من فهم العلمانية إلى المعارك الزائفة

2015-05-11:: العربي الجديد

لا يوجد مصطلح أسيئ استعماله في الأدبيات العربية الفكرية والسياسية مثل مصطلح "العلمانية"، حتى إنه أصبح في نظر المؤمنين مساوياً للإلحاد، وفي نظر المعادين للدين عقيدة دينية بديلة. والحال ليست العلمانية لا هذا ولا ذاك. وقد ميزتُ في كتابات سابقة بين العصرنة التي تشير إلى تقدم مطالب الحرية والعدالة والمساواة والإخاء عند الفرد الحديث على أي مطالب أخرى، والنظر إلى تحقيقها على أنه مصدر السعادة، وبالتالي غاية الدولة وأي منظومة اجتماعية ومعيار نجاحها. والعلمانية التي هي فلسفة وعقيدة تفيد بأن الذي حال ويحول دون الوصول إلى هذه القيم والسعادة التي تنتجها هو السلطة التي تمتع بها رجال الدين، والتي تجسدت في السلطة الكنسية البابوية على أكمل وجه، وفي شقها الأكثر راديكالية الفلسفة التي تعتبر الدين سببا رئيسا في تغييب هذه المطالب، ومن ثم في الحد من التطلع إلى الرقي في شروط حياة الإنسانية.
والحال أن ليست هناك علاقة حتمية بين العصرنة، أو تحول قيم الحرية والعدالة والمساواة والإخاء وحكم القانون، إلى مطالب مركزية عند الفرد في العصر الحديث، والإيمان بالفلسفة العلمانية. ففي جميع الثقافات والمجتمعات، وعند جميع الأفراد، مهما كانت درجة إيمانهم، أصبح نشدان الحرية، والتطلع إلى السعادة الدنيوية، والاستفادة من التطورات العلمية والتقنية والإدارية لتوسيع هذه الحرية والسعادة، قوة رئيسية، إن لم تكن القوة الرئيسية التي تدفع الأفراد والجماعات إلى بذل الجهد والتضحية والصراع أيضا. وتظهر الدراسة التاريخية أنه لم تظهر فلسفات علمانية على درجة أو أخرى من الوضوح والاتساق، إلا في الحالات التي اصطدم فيها تطلع الأفراد لتحسين شروط حياتهم المدنية، السياسية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية على الأرض، بسلطة دينية قهرية واستبدادية حالت بالفعل دون تطور القيم الدينية التقليدية نفسها عند الأفراد لتساير التطورات الحضارية المدنية. لكن في أكثر التجارب البشرية، حصل الانتقال من منظومة القيم القروسطوية المطبوعة بالبحث عن الخلاص الأخروي نحو القيم الحديثة المتمحورة حول السعادة الدنيوية، من دون صدام مع الدين، بل بالتكيف الطبيعي للدين ورجاله مع متطلبات الحداثة والعصرنة. فالناس هم الذين يحملون الدين في قلوبهم وهم قادرون على إعادة تأويله بما يتناسب مع مطالب رقيهم وتقدمهم الأخلاقي والإنساني، ما لم يحل دون ذلك سلطة قسرية تضغط على الافراد وتمنعهم من ذلك.
وعلى سبيل المثال، لم يحصل الدخول في الحداثة في المجتمعات العربية في سياق الصراع بين سلطة كنسية متحالفة مع النظام القديم وسلطة سياسية-مدنية ناشئة جديدة في المجتمع المدني، ولكنه حصل، في العديد من الحالات، في سياق تطور النخبة الدينية نفسها وتحت رعايتها وإشرافها. بل إن الفلسفة العقلانية العربية الحديثة نفسها قد نشأت في سياق الإصلاح الديني والتأويل العقلاني الذي رافقه على يد رجالات مثل الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهما في مواجهة النخبة الدينية الرجعية والمحافظة. فالعصرنة سلوك عملي وإحساس داخلي وتوجهات وتطلعات عميقة عند الأفراد لمواكبة العصر، بل هي روح العصر. أما العلمانية فهي مبدأ فكري وعقيدة يدافع عنها في مواجهة عقائد أخرى، وبشكل أساسي في مواجهة العقيدة الثيوقراطية التي تسعى إلى حبس التجربة البشرية التاريخية، أي المتحولة، الفكرية والسياسية معا، داخل تأويل ثابت، جاهز وناجز، تحت الإشراف المباشر لسلطة دينية أو مذهبية واحدة وثابتة لا تقبل من الفرد المؤمن سوى التسليم والاقتداء والتخلي عن حقه في الاختيار كما تمليه الحكمة العقلية والضمير.
وغياب الأيديولوجية العلمانية القوي في الثقافات الإنسانية الحديثة، باستثناء الغربية منها، لم يمنع هذه الثقافات من استيعاب قيم الحداثة والانخراط فيها. فليس هناك مجتمع قادر على البقاء مع رفض قيم العصر. والانطلاق من القيم والمعايير الزمنية أو التاريخية والعقلانية هو شرط تحسين شروط هذه الحياة وتحقيق السعادة الأرضية، تماما كما أن التقيد بالقيم الدينية والتمسك بشعائر الدين هو الوسيلة لكسب الحياة الأخرى والسعادة الأبدية.