نحو مرحلة جديدة من المواجهة السورية-الأميركية

2003-10-15:: الاتحاد

 

يشكل الهجوم الذي نفذته القوات الإسرائيلية على قرية عين الصاحب قربدمشق في الخامس من أكتوبر 2003 تحولا كبيرا في الاستراتيجية الأميركية التي تبلورتبعد احتلال العراق تجاه النظام السوري. فلا تكمن أهمية ما حصل في تجرؤ إسرائيل علىخرق اتفاقية فك الاشتباك التي وقعت عليها مع سوريا في عام ،1974 وليست هذه،بالمناسبة، أول مرة تقوم فيها إسرائيل باستفزاز عسكري أو ذي طبيعة عسكرية تجاه دمشق. ولكن المهم فيما حدث وما سيكون له نتائج كبيرة في المستقبل هو في نظريالترحيب الواضح الذي حظي به هذا الهجوم المنتهك للقانون الدولي من قبل العاصمةالأميركية. فقد فتحت تصريحات الرئيس جورج بوش الذي أعلن تأييده التام للعمليةالعسكرية الإسرائيلية وطالب سوريا، بالمناسبة، بتفكيك ما أسماه بنى الإرهاب علىأراضيها، الباب أمام تل أبيب لممارسة سياسة تعرية استراتيجية مستمرة لسوريا تفقدالنظام مصداقيته وتضعه أمام تحد استراتيجي وسياسي ليس لديه أي رد عليه. وما صدر عنالمسؤولين الإسرائيليين من تصريحات عدوانية تالية، بما في ذلك التهديد بإسقاطالنظام السوري، يؤكد أن واشنطن قد أطلقت يد إسرائيل في تحجيم دور سوريا باسم متابعةالارهابيين أينما كانوا وتدمير قواعد الإرهاب. وبصرف النظر عما إذا كان مثل هذاالتحول يخدم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أم لا يخدمها ويصب مباشرة في مصلحةإسرائيل، يعبر التوجه الأميركي الجديد، وما أعقبه من مساهمة أميركية كبيرة في إضعافالموقف السوري في مجلس الأمن من خلال اعتراضها على مشروع القرار المطروح للحصول علىإدانة للهجوم الإسرائيلي، عن نقلة كبيرة في سياسة الولايات المتحدة التي بدت حتىوقت قريب مترددة في تعاملها مع النظام السوري وميالة بشكل أكبر، بسبب انقسام الرأيفيها والمراهنة على التغير السلمي للنظام، إلى استخدام الوسائل السياسيةوالدبلوماسبة بدل اللجوء إلى الحلول العسكرية.
ويندرج في سياق السياسة الجديدةنفسها ما يبدو من موافقة الإدارة الأميركية، لأول مرة منذ طرحه في الكونغرس، علىالمصادقة على قانون معاقبة سوريا الذي أظهرت الإدارة في السنوات الماضية حرصها علىتجنبه كي لا تثير دمشق وتضعف آمال واحتمالات التفاهم معها في ظرف هي بأشد الحاجةفيه إلى تعاون الدول العربية لضبط الوضع المتدهور في العراق. والسؤال هو: ما الذيحصل حتى غيرت واشنطن سياستها تجاه سوريا وتبنت في التعامل مع دمشق النظريةالإسرائيلية نفسها، أي مبدأ استخدام القوة؟ وما الذي تنتظره واشنطن من تبني مشروعقانون يضع سوريا في موقع الدولة المارقة ويضعف بالتالي فرصها في التوصل إلى تفاهمإقليمي يضمن لها استقرار الوضع في العراق والتقدم في الملف الفلسطيني الذي جعلتواشنطن من إغلاقه في العامين المقبلين ثمن قبول العرب بسيطرتها على المنطقةوالإقامة العسكرية والسياسية الدائمة فيها؟ هل هو فراغ صبرها من الحكم السوري والشكفي قدرتها على تطويع النظام في دمشق وإجباره على العمل وفق القواعد التي رسمتها، أوأرادت لها أن تضبط سلوك الأطراف العربية في المنطقة، بالطرق السلمية وإدراكهاالمفاجئ بأنه لم يعد أمامها لإقناع دمشق إلا التحول نحو الخيارات الأخرى التي كانكولن باول قد عبر عنها بعد زيارته لدمشق في الربيع الماضي عندما قال ما معناه: لقدأخبرنا السوريين بما نريده بالطرق الدبلوماسية ونحن ننتظر استجابتهم وإلا فلديناخيارات أخرى؟ هل هو انتصار اللوبي المؤيد لاسرائيل أو المطبق لجدول أعمالها داخلهذه الإدارة في الوقت الذي كان من المفروض أن يضعف بسبب المأزق العميق الذي تجدالإدارة نفسها فيه في العراق وفي فلسطين معا؟ أم هو ما يسببه الموقف السوري بالفعلمن عقبة أمام تطبيق الخطة الأميركية الشرق أوسطية ابتداء من العراق وانتهاءبفلسطين،

وأن واشنطن مقتنعة بتقديم دمشق عونا كبيرا للمقاومة العراقية والفلسطينية؟أم هو شعورها بأن النظام السوري الذي يواجه موجة قوية من المطالب الداخليةالاجتماعية والسياسية ويتعثر في سعيه للخروج من الأطر التقليدية وتحقيق برنامجالإصلاح قد أصبح ضعيفا بما فيه الكفاية حتى تأمل بانتزاع ما تريده منه؟ أم أنالإدارة الأميركية الجمهورية التي تواجه مصاعب حقيقية في العراق وتكاد تصل إلى طريقمسدود في الملف الفلسطيني تحتاج إلى اختلاق معارك جانبية للاحتفاظ بتعبئة الرأيالعام الأميركي وراءها في حقبة الإعداد للانتخابات الرئاسية القادمة، وأن هذا السعيقد وافق سعيا مماثلا لدى حكومة ليكود للتغطية على إخفاقها في وقف العمليات الفدائيةالفلسطينية وتأمينها لما كانت قد جعلت منه عنوان مشروعها للحكم، أعني ضمان أمن أكثرلاسرائيل والإسرائيليين؟
لا أعتقد بالفعل أن اللوبي الليكودي في البيت الأبيضكان في موقف يسمح له بالتفكير بمثل هذه النقلة الخطيرة في السياسة الأميركية الشرقأوسطية في الوقت الذي تزداد فيه الانتقادات الموجهة لسياسة كوندوليزا رايسورامسفيلد في الولايات المتحدة نفسها. ولا يبدو لي أن من الممكن أن تقع واشنطن أوتل أبيب في وهم الاعتقاد الساذج بأن استمرار المقاومة الفلسطينية في الداخل يتأثربشكل أو بآخر بوجود مكاتب المنظمات الفلسطينية الإعلامية في دمشق ولا أن الهجوم علىهذه المكاتب في دمشق أو تهديدها يمكن أن يوقف المعركة في فلسطين أو يضعف معنوياتالمقاتلين فيها من أجل الحرية والاستقلال. ولا أعتقد كذلك أن هناك مبررا واقعيا كيتشعر واشنطن وإسرائيل بالقلق الفعلي مما يمكن أن يؤثر به اليوم بلد صغير ينوء تحتأعباء أزماته الداخلية والخارجية ويمر بمرحلة انتقالية صعبة وحساسة تحكم عليهبالانشغال العميق بمشكلاته الداخلية، على مشاريعهم الإقليمية. فلا التواجد الإعلاميللمنظمات الفلسطينية في دمشق ولا عبور بعض الأشخاص العرب، كما يقول الأميركيون،الحدود السورية إلى العراق ولا تواجد القوات السورية في لبنان يشكل تهديدا للمصالحالأميركية بأي حال. وباستثناء الخطابات الدعائية الموجهة للاستهلاك الشعبي لا يحلمالنظام السوري بشيء آخر سوى السلام والأمان الخارجي. 
إن الحافز الأكبر للتحرشالإسرائيلي-الأميركي العسكري بسوريا هو في اعتقادي حاجة واشنطن وتل أبيب في الوقتنفسه، لتجاوز ما يشكل بالنسبة لحكومتيهما معا ورطة حقيقية في العراق وفلسطين،لمكاسب سريعة سياسية واستراتيجية تغطي على إخفاقهم، النسبي على الأقل، وتفتح آفاقاجديدة لقلب موازين الصراع من جديد في المنطقة. وهي مكاسب بدت أو تبدو في نظرالأميركيين والإسرائيليين المتعطشين لتوجيه ضربة إلى سوريا منذ فترة طويلة، سهلةالمنال أمام ما يظهر على الأوضاع السياسية السورية من تدهور وضعف. وتأمل واشنطن وتلأبيب أن تؤدي ضربات إسرائيل العسكرية الموجعة إلى إرهاب دمشق واجبارها على التكيفمع المطالب الأميركية وفي مقدمتها الانخراط بالحرب العالمية ضد الإرهاب. والذي يغريالأميركيين بشكل أكبر هو اعتقادهم بأن سوريا تشكل مفتاحا أساسيا في هذه الحرب وأنلدى أجهزتها معلومات وخبرات مهمة في هذا المجال. باختصار إن واشنطن تعتقد أنهاتستطيع اليوم أن تنتزع من دمشق تعاونا جديا وثابتا كان قد بدأ لكنه توقف بسبب طموحدمشق للحصول بالمقابل على مكاسب سياسية. وهي تأمل بأن تقودها سياستها الجديدة إلىأن تفرض على سوريا مثل هذا التعاون من دون أن تضطر إلى تقديم أي مقابل له، إنماكتعبير عن التزام دمشق الحقيقي بالحرب ضد الإرهاب. والواقع أن هذا لا يعني شيئا آخرسوى رفض واشنطن الاستجابة إلى فتح ملف الجولان وإنهاء ما تسميه مرحلة التسامحالطويلة مع السوريين والبدء بخطة هدفها تحجيم النظام وتعريته من أوراق دفاعهالذاتية، الداخلية والإقليمية، مهما كانت نسبية، كمرحلة أولى على طريق استتباعهواحتوائه أو تفكيكه. وهي تشكل بالتالي بداية العمل من أجل تقويض الوضع السوري علىطريق تحقيق مشروع إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من وجهة نظر ومصالح التحالفالأميركي-الإسرائيلي. 
هكذا تعتقد واشنطن أن سياستها الجديدة تجاه دمشق يمكن أنتساهم في تعزيز الموقف الأميركي في الشرق الأوسط وتعمل على تثبيت مكاسبها فيالعراق• ولا شك أن ما شهدته السلطة السورية من تقلب في سياساتها الداخليةوالخارجية، أو على الأقل ما أوحى به تباين التصريحات وتناقض الرسائل التي نقلتهاللعالم الخارجي وللرأي العام السوري معا في الأشهرالستة الماضية، قد أعطى لواشنطنوتل أبيب الانطباع بأن النظام يعاني من اضطراب عميق وأنه فاقد لاتساقه الداخليومنقسم على نفسه• وأن توجيه ضربات عسكرية منسقة إليه يمكن أن يدفع به إلى التصدعبشكل أكبر والانهيار. 
لكن مهما كان الأمر، يفتتح خرق اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 من قبل إسرائيل وتأييده من قبل الولايات المتحدة الأميركية وتبرير تكراره باسمحق إسرائيل في ضمان أمنها ضد الإرهاب مرحلة جديدة في العلاقات السورية الإسرائيليةالأميركية مفتوحة على كل الاحتمالات.