مشكلة السوريين مع روسيا

2017-11-05:: العربي الجديد

 

اعتدت أن أقول لمحاوري الدوليين، منذ تاسيس المجلس الوطني السوري في اكتوبر تشرين١ ٢٠١١ ، إن القضية ليست مشاركة المعارضة في الحكم، مع الأسد أو من دونه، وإنما الرد على تطلعات الشعب، والانتقال به نحو حياة ديمقراطية حرة وعادلة. وإذا أمكن هذا الانتقال من دون مشاركة المعارضة فالمعارضة بغنى عنها. المهم أن تتغير قواعد الحكم الاستبدادي المدمر السائد التي صممت لوضع الدولة والمجتمع معا ومواردهما في خدمة سلطة الحزب الواحد ثم سلطة أسرة الأسد، والقائمة بكل بساطة، رسميا وقانونيا، على الاقصاء العلني الكامل للشعب والتعقيم السياسي الكلي للمجتمع والفرد وحكم الارهاب والاهانة والإذلال المتعمد لتحقير الفرد في نظر نفسه وانتزاع روح السيادة منه وتدجينه وتطويعه على قبول العبودية والتسليم للقوة الغاشمة. دور المعارضة، التي لا تريد شيئا لنفسها، ولا ينبغي أن تفعل، لا بوجود الأسد ولا بغيابه، هي اليوم أن تضمن للشعب توفير شروط ممارسته حقه في تقرير مصيره بنفسه. وهذا يعني ايصاله إلى انتخابات حرة ونزيهة تسمح له باختيار ممثليه وإرساء قاعدة قوية للحكم التمثيلي والديمقراطي في البلاد. 

 

١

وهذا يعني أن المعارضة ليست الموضوع وليست الطرف المهم في المباحثات والمفاوضات القائمة، التي قبلت المعارضة الدخول فيها منذ تأييدها مبادرة الجامعة العربية وبيان جنيف ١ في حزيران يونيو ٢٠١٢ وبعثة كوفي انان العربية الدولية. الموضوع والطرف هو الشعب السوري وتطلعاته وحقوقه ومكانته ودوره في النظام السياسي المطلوب انشاؤه على أنقاض حكم الديكتاتورية الدموية. ومسؤولية المعارضة هي أن تواكب ثورة شعبها وتثمر تضحياته الغزيرة، والتي لم تتوقف منذ سبع سنوات، من أجل الخلاص والتحرر من نير سلطة تحولت إلى نظام احتلال داخلي، وواجبها أن تسعى لتأمين الدعم العربي والدولي في سبيل تسريع عملية الانتقال والتحول نحو نظام جديد يضع حدا للحرب وسفك الدماء ويرد على تطلعات السوريين نحو الحرية ويليق بتضحياتهم وكفاحهم.

ولذلك لم يكن هدف المفاوضات مع النظام، واليوم بالأحرى مع أسياده الروس، المساومة على حق الشعب السوري في الانتقال إلى نظام ديمقراطي يساوي بين جميع ابنائه ويعترف بالمواطنة وحقوقها الواحدة للجميع، وإنما التفاهم على آليات وصيغ مرحلة الانتقال التي تنتهي مع تنظيم اول انتخابات تشريعية. وعندئذ يكون الشعب حرا في تقرير مصيره، وانتخاب من يمثله، ومن خلالهم، تحديد مضمون النظام الجديد النهائي، والتعديلات الدستوية، والتسويات السياسية، والتفاهمات الاجتماعية المطلوبة بالتأكيد لمعالجة آثار الحرب وتطمين الأطراف والجماعات، أقليات قومية ومذهبية ونوعية ومهنية وغيرها، على مصيرها وضمان حقوقها وأمنها.

ولكن هدف الروس كان ولا يزال أن يضحوا بقضية الشعب في الخروج من حكم الطغيان، لصالح فكرة حكومة وحدة وطنية تحافظ على النظام مع بعض الاصلاحات الدستورية، في الوقت الذي لا يعني الدستور شيئا في مثل هذا النظام القائم على الهوى والعصبية والعلاقات الشخصية والسلطة الفردية المطلقة والمقدسة. ولذلك لا يوجد هناك أي امكانية للتسوية أو للحل الوسط بين المنطقين، منطق الحفاظ على النظام بمشاركة المعارضة ومنطق تلبية مطالب الشعب وتطلعاته نحو السيادة والحرية..

منذ أول لقاء مطول في نوفمبر تشرين٢ ٢٠١١مع الوزير سيرغي لافروف برز الخلاف العميق في التحليل والخيارات. وبدل أن يحاول التقرب من موقفنا أو يتفهمه جاء رده تهكما بالثورة نفسها التي قال إنه هو الأكثر خبرة بما تعنيه. وعلى الأغلب كان صادقا في مشاعره ورؤيته السلبية لأي حركة احتجاجية، وبالأحرى ثورية تهدف إلى التغيير الجذري لنظام قائم على العنف والاكراه والقهر. لم يفهم الروس معنى تطلعات الشعب وحقوقه، أو لم يريدوا ان يفهموا. وأرادوا إقناعنا بأن الغرب هو المسؤول عن كل شرور العالم. وربما اعتقدوا بالفعل أن ما يحصل في سورية يشبه ما حصل في العراق ٢٠٠٣، او في احسن الاحوال في ليبيا ٢٠٠١١. وراهنوا على أن تدخلا قويا من قبلهم في مجلس الامن والأمم المتحدة سوف يردع القوى الغربية الراغبة في التدخل في سورية على حساب النفوذ الروسي.

وفي خطوة لاحقة اعتقدت الدبلوماسية الروسية أن بإمكانها، من خلال الرهان على التدخل العسكري الايراني من جهة ومغازلة المعارضة أو بعض أطرافها لتقريبها من موسكو من جهة ثانية، التوصل إلى تسوية سياسية سريعة للأزمة السورية وتذليل تعنت الأسد الذي اصبح مدينا لها في الدفاع عن وجوده. وهكذا تستطيع موسكو أن تحقق النجاح الدبلوماسي الذي تحتاجه لتعيد تأهيل نفسها وتسترجع صدقيتها ومكانتها الدولية، مما كانت بأمس الحاجة إليه لمواجهة الضغوط الاوروبية والامريكية المستمرة عليها، سواء ما تعلق منها بالعقوبات الاقتصادية القاسية أو بالضغوط العسكرية والاستراتيجية في مجال نفوذها. وعندما شعرت بداية عام ٢٠١٥أن النظام يكاد ينهار، تدخلت هي ذاتها، وحاولت أن تضع كل ثقلها العسكري لحسم الصراع بأي ثمن وبأسرع وقت ممكن. وأتذكر انه بعد ايام من دخول القوات الروسية إلى سورية، التقيت السيد بوغدانوف، الممثل الشخصي للرئيس بوتين ونائب وزير الخارجية، بدعوة منه، في مقر سفارة روسيا الاتحادية، لينقل لي رسالة مفادها أن روسيا لا تريد التدخل العسكري في سورية ولكنها دخلت فقط للقضاء على الارهابيين الروس المشاركين في الحرب مع المتطرفين، ولن تقبل بعودتهم احياء إلى بلادهم، ولن تزيد فترة تدخلها عن شهرين. ضحكت طبعا من فترة الشهرين، ولكن بوغدانوف لم يتردد في التاكيد على الشهرين، بينما كانت الصحافة الرسمية تتحدث عن ثلاثة أشهر. وهاهم الروس يخططون للبقاء في سورية لنصف قرن بعد انقضاء سنتين على تدخلهم القاتل في الحرب الدولية على السوريين.

٢

أخطأ الروس أخطاء كبيرة ولا يزالون يخطئون، بحق السوريين أولا، لكن تجاه مصالح روسيا أيضا والعلاقات الروسية السورية في المستقيل، ولأسباب عديدة. أول هذه الأسباب هي انكارهم، مثل الأسد وطهران، لحقيقة الثورة السورية وعمق تجذرها في وسط قطاعات واسعة من الشعب السوري، وهذا خطأ بنيوي نابع من رفضهم فكرة الثورة والتغيير نفسها، وامتناع منهج تفكيرهم على استيعاب مثل هذا الأمر، حتى على مستوى الاحتمال. وهكذا تصرفوا بالفعل على أساس أنهم يواجهون تدخلا غربيا واسعا ضدهم في سورية لا حركة شعبية عمبقة الجذور.

واخطأؤوا ثانيا عندما عطلوا، بشلهم مجلس الامن، أي تسوية سياسية سورية، وغطوا على تدخل الميليشيات الايرانية الطائفية، وهم يتحملون اليوم مسؤولية أخلاقية وسياسية وقانونية أساسية في المجازر وعمليات التهجير القسري والتجويع واستهداف المدنيين والابادة الجماعية التي نجمت عن هذا التدخل تحت حمايتهم وبرعايتهم. وقد حرمهم غضهم النظر عن هذه الأعمال الاجرامية التي ادانتها تقارير المنظمات الدولية جميعا من أي أمل في كسب ثقة الشعب السوري أو بعض قطاعاته، حتى القريبة منهم، والتي راهنت، في فترة ما، على روسيا لتحجيم التدخل الايراني وعقلنة سياسة الأسد الانتحارية.

وأخطأ الروس ثالثا عندما احتقروا المعارضة واستضعفوها واستهزؤوا بها واعتقدوا أن بإمكانهم تدجينها والالتفاف عليها واستغباءها لتحقيق مخططات مكشوفة الغاية الواضحة منها تصفية مطالب الثورة السورية وإخفاء وجهها ومعالمها حتى تتحقق اطروحتهم الاولية المطابقة لاطروحة الاسد، أي انكار اي حركة شعبية داخلية والتمسك بأطروحة المؤامرة الخارجية.

وأخطأ الروس رابعا عندما كذبوا على السوريين وربما على أنفسهم، واعلنوا ان هدفهم المشاركة في القضاء على المنظمات الارهابية، والارهابيين الروس خاصة، ولم يلبثوا حتى نصبوا أنفسهم سلطة انتداب شبة رسمي على سورية وشعبها، يستفردون بقرارها ويجمعون رجالها ومعارضاتها، ويفرقونهم منصات ومجالس حسب الطلب والحاجة، مما جعلهم يتماهون في سياساتهم مع سياسات الأسد ويصادقون على تكتيكاته الاجرامية في الابادة الجماعية والتجويع والترويع والتهجير القسري لتعديل البنية الديمغرافية، ويغطون على خروقاته ونكثه بعهوده بعد التوقيع على اتفاقات خفض التصعيد والمصالحات الزائفة الأخرى. وهذا ما حولهم، في نظر السوريين، بسرعة، من قوة يمكن المراهنة عليها كوسيط دولي للمساعدة على ضبط الميليشيات الايرانية وعقلنة السياسة الاسدية والوصول إلى تسوية جزئية، إلى قوة احتلال.

وأخطأ الروس خامسا عندما ورطوا انفسهم في تبني قضية الاسد شخصيا والمبالغة في الدفاع عن بقائه في الحكم، وحقه في الترشح لأي انتخابات رئاسية قادمة، وتبرئته من التهم التي كبلته بها المنظمات الانسانية والحقوقية الدولية، ولجان التحقيق الأممية، بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي، متحدين بذلك مشاعر ملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم وقضى الأسد على مستقبلهم، وخرب وطنهم.

وسيخطيء الروس سادسا وأخيرا إذا اعتقدوا ان الأمر قد استتب لهم في سورية، وأن شعبها فقد نوابض المقاومة والقوة، أو ان العالم سحب يده منها، و،سلم بسيطرة روسيا وايران عليها، أو قبل بتقاسمها بين القوى الاقليمية. ولعل بوادر الحرب المعلنة على الوجود الايراني الميليشياتي في سورية، منذ أسابيع فقط، تظهر هشاشة الوضع الروسي في الشرق الاوسط أيضا، في غياب قوة برية مستقلة، بالرغم من المواقع الجديدة التي اكتسبتها. ولا يوجد شك في أن خشية موسكو من تقويض الغرب للموقع الاستثنائي الذي احتلته في هذه المنطقة هو الذي يدفعها إلى الاستعجال في فرض تسوية سياسية بأسرع وقت، تضمن بقاءها في المستقبل، وربما كان هذا هو الدافع للاستعجال في الدعوة لمؤتمر الشعوب ثم الشعب السوري في حميميم ثم في سوتشي وسبب ولادته ميتا أيضا بعد رفض اطراف المعارضة الرئيسية حضوره والمشاركة فيه،

وستفشل المبادرات الروسية القادمة جميعا أيضا إذا استمر الروس في التفكير بالقضية السورية على هذا المنوال. فلم يقدم الشعب السوري مليون ضحية وملايين المشردين واللاجئين وعشرات بل مئات المدن المدمرة والمسواة بالارض من أجل أن يحصل بعض المعارضين، كما يتوهمون، مهما كانت مواهبهم ومقدراتهم وتاريخهم، على بعض المناصب الحكومية في وزارة الأسد أو أي وزارة أخرى. لقد قدم السوريون شهداءهم من أجل أن يسترجع أي سوري، صغيرا او كبيرا، مسلما أو غير مسلم، عربيا أو كرديا او غيرهما، فقيرا أو غنيا، حاكما أو محكوما، كرامته، اي أن يكون سيدا، حرا، وليا على أمره، حيا بضميره، ومشاركا في تقرير مصير وطنه. أي أيضا من أجل أن يكون للسوريين وطن، ولا تكون سورية مزرعة لأحد، لا للأسد وجلاوزته ومخابراته، ولا للروس، ولا لغيرهم مهما كانوا. وجوهر الكرامة وقوامها هو الاعتراف بالذات والآخر والاحترام المتبادل.

والحال، بسياستها التصفوية الراهنة، لا تجرد الدبلوماسية الروسية المعارضة من احترامها لنفسها واحترام شعبها لها فحسب، وإنما تهين جميع السوريين الذين تتعامل معهم كما لو كانوا لا يزالون في المزرعة العبودية ذاتها التي يحاول الأسد، بحرب الابادة والدمار الشامل، دون نتيجة، منذ سبع سنوات، اعادتهم إليها.

لهذه الأسباب فشلت روسيا في مبادرتها لجمع السوريين ومصالحتهم، ولا يمكن لها إلا أن تفشل، وفشلها لن يفيد احدا ولكنه، بمقدار ما يقود إلى الاستيطان في النزاع والحرب سوف يزيد من عذاباتنا وآلامنا. وتلك هي مشكلتنا مع روسيا وخياراتها..

 

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/11/4/%D9%85%D8%B4%D9%83%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B9-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-1