نظام البعث في عامه الواحد والأربعين

2004-03-17:: الجزيرة نت

 

رغم كل المظاهر المخادعة العديدة والمفارقات، يبدو لي أن ما يحصل لنظام البعث في سوريا اليوم لا يختلف عما حصل للأنظمة الشمولية القائمة على سيطرة الحزب الواحد وإلغاء الحياة السياسية والفكرية وصب المجتمع كله في قوالب حديدية، والسيطرة الكاملة في الاقتصاد والإدارة لبيروقراطية الدولة العقيمة على حساب المبادرات الفردية لجميع الناس وليس فقط لطبقة أصحاب المشاريع والأعمال الرأسمالية.
ففي جميع البلاد التي طبق فيها هذا النموذج أخفقت السلطة في إيجاد حلول ناجعة للمسائل الداخلية والخارجية التي واجهت ولا تزال تواجه بناء المجتمعات الحديثة والنامية منها خصوصا، سواء ما تعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو المساواة القانونية أو مسايرة التحولات والتجديدات الحضارية أو مواجهة التحديات والاعتداءات الخارجية الماسة بالسيادة الوطنية.
وهكذا تعرضت النظم التي استلهمت هذا النموذج لأزمات متتالية حادة واضطر أصحابها، تحت ضغط الإخفاقات المتفاقمة التي راكمتها، إلى إعادة هيكلتها أو بنائها بما يتفق مع الأوضاع الإقليمية والدولية الجديدة. لكن الفشل المحتم الذي أظهرته إعادة هيكلتها قد أدى في الأغلبية الساحقة من الحالات إلى دخولها السريع في مرحلة التفكك الذاتي الحتمي والذي لا يمكن العودة عنه.
يمكن معاينة هذا التفكك في نظام البعث على مستوى النشاطات والقوانين الاقتصادية كما يمكن معاينته على مستوى التوازنات السياسية والتحولات الإيديولوجية. ففي الوقت الذي تتراجع فيه مواقع الطبقة البيروقراطية المتهمة بالفساد ويدخل الانقسام والشك والحيرة إليها، تصعد في المقابل وبسرعة واضحة طبقة رجال الأعمال الجدد الناشئين في حضنها وضدها معا، تحت رعاية العلاقات الزبائنية، العائلية أو العشائرية أو المصلحية.
وفي الوقت الذي تتفكك فيه السلطة الحزبية ويزداد السعي إلى تهميش الحزب الحاكم والقائد تبرز أجهزة الأمن إلى السطح باعتبارها المؤطر السياسي الحقيقي للمجتمع والدولة. ومن الواضح أن حزب العهد الجديد الحقيقي اليوم هو الأمن وأجهزته الضامنة للنظام والكافلة لاستقراره واستمراره واتساقه وإعادة إنتاجه، أي المسيرة لمؤسسات دولة وحزب لا روح فيها والمحركة لقوى نظام لا محرك لها من داخلها. فالأمن هو اليوم لحمة النظام والدولة والمجتمع المدني الحقيقية ومرجعيتهم جميعا، ومن دونه ليس هناك لا دولة ولا سلطة ولا نقابات ولا جمعيات "مدنية".
وهذا الدور الحاسم هو الذي يفسر تزايد نفوذ هذه الأجهزة وتوسع دائرة عملها وسيطرتها على الحياة العامة والخاصة معا كما يفسر في الوقت نفسه التبدل الواضح في أسلوب عملها وتعاملها مع الأفراد. فمما لا شك فيه أن أجهزة الأمن تميل اليوم إلى الاقتصاد بشكل واضح في استخدام وسائل القمع الغليظ والعنف والتعذيب المرعبة التي كانت رائجة في السابق وتستبدلها بوسائل جديدة تمزج بين الضغوط السياسية والنفسية والتهديدات والتخويف وتهدف إلى التحييد والاحتواء أكثر ما تهدف إلى التصفية والإفناء. ومن هنا يظهر رؤساء الفروع الأمنية اليوم، أو يسعون إلى الظهور بمظهر كأصحاب عقائد وآراء فكرية وقيادة سياسية.
ولم يعودوا ينظرون إلى أنفسهم كقوى أمنية تقليدية وإنما يتصرفون كمثقفين ينافحون عن النظام ويبلورون إيديولوجيته الجديدة وحججه، ويحصرون بهم وحدهم مهام التعامل مع المجتمع من مثقفين ورجال أعمال وسياسيين معارضين وناشطين مدنيين بل وحرفيين عاديين.
فهم الذين يحللون ويحرمون ويناقشون ويحاورون ويفاوضون في الداخل والخارج معا ويقترحون الحلول والمشروعات ويقررون ما يفيد وما لا يفيد البلاد. وهم الذين يسنون قواعد العمل ومعايير السلوك السليم والشاذ ويعرفون أنماط التفكير، البناء والهدام، في الحزب والمجتمع والدولة معا، في الوقت الذي تبقى فيه القيادتان القطرية والقومية مجهولتي الهوية وبالكاد يسمح لأحد من أعضائهما اللقاء أو الحوار أو النقاش مع أي من رجال الدين أو الثقافة أو الاقتصاد أو الإدارة أو المعارضة أو أي رجال آخرين.
باختصار فإن مسؤولي فروع الأمن لا يظهرون في أي شكل كأدوات في يد السلطة السياسية ولكن ربما عكس ذلك تماما، أي كقادة سياسيين وزعماء مذاهب واتجاهات واجتهادات مستقلة. إنهم شركاء أصلاء في النظام وقادة عظام أو فوق العادة للمجتمع والدولة والحزب.
والفرق كبير بين أسلوب حكم الحزب الواحد وأسلوب حكم الأمن كإطار لتنظيم العمل السياسي، أو بين الاستخدام الموسع لأجهزة الأمن وأمننة الجهاز السياسي. فإذا كان خطر حكم الحزب الواحد هو الارتهان لأجندة عقائدية تخفي الحقائق وتقود إلى توليد شبكات المصالح النفعية الخصوصية فإن خطر السلطة الأمنية هو تطبيق أجندة محورها الرئيسي الاستقرار والاستمرار، وجوهر عملها التحكم بحركة الناس والتضييق ما أمكن عليهم حتى تضمن طاعتهم وتسليمهم وولاءهم الدائم والكامل.
إن سيطرتها على الفكر والفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تعني شيئا آخر سوى التعقيم المنهجي للمجتمع بأكمله وشل حركته وتفريغه من أي عنصر إرادة أو وعي. فهي ترى في كل حركة أو تحرك حتى لو صدر من مجموعة شبان يعدون على أصابع اليد وكان هدفه تنظيف الشوارع أو حماية البيئة، خطرا كامنا على السلام الأهلي والاستقرار والاستمرار.
مثالها الأعلى لو أمكنها تحقيقه هو ثبات الناس في مواقعهم ومراتبهم وأفكارهم وعواطفهم بحيث لا تضطر إلى متابعة تغير أحوالهم في كل يوم وتبدل أفكارهم أو علاقاتهم وولاءاتهم. وطموحها الحقيقي هو أن تتحول إلى قدر لا يمكن لأحد أن يفلت منه أو يحلم بالإفلات منه، فتضمن بذلك معرفة مسبقة وفورية بأحوال الناس وأوضاعهم من الولادة حتى الممات وتفرض عليهم الطاعة والانصياع لها، أي لقدرهم، من دون تردد ولا مداورة ولا مناورة ولا اعتراض.
وفي سياق هذا التحول العميق في طبيعة الوضع والانتقال من السلطة الحزبية العقائدية إلى السلطة الأمنية تتبدل أيضا الأيدولوجية والشعارات والمصطلحات فتحل محل أيدولوجية الثورة القومية، وشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية وحكم العمال والفلاحين والقضاء على الاستغلال ومحاربة الإمبريالية والاستعمار، أيدولوجية جديدة محور شعاراتها ضمان الأمن والتمتع به والحفاظ على الوحدة الوطنية وإخماد الفتن الطائفية. بل إن سيطرة أجهزة الأمن تبدو في هذه الأيديولوجية استجابة للخصوصية السورية نفسها.
بالتأكيد لا يمكن لهذا التفكك والتحول في توازنات النظام الداخلية وتراجع مواقع الطبقات البيرقراطية أمام الصعود الكاسح أحيانا لذئاب "رجال الأعمال" الضارية من الشباب وأصحاب المصالح الخاصة في حضن الطبقة الزبائنية المغلقة ألا يولد توترات وتناقضات وصراعات داخل النظام.
ومما لا شك فيه أن قطاعات كبيرة متنفذة من بيرقراطية الحزب والدولة والجيش التي تشعر بأن الأرض بدأت تميد تحت أقدامها لا تنظر بعين راضية إلى هذا التغيير الذي يهمشها لصالح الفئات الجديدة التي تهم بوراثة كل سلطاتها وامتيازاتها، تحت الحماية السياسية والقانونية والإعلامية الشاملة للدولة وفي ظروف استثنائية يعززها قانون الطوارئ وإلغاء الحياة السياسية والفكرية.
لكن ما يخفف من هذه التوترات ويساهم في ضبطها حتى الآن هو نجاح القرابات العائلية والزبائنية في ضمان وحدة السلطة وتجديدها على جميع المستويات وتهميش القوى المعارضة أو المناوئة داخل أوساط الحزب والدولة.
فليست فئات رجال الأعمال الجديدة الصاعدة، هي نفسها، سوى ثمرة الفرز الذي حصل داخل بيرقراطية الدولة والحزب في العقود السابقة لصالح الفئة الأكثر قربا من أصحاب السلطة ومالكيها.
وربما كان التساهل مع القطاع العام وتركه في حالة بين الموت والحياة ينبع من الرغبة في توفير معارك ليست راهنة ولا حاسمة بعد. وهو ما ينطبق أيضا على مراعاة وضع الحزب ومكانته في الدولة. فبالرغم من استمراره إطارا لمرجعية شكلية على سبيل تأكيد الاستمرارية والتغطية على التحولات الحقيقية، لم يعد للحزب الحاكم أي سلطة فعلية بل ولا حقيقة سياسية موحدة، لا على مستوى العقيدة والأيدولوجية ولا على مستوى التنظيم ولا على مستوى ممارسة السلطة والقرار السياسي. ولم يكن واجهة لسلطة تتقرر خارج صفوفه ومؤسساته في أي وقت كما هو عليه اليوم.
يثير هذا التفكك المتواصل في النظام القائم مشاعر وانطباعات متباينة ومتناقضة أحيانا عند الأفراد. فبقدر ما يبعث التبدل في بنية النظام الاقتصادية والاجتماعية شعورا بنهاية الحقبة البعثية يعزز استمرار نظام التهميش السياسي وغياب الحريات والحقوق الأساسية وسيطرة المحاسيب حتى داخل القطاع الاقتصادي الجديد الشعور المقابل بالجمود والدوران في الفراغ، بل أحيانا بتراجع الوضع عما كان في العهد القديم.
ومن هنا يسود في أوساط الرأي العام شعور ملتبس بأن كل شيء يتغير ولا شيء يتغير معا. ففي الوقت الذي توحي فيه جميع الدلائل بأن سوريا تعيش نهاية عصر يظل كل شيء على حاله بصورة غريبة.
وبالفعل لا يعني التفكك ولادة نظام جديد ولا فتح آفاقا جديدة وإنما بروز كل القيم السلبية للنظام القائم. فموت القطاع العام والاقتصاد المخطط القديم لا يقود إلى نشوء اقتصاد سوق حي قائم على توسيع المنافسة وزيادة الاستثمار وامتصاص البطالة وارتفاع مستويات المعيشة، بقدر ما يعني تغيير أساليب "وضع اليد" والتركيز المتفاقم للثروة.
ولا يعمل تهلهل صورة البيروقراطية، التي تبدو اليوم عارية تماما، فاسدة، مفتقرة للحد الأدنى من الكفاءة ومن الشعور بالمسؤولية، على ولادة طبقة رأسمالية نشيطة وحرة فعلا مستقلة عن شبكات المصالح الزبائنية والعائلية بقدر ما يعزز من نفوذ هؤلاء داخل الدولة.
كما لا يؤدي تحييد الحزب الواحد وانهيار معنويات أعضائه وشللهم وهجر الناس لجميع مؤسساته إلى ولادة قوى سياسية جديدة ونشوء أحزاب منافسة تضم قطاعات الرأي العام المنفكة عن النظام وتنظم حركتها لتجاوز الوضع الذي قاد إليه بقدر ما تزيد من الشعور بالتهميش وانعدام القدرة والحيلة.
ولا تنحسر العقيدة التقدمية بقيمها وشعاراتها التاريخية لصالح توسع وانتشار عقائديات سياسية أخرى ديمقراطية أو اجتماعية أكثر إنسانية أو حتى لصالح بلورة عقائد وشعارات ومفاهيم وثقافة نقيضة لتلك الثقافة الجوفاء القائمة على التكرار والكذب والغش وازدواجية الخطاب والمعايير بقدر ما تعمق من الشعور بالفراغ والبؤس الفكري والروحي معا.
باختصار، لا يبدو أن موت النظام القديم يترافق بنشوء نظام جديد مختلف فعليا عن السابق بقدر ما يظهر وكأنه إعادة تجديد وتنشيط لنظام السيطرة الشاملة نفسها وما يتضمنه من التضييق القاسي على حرية الأفراد الفكرية والسياسية وتقليص دائرة المشاركة والتمييز العملي فيما بينهم والاستمرار في قيادتهم بالطريقة التقليدية القائمة على التجاهل الكامل للإرادة الأهلية.
ولذلك لم يؤد تراجع أشكال المعاملة القاسية التي كان يتعرض لها الأفراد، وهو تراجع يعترف به المثقفون والناشطون المدنيون، إلى الشعور بالانفراج، بقدر ما يزيد من الشعور بالضيق وثقل وطأة الأجهزة الأمنية والمراوحة في المكان وخيبة الأمل. ويبدو الوضع كما لو أن إصلاح النظام لم يكن سوى استعادة مؤلمة للقيم والسلوكيات الماضية أو عودة أبدية إلى نموذج واحد من حكم الوصاية والإكراه.
هكذا يتفكك النظام القديم ويموت في مناخ مفارق يختلط فيه التفاؤل والأمل والانطلاق بالتوتر والشعور المتزايد بالتهميش والإحباط واليأس. وهو مناخ مثير للقلق والحيرة وحامل لكل الاحتمالات.