نحو إعادة بناء حقل العلاقات الدولية

2007-06-07:: العرب اليوم

للأسف إذا كان هناك حقل لم تتطور فيه المفاهيم بموازاة تطور مناحي الحياة الحديثة الأخرى، فهو حقل العلاقات الدولية الذي لا يزال يستند إلى قواعد بالية، وضعت في القرن السابع عشر، تشرع في العمق الحرب الدائمة بين الدول، أو تقيم العلاقات فيما بينها على الحرب وتوازن القوة، باسم تأكيد مبدأ السيادة المطلقة للدولة القومية. ومبدأ السيادة مبدأ مغشوش في الأصل لأنه يفترض التساوي في القوة بين الدول، بينما يقوم الواقع على غير ذلك تماما. ولذلك كانت نتيجة تطبيق هذا المبدأ عمليا، أولا تشريع الحروب واعتبارها أمرا طبيعيا، وإجبار جميع الدول التي تريد أن تحافظ على استقلالها ومصالحها على الاستثمار في الآلة العسكرية. وثانيا إعاقة العمل على ايجاد قانون دولي يضبط العلاقات بين الأمم والشعوب على أسس واضحة وحسب معايير واحدة وثابتة، ولا يترك للقوة وللتفوق العسكري الحرية في توجيه العلاقات الدولية، كما هو الحال حتى اليوم. في إطار هذا النظام الدولي الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى الراهنة، والصين وغيرها من القوة الصاعدة في المستقبل، ستظل تجذب الرساميل والأطر والمواهب وتفرض مصالحها على الآخرين بالقوة العسكرية أو بالنفوذ السياسي أو بتخريب النخب الحاكمة والضغط عليها.

الحل، أو ما نطمح إليه حتى نتغلب على الظواهر التي تتحدث عنها، كامن في تجاوز الأسس التي قامت عليها هذه العلاقات منذ صلح ويستفاليا في القرن السادس عشر ووضع قانون دولي ينظر إلى العالم كوحدة متكاملة ومتضامنة، كما ننظر اليوم إلى الجماعات المكونة للأمة داخل الدولة الواحدة، ويتعامل مع شعوبه كأجزاء متساوية الحقوق في منظومة قانونية وسياسية واحدة. وهذا ما يتطلب تغييرا جذريا في السياسات الدولية، ونمطا جديدا من الواجبات والالتزامات والمصالح والمسؤوليات، تقع على عاتق الدول جميعا وعلى النخب الحاكمة. وهذا يعني أن الحل هو في قانون دولي يمنع الدول الكبرى القوية من استغلال نفوذها للاعتداء على مصالح الدول والشعوب الصغيرة، كما يمنع النخب الحاكمة من التصرف ببلدانها كمزارع شخصية وعائلية، كما هو الحال اليوم عندنا باسم السيادة الوطنية. ولن يحصل ذلك إلا نتيجة كفاح جميع القوى الديمقراطية أو المؤمنة بالمساواة والعدالة والحق وتضامنها على مستوى العالم بأكمله.
السؤال الذي يطرح عندئذ هو التالي : هل يمكن بالفعل سن مثل هذا القانون الدولي أم أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من الطوباوية التي غالبا ما رافقت الحياة السياسية تماما كما ترافق الوعود التي لا تجد طريقها للتحقق الحملات الانتخابية؟ ثم من هو الطرف الذي يملك القدرة على أن يسن القانون الذي ينبغي أن تخضع له العلاقات الدولية، وكيف يمكن تطبيق مثل هذا القانون، إذا كانت الدول الكبرى هي التي تعين الحكومات أو النخب الحاكمة في البلدان الضعيفة؟ وهل هناك وسيلة غير القوة للتعامل مع حقل علاقات دولية قائم على مبدأ القوة منذ قرون، بل منذ بداية الحضارة الإنسانية السياسية؟
من ينكر مبدأ القوة يعيش في الأحلام لا محالة، ولا يستطيع أن يغير شيئا من مجرى العلاقات الدولية، ولا حتى الوطنية. لكن في الوقت نفسه من يعتقد أن من غير الممكن تجاوز مبدأ القوة أو على الأقل الحد من استخدامه والعمل على تقييده أو إخضاعه لبعض المباديء الأخلاقية والسياسية يحكم على نفسه باليأس، وينكر على المجتمعات البشرية إمكانية الخروج من حقبة البربرية ومنطق العلاقات الوحشية. وصاحب هذا الموقف اليائس من الانسان يقع في فخ الاستسلام لنظرية القوة أو خيار القوة في الوقت الذي يريد أن يحتج عليه.
إن واقعية المطالبة بإخضاع العلاقات الدولية للقانون تنبع من الاعتقاد ذاته بقدرة الإنسان على الارتقاء بوعيه وضميرة وسلوكه الجمعي والفردي، الذي كان في أساس بناء الدول والمجتمعات الديمقراطية والوطنية المتضامنة والمتعاونة التي يحكم النزاعات بين افرادها منطق الحق والقانون. ودفع الأمور في هذا الاتجاه الايجابي ممكن، وإنما يحتاج إلى مبادرات وضغوط وسياسات جديدة يتوجب على جميع القوى والأفراد المؤمنين بأنه لا ينبغي ترك منطق الغاب يسيطر على العلاقات بين الشعوب، المساهمة فيها والعمل من أجل توسيع دائرتها. ومن هذا المنطق لا ينبغي أن نستسلم للأمر الواقع، وأن نستمر بالعكس من ذلك في الدفاع عن فكرة إقامة النظام الدولي على قانون يضمن العدالة والانصاف، ولا نوفر فرصة من دون إدانة استخدام القوة لنهب موارد الشعوب أو للسيطرة عليها.
وبقدر ما ننجح في تعبئة الرأي العام العالمي لصالح هذا الموقف، نستطيع أن نكبل أيدي أنصار نظرية القوة والتفوق العسكري والعرقي والثقافي وغيره. وهذا ليس طوباوية ولا وهما ولكنه حقيقة ما يحصل كل يوم عندنا وفي العالم. فنحن ، من دون أن نعي، نعمل على أساس صحة فرضية وجود ضمير إنساني، ونتعذب عندما نشعر أن عملنا لا يقدم نتائج كبيرة وسريعة، ولكننا لا نقنط، ونظل نراهن على وجود وعي إنساني وضمير وأخلاق ودين أيضا عند البشر. ونأمل بنشاطنا الإعلامي والفكري والدبلوماسي والسياسي أن ننشط هذا الضمير الإنساني الذي تكون عبر التجربة التاريخية واكتسبته الشعوب، بصرف النظر عن أديانها، بالخبرة الحية، وبعد عذاب طويل. ونبرر عدم النجاح بسيطرة مراكز القوى ومنطق الدولة وشبكات المصالح العسكرية والسياسية. ولا يهدف عملنا إلا إلى تعبئة الأفراد المتحلين بالقيم والوعي ضد النظم وآلات الحرب والقهر والإكراه التي تستغلها فئات صغيرة لتحقيق مصالح خاصة.
ونحن على حق في ذلك. فالمجتمع الانساني ليس إنسانيا، أي يختلف عن المجتمعات الحيوانية، إلا لأن الإنسان يتمتع فيه بوعي وضمير وإرادة، ولديه قيم تتجاوز مصالحه الشخصية وانانيته وقوته الفردية. أما قانون القوة فهو من إنتاج النظم العسكرية والسياسية والدول لا الأفراد. فلو لم تكن هناك هذه الجذوة الانسانية من الوعي لما كان هناك بالفعل أي أمل، ولكان موقفنا موقف القنوط واليأس المطلق. هذه هي جدلية العمل من أجل الارتقاء بشروط حياة البشر، داخل كل بلد، وعلى المستوى العالمي، وتعميم قيم الحرية والعدل والمساواة في العالم. فإذا فقدنا الأمل في مثل هذا العمل وفي مثل هذا الارتقاء بوعي الانسان وبقدرته على الاختيار الأخلاقي، لما كان هناك مخرج من الخضوع جميعا لقانون القوة في حياتنا، ولتحولنا جميعا إلى وحوش، وحولنا عالمنا إلى غابة.
لكن لا يمكن لهذا الرهان أن يستقيم إذا وحدنا الإنسان مع الدول والنظم والثقافات وتجاهلنا الانسان من حيث هو فرد قادر على التأمل والتفكير والمحاكمة، عبر الحدود السياسية والجغرافية والثقافية وبالرغم منها. فالدول والنظم والمؤسسات والهويات الكبرى لا ضمير لها ولا قدرة بالتالي على المحاكمة الأخلاقية. إن من يملك هذه ا لقدرة هو الإنسان الفرد، بفضل ما يتمتع به من وعي وضمير وقدرة على التمييز والمحاكمة. فالأفراد هم مصدر الممارسة الأخلاقية، أي أيضا مركز الحرية، لأن لهم ضمير ووعي وإرادة، وبالتالي قدرة على التمييز والمحاكمة والقرار. وبقدر ما ننجح في تكوين الانسان والنفاذ إلى ضميره نستطيع أن نكبح جماح الدول، وجماح النخب التي تتحكم بها، وأن نحول هذه الدول من أدوات رهيبة للاحتلال والحرب والقهر والاستلاب، كما هو الحال اليوم، إلى أدوات لخدمة التنمية البشرية والتكافل بين بني الانسان. والرهان على الانسان في مسائل الأخلاق والسياسة ممكن بالرغم من وجود آلة الدولة ومنطق عملها البعيد عن الأخلاق.
لا يعني هذا بالتأكيد أننا لا ينبغي أن نستخدم القوة حيث ينبغي استخدامها، لكن كوسيلة لبناء سياسات قائمة على الحق والعدل لا كأساس للحق ومؤسس له. وهذا يعني أن مفهومنا للحق مختلف عن القوة وسابق لها، ونابع من مفهومنا للعدل والانصاف بين البشر. وجوهر العدل والانصاف وقاعدته أن أعامل غيري كما أحب أن أعامل به وأن أريد له ما أريده لنفسي. وهذا هو ما تفترضه الآية الكريمة: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى. باختصار لن ننجح في وقف آلة القوة والعنف التي تهدد إنسانيتنا إلا بقدر ما نبني في ضميرنا نحن أنفسنا مفهوم العدل ونجعل منه ومن تمسكنا به، قوة تتجاوز في تأثيرها القوة المادية، أي بقدر ما نجعل قوة الحق أسطع من الحق الذي ينثق من القوة.