معركة الحرية

2007-11-07:: الاتحاد

ذكرت في مقال سابق أن إعادة بناء المجتمعات على أسس الوطنية الجامعة تستدعي تغيرا جذريا في موقع الشرق الأوسط باكمله في الجيواستراتيجية الدولية، بما يعزز الاعتراف بالحقوق الوطنية الطبيعية للشعوب واحترام القانون الدولي واتباع طريق الحوار والتفاوض في حل الخلافات، كما يستدعي تغيير المناخ الثقافي والنفسي في المنطقة، ووضع حد لانتشار الطاعون الأسود والرهان الوحيد على العنف. وهذا هو عمل المثقفين والحركات المدنية. فمن دون الجمع بين التحولات الفكرية والتحولات الجيوستراتيجية سيكون من الصعب التقدم على أي من مسارات التحرر الاجتماعي السياسية والمدنية. فلن تكون هناك فائدة من ثورة ثقافية، بل لا أمل في حصولها، في حال استمرار السياسات الأطلسية التي تحرض على العنف وردود الأفعال وثقافة الانكفاء على النفس والتعصب والانتقام. كما لا فائدة من تغيير علاقتنا الجيوستراتيجية وإخراج مجتمعاتنا من دائرة الحرب الدولية، إذا لم يحصل بموازاتها عمل ثقافي واسع يهدف إلى تحرير الشعوب من الخوف والاستلاب والنظرة الدونية للذات وإعادة ثقتها بنفسها وتعميق وعيها المدني والتاريخي وضمان مشاركتها الفعالة في عملية التنمية والبناء.
في هذه الحال، لا أجد حلا أمامنا اليوم سوى الاستمرار في تنظيم وتطوير مقاومتين في الوقت نفسه : مقاومة السياسات الدولية المدمرة لنا ولمجتمعاتنا، ولآمال الانخراط في مسار الحداثة والديمقراطية. ومقاومة السقوط في اليأس والقنوط عند الشعوب، أي، بمعنى آخر، مقاومة الاستسلام لخيار الفوضى والاقتتال الأهلي والدمار، باسم مقاومات مشتته لا أفق لها ولا مشروع. في سبيل مقاومة مرتبطة بمشروع إنساني واجتماعي وأخلاقي.
المقاومة للهيمنة الخارجية لا تشكل لوحدها مشروعا وطنيا واجتماعيا، لأنها لا تجيب على مشاكل الفقر والبطالة والحرية والعدالة والقانون والتنمية. كي تكون كذلك ينبغي أن ترتفع إلى ما فوق إطلاق الرصاص والتأكيد على الهوية الدينية أو القومية.
لكن إذا كان هذا لا يمنعنا ولا ينبغي أن يمنعنا من دعم المقاومة الموجهة للسياسات العدوانية والاستعمارية بأي شكل جاءت، فإنه يلزمنا في الوقت نفسه بعدم التسليم ولا الاستسلام للحركات الانغلاقية ونظريات الحرب والعنف الداخلي، سواء أكان طائفيا ام سياسيا أم اجتماعيا، ولأي هدف كان. مقاومة الهيمنة الخارجية تتطلب وتحتم مقاومة السياسات الداخلية التي تهدد أسس المدنية في مجتمعاتنا وتدفع بها نحو الانحطاط والسقوط في البريرية، سواء أجاءت من طرف النظم السياسية الفاسدة أو من طرف فئات ومنظمات وحركات أهلية.
هذا يعني أن مقاومة الهيمنة الأجنبية لا يمكن ولا ينبغي أن تكون مبررا لصرف النظر عن الطغيانات الداخلية والخروقات المتعددة لحقوق المواطن والانسان. فليس للصراع ضد هذه الهيمنة مبرر آخر سوى مصادرتها حقوقنا وحجرها على إرادتنا وتحويلنا إلى أدوات في استراتيجية ليس لنا أي مصالح فيها. وهو بالضبط ما تقود إليه النظم الاستبدادية اللامسؤولة وحركات التعصب الطائفية والمذهبية. والواقع أن هناك تضامنا ضمنيا عميقا بين الطرفين يبرهن عليه تعايشهما معا. فكما أن السياسات الاستعمارية لا تقف عند حد حرماننا من الحقوق الوطنية ولكنها تتجاوز ذلك إلى حرماننا في الوقت نفسه من إمكانية التحولات الديمقراطية، بقدر ما تقضي على سيادتنا (الشعبية)، كذلك فإن الاستبداد لا يقضي على حرياتنا وحقوقنا الإنسانية فحسب ولكن على حقوقنا الوطنية الجماعية أيضا، بقدر ما يقوض أسس هذه الوطنية في كل فرد فينا ويؤسس للتفرقة المذهبية والطائفية والاجتماعية.
إذا تجاهلنا المقاومة الداخلية، أو فصلنا بين مقاومة السقوط في البريرية والعسف وخرق القانون والعنف الموجه نحو الذات، عن مقاومة سياسات الهيمنة الخارجية، التي هي اليوم غربية، لكن يمكن أن تكون غدا صينية أو روسية، عززنا الاستبداد وأعطيناه مصداقية. فهو صاحب الفصل هذا، وهو يعيش منه وعليه. المقاومة للسياسات الاستعماربة وسياسات التبعية والالتحاق التي تتبعها النظم المحلية اللاشعبية، هي السلفة التي ينبغي تقديمها مسبقا من أجل تحقيق شروط الديمقراطية. إذ لا تقوم ديمقراطية على تبعية وإمعية. والوقوف ضد كل أشكال احتقار الانسان واستعباده من قبل أبناء جلدته هو الرأسمال الوحيد الذي نملكه ولا غنى لنا عنه، للاستثمار في الوطنية، أي في المقاومة الموجهة للسيطرة الخارجية.
الجمع بين تعزيز المقاومة للسياسات الخارجية الحمقاء والعدوانية، وتعميم ثقافة الحرية وممارستها اليومية: ترسيخ مبدأ التعددية في الفكر والسياسة والمجتمع والدين، احترام الفرد، حكم القانون، لفظ العنف، العدالة الاجتماعية، المساواة والسلم الأهلي والسلام العالمي، هذا هو اليوم البرنامج السياسي والثقافي الوحيد الممكن والمطلوب. فهو مشروع مقاومة تاريخية ايجابية وبناءة.
هذا يعني أن الاولوية في السياسة الخارجية ينبغي أن تعطى لمواجهة السيطرة الخارجية تماما كما أن الأولوية في السياسة الداخلية ينبغي أن تعطى للتحويل السياسي والثقافي والفكري الديمقراطي للرأي العام. فكما أنه لا يمكن تحقيق السيادة الشعبية التي هي شرط أي نظام يضمن مشاركة المجتمع وحقه في تقرير مصيره من دون التحرر من السيطرة الخارجية، كذلك ليس من الممكن بناء نظم ديمقراطية من دون تحويل ثقافة الرأي العام المدنية والسياسية وتجديدها. وينبغي أن يكون التعامل مع السلطات القائمة موازيا لانفتاحها على برنامج الديمقراطية وقبولها مبدأ التعددية واحترام حقوق الانسان.
ستبقى الديمقراطية اليوم، في دائرتنا، ثقافة وتثقيفا بشكل أساسي، طالما لم تتغير الشروط الاقليمية والدولية التي تحول دون تحقيقها في الدولة. لكن هل هناك طريق آخر للوصول إلى دولة ديمقراطية من دون الفوز في معركة الحرية، حرية الفرد وحرية المجتمع وتحرير الرأي العام من نفسية الرق التي نجحت السلطات العربية في زرعها فيه؟ بالعكس، إن هذه المعركة هي المدخل الضروري لقيام أي نظام ديمقراطي. وإلا فينبغي الحديث عن "انقلاب ديمقراطي" لا ندري كيف يمكن حصوله، ولا نستطيع أن نضمن نتائجه وان نعرف مصيره. وشرط النجاح في معركة التحويل الديمقراطي للمجتمعات إحياء الذات الانسانية بما تعني من بناء الضمير الحر والروح القانونية، أي روح العدالة، عند كل فرد. وذلك بالكلمة والعمل معا، أي بالصراع ضد كل أشكال التمييز والمهانة والقهر. وهذه هي بالدرجة الأولى مهمة المثقفين، ليس بمعنى الكتاب والأدباء، ولكن جميع المنشغلين بالهم العام والباحثين عن حلول لقضايا شعوبهم، سواء أجاء ذلك في سياق بحثهم عن حلول لمشاكلهم الخاصة أو من خارجه.
الديمقراطية هي مشروع إعادة بناء الفرد والرأي العام على أسس جديدة، إنسانية. بهذا المعنى لا تعود الديمقراطية هدفا بعيدا نحلم بالوصول إليه وننتظر قدومه أو الانقلاب التاريخي الذي يجعله ممكنا. إنها تربية يومية ومنهج إحياء إنساني يبدأ منذ الآن ومن قبل جميع حاملي المسؤولية وقادة الرأي. باختصار معركة الحرية واحدة لا تتجزأ. إنها تكمن في مواجهة كل ما يقف عقبة أمام تحرير الانسان واستعادته ثقته بنفسه وكرامته.