوا في ندوة منتدى الحوار الوطني للنائب رياض سيف في الخامس من سبتمبر 2001 أثر سلبي جدا على رصيد النظام الخارجي. وجاء استمرار عمليات الاعتقال وعجز النظام عن ايجاد صيغة مقبولة للتعامل مع حركة المجتمع المدني التي كان العالم الخارجي ينظر إليها بتفاؤل في سبيل مساعدة النظام القديم على الخروج من جموده بصورة تدريجية وسلمية وتصاعد إجراءات القمع وتكميم الأفواه وإخفاق المؤتمر العاشر لحزب البعث (يونيو 2005) الذي مثل فرصة أخيرة في مراجعة الحساب وتبديل السياسات القديمة وإنقاذ مشروع التغيير لتقنع الرأي العام السوري والغربي بانه لا أمل يرجى من الحكم الجديد في تحقيق أي إصلاح. وبدأ صبر المتعاطفين المحليين والشركاء الغربيين ينفذ بسرعة، وخلف الحماس للنظام الجديد والتفاؤل بقدومه حرقة وندم على ما تم من استثمار فيه ورهان عليه.
ومع ذلك لم يتخذ التحالف الغربي أي موقف سلبي من النظام، وظل يدعو للتعامل الايجابي معه إلى فترة قريبة. وحتى بعد احتلال العراق، وبسبب التقاطع الواضح بين الموقف السوري والموقف الأوروبي، لم يؤثر الدعم العلني الذي قدمه الحكم للمقاومة العراقية على استقراره ومد يد التحالف الغربي له. ولم تتردد واشنطن في التعاون الأمني معه وتبني موقف تشجيعه وإغرائه بالمساعدات في سبيل توسيع تعاونه معها. إن الأيام الصعبة للنظام لم تبدأ إلا على إثر القطيعة التي حصلت بينه وبين حليفه الرئيسي في الغرب، فرنسا، التي كانت تقدم له الحماية والرعاية والتغطية والدعم، وكان ذلك بسبب تمديد ولاية الرئيس اللبناني لحود من دون تفاهم مع الحلفاء بل ضد إرادتهم وبالرغم من تدخلاتهم لدى النظام السوري لوقف هذا المسار كما ذكرت الصحافة مرارا في ما بعد. فبتخلي فرنسا عن النظام ومن ورائها أوروبة وتصاعد شكوك واشنطن بعدم جدية التعاون السوري وباحتمال خسارتها للحملة المكلفة في العراق أصبح الطريق سالكا لتكوين تحالف أوروبي أمريكي ضد دمشق. وهو ما كان عليها أن تحول دونه بأي ثمن.
وعلى الأغلب أنه حتى بعد هذه القطيعة الخطيرة مع الحليف الفرنسي، لم تكن فرص الخروج من المأزق الذي كان يسير إليه النظام قد استنفدت تماما في نظري. فقد كان الغربيون وربما لا يزالون يعتقدون أن التعكيز على نظام بعثي ضعيف خير من المغامرة بتغيير غير مضمون النتائج كما حصل في العراق. لكن اعتداد النظام بنفسه إلى درجة كبيرة نتيجة الاعتقاد بأن الغرب ليس لديه بديل له وأنه مضطر في النهاية إلى القبول بالحوار معه على شروطه ومن دون إحداث التغييرات السياسية المطلوبة لتعزيز عملية التحرير الاقتصادي، حرمه من إدراك المخاطر المزدوجة للجمود على الجبهة الداخلية واحتمال استمرار المواجهة على الجبهة الخارجية. وجاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمظاهرات الشعبية الواسعة التي اندلعت في لبنان تطالب بخروج الجيش السوري، ثم خروجه بالفعل بالطريقة المعروفة، لينهي عصر التسامح والتعامل الايجابي الطويل مع الغرب ويقلب الوضع رأسا على عقب. ولم تساهم السياسات الأمنية المتشددة التي أعقبت المؤتمر العاشر لحزب البعث الحاكم في وقف دينامية العداء المتنامي للنظام بقدر ما أعطت الدليل على عجز النظام عن التغيير كما لو انها جاءت لتقطع الشك باليقين وتزيل أية أوهام عند من كان لا يزال يعتقد بحصول المعجزة.
لقد وقع النظام، ولم يعد لأي طرف مصلحة في مساعدة نظام معطوب ومخيب للأمال على الخروج من عثرته. فالولايات المتحدة التي تعيش هوس هزيمة عسكرية منكرة في العراق تجد في هذه الوقعة فرصة لا تقدر بثمن كي تحول النظام السوري الضعيف إلى كبش فداء وترمي عليه المسؤولية كلها في إخفاقها الذريع هناك. كما أن فرنسا التي شعرت بأنها خدعت مرتين تعتقد بأنها قد أعطت للنظام فرصا كافية حتى يظهر فيما إذا كان قادرا على إصلاح نفسه وأنها أصبحت مقتنعة الآن بأن أي جهد جديد يبذل على هذا السبيل سيكون مضيعة للوقت. باختصار، في حالة الضعف التي وصل إليها النظام، لم يعد أحد، لا في الولايات المتحدة ولا في أوروبة يشعر بمصلحة في إعادة الحوار معه أو الرهان عليه، وذلك بصرف النظر حتى عما إذا كان مسؤولا بالفعل عن اغتيال الحريري ودعم قوات التمرد في العراق أم كان بعيدا عن ذلك. فالحصان الذي يقع ويكسر ساقه في ميدان السباق لا يعول أحد على شفائه ولا يراهن عليه.