محنة العراق أو مأساة الاختيار بين الاستعمار والاستبداد

2002:: الجزيرة نت

ليس هناك ما يبرر لأي دولة, حتى لو كانت الدولة الأعظم كالولايات المتحدة الأمريكية, أن تدعي الحق في تغيير أي نظام سياسي في أي دولة أخرى. بل ليس للأمم المتحدة نفسها مثل هذا الحق. ذلك أن القبول بهذا العمل لا يعني الحلول محل الشعب نفسه في تقرير مصيره والتحكم بمصالحه الخاصة ولكنه يهدد, أكثر من ذلك, القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها النظام العالمي حتى الآن وهي سيادة الدول وحريتها. ولا يغير من هذا كون النظام المستهدف نظاما استبداديا قائما على القوة المحضة وناكرا لجميع الحقوق المدنية والسياسية لمواطنيه.
لكن رفض التسليم لأي دولة ولأي تكتل أو تحالف دولي مهما كان نوعه ومسوغات تشكيله التدخل باسم المجموعة الدولية أو باسم مصالحه الخاصة لتغيير نظام سياسي استبدادي وظالم في بلد ما لا يعني في الوقت نفسه ولا ينبغي أن يعني القبول باستمرار مثل هذا النظام ولا يقلل من المسؤولية الدولية في عدم القضاء عليه. فمثل هذا السلوك لا يمكن أن يعني شيئا آخر سوى النذالة والجبن وانعدام المسؤولية الجماعية على مستوى المجموعة الدولية بأكملها. وفي نظري لا شيء يمكن أن يبرر اليوم استمرار نظم تجرد شعوبها من حقوقها وتسومها سوء العذاب بذريعة السيادة القومية, تماما كما أنه لا شيء يمكن أن يبرر ترك شعب يخضع للاحتلال ويجرد من حقوقه وموارده ومستقبله معا كما هو الحال في فلسطين وفي العديد من المناطق الأخرى بذريعة الأمن أو الحرب ضد الارهاب. ففي الحالتين تقع المجموعة الدولية في ذنب الضلوع مع الظلم والتقاعس عن مد يد العون لبشر يتعرضون لأخطار محدقة. ولا يمكن لمفهوم السيادة أن يستقر ويستقيم إلا إذا رافقه مفهوم التضامن الانساني الذي يحدد شروط استخدامه بحيث لا يتحول إلى أداة لإخضاع شعوب وجماعات وإذلالها وتسخيرها لخدمة أهداف خاصة, سواء أكان ذلك بالقوة المحضة أم بالتحالف والتآمر مع قوى خارجية. وهو حق يرتب على جميع الدول مشتركة واجب السعي لانقاذ الشعوب التي اغتصبت حقوقها الأساسية المعروفة, سواء أكان ذلك من قوى داخلية أو قوى خارجية لا فرق.
وللأسف بدل العمل على تطوير آليات في هذا الاتجاه على مستوى المجموعة الدولية, نجحت بعض الأطراف في بداية التسعينات من القرن الماضي, وفي ذهنها التدخل في المنطقة العربية والاسلامية أساسا, في الحصول على تصويت المنظمة الدولية على حق سمي حق التدخل الانساني كان من نتيجته إجهاص مفهوم التضامن اللازم والواجب على المجموعة الدولية تجاه الشعوب المستضعفة لصالح إضفاء المشروعية الدولية على تدخل دول المجموعة الأطلسية في المناطق والمواقع التي تجد أن لها مصلحة قومية أو إقليمية واضحة في التدخل فيها, وبحسب ما تتطلبه هذه المصالح, لا ضمان حقوق الشعوب ولا حريتها وسيادتها.
وفي الوقت الذي زاد فيه فساد النخب الحاكمة ونزوعها, خاصة في البلاد الفقيرة, إلى استغلال مواقعها في الحكم والسلطة من أجل مراكمة الرساميل والموارد اللازمة لتحسين فرص اندراجها السريع كفئات خاصة في الاقتصاد العالمي المفتوح تاركة شعوبها تتخبط في البؤس والفاقة من دون أمل ولا موارد ولا مستقبل, قتلت الدول الكبرى المتنافسة على السلطة والنفوذ العالميين بتصويتها على حق التدخل الانتقائي والانتهازي ثقة الشعوب المغلوبة على أمرها والمنكوبة بمفهوم التضامن الانساني التي هي أحوح إليه اليوم من أي حقبة سابقة.
لكن بالرغم من كل معالم التناقض والصراع الراهن الظاهرة, ليس التناغم بين الاستبداد ورفض التضامن الانساني أمرا جزئيا أو سطحيا. هناك بالعكس تكامل حقيقي بين موقف نخب الدول الكبرى التي تهربت وسوف تستمر في التهرب من أي مفهوم فعال وأخلاقي للتضامن الانساني, سواء أكان ذلك على مستوى الحقوق السياسية والمدنية او على مستوى حقوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وموقف نخب الدول الفقيرة التي تنحو نحو نظم شمولية واستبدادية قاسية ولا إنسانية. فباستبدالها التدخل وخرق السيادة القومية الانتقائي واللامسؤول بالتضامن الانساني المجرد عن الغرض نجحت الدول الكبرى في الحصول على أداة قانونية إضافية لتعزيز قدرتها على الضغط على النظم الضعيفة والدول الفقيرة وضمان الاستمرار في السيطرة عليها ونهبها بطريقة أو أخرى. وبالمقابل, تضمن النخب الاستبدادية في البلدان الفقيرة والضعيفة إقامة الشروط المناسبة لتجريد الشعوب من سلطتها الحقيقية على مواردها ومصيرها وبالتالي تسهيل عملية النهب بل إخفاء آلياته عن طريق تكفل فئات محلية في جلد شعوبها وامتصاص دمائها منها. ويأتي فيما بعد تطبيق المعايير المزدوجة والانتقائية في ممارسة حق التدخل ليؤمن المرونة الضرورية في التعامل مع النخب المستبدة والتمييز فيها بين النظم العاصبة والمارقة والنظم الحليفة والمعتدلة.
وهذا يعني أن النظم الاستبدادية بحاجة, إذا أرادت البقاء والاستمرار, إلى دعم الدول الكبرى أو صرف نظرها عنها بمثل ما أن الدول الكبرى بحاجة إلى النظم الاستبدادية حتى تتمكن من ابتزاز الشعوب الفقيرة والضعيفة وتجميع ثرواتها وتوجيهها نحوها. والنتيجة هي ما نعرفه اليوم في عالمنا الراهن, أي دول كبرى تسيطر على القرار العالمي وتفرض على الدول الفقيرة والصغيرة سياساتها وجدول أعمالها كما تشاء, بل تنزع أكثر فأكثر نحو صيغ إستعمارية تقليدية, ودول صغيرة وفقيرة مستلبة الإرادة والقرار وخاضعة لنخب مستبدة وفاسدة ولا إنسانية. لا يمنع هذا التفاهم الموضوعي وأحيانا الذاتي والضلوع المتبادل بين عدم التكافؤ المسيطر على العلاقات الدولية والاستبداد المسيطر على العلاقات الداخلية لمعظم شعوب المعمورة الدول الكبرى من الاستمرار في تحويل قضية احترام حقوق الانسان والديمقراطية عقيدة قومية في السياسية الدولية كما لا يمنع نخب البلدان الفقيرة الفاسدة والمغتصبة للسيادة والسلطة والحقوق جميعا من تحويل الوطنية والقومية والاستقلالية والعداء للاستعمار والامبريالية عقيدتها الدولية. وفي الحالتين يتعلق الأمر بعملية ابتزاز ويغطي على المباديء الفعلية التي توجه سلوك النخبتين معا. وهذا يفسر واقع العالم الذي نعيش فيه, أعني تعايش الاستبداد والديكتاتورية والاغتصاب الفاضح لحقوق الشعوب والجماعات من جهة والدعوة المتزايدة والشاملة لاحترام حقوق الانسان وتعميم الديمقراطية العالمية من جهة ثانية. فالحقيقة أنه لا يوجد هناك أي تناقض بين الاستخدام التكتيكي والمصلحي لقضية حقوق الانسان من قبل نخب العالم الصناعي في سبيل ابتزاز النخب الفاسدة وتشديد الضغط عليها لزيادة نصيبها من المغانم والاستخدام الذي لا يقل تكتيكية ومصلحية عنه للمشاعر الوطنية والقومية والاستقلالية من قبل النخب الاستبداديةالتي تسعى لتغطية عجزها وخنوعها واستسلامها الفعلي على المستوى العالمي.

ومن الصعب أن نجد في أي منطقة أخرى من العالم تجسيدا أفضل لهذا الوضع الذي يدعم فيه الاستبداد الاستعمار ويدعم فيه الاستعمار الاستبداد مما هو عليه الحال في المنطقة العربية. فلا يعادل تشديد النظم المحلية على الوطنية والقومية والاستقلال والعداء للأمبريالية والتدخلات الأجنبية هنا سوى تشديد الدول الصناعية الكبرى وتأكيدها على ضرورة احترام حقوق الانسان وتقريب ثقافة شعوب المنطقة وجماعاتها منها كما لا يعادل نمو الاستبداد فيها إلا تأكيد الدول الكبرى على أهمية الديمقراطية وضرورة بنائها وتعميقها. ومع ذلك فالاستبداد والعجز الوطني وانعدام السيادة القومية الحقيقية سارت هنا ولا تزال تسير وسوف تسير لفترة قادمة أيضا جنبا إلى جنب مع الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان وغياب الحرية وانعدام أي ممارسة جدية للديمقراطية. ليس هذا من قبيل الصدفة ولا علاقة له بثقافة الشعوب ولا أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية كما يظن البعض ولكن بالدرجة الأولى بهذا التفاهم الضمني والتكافل الموضوعي بين نظام دولي تسيطر عليه دول صناعية تريد أن تحفظ مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بأي ثمن, أي بتشجيع الاستبداد وحرمان الشعوب من حقها في تقرير مصيرها, ونخب لا وطنية تسعى إلى كسب الوقت وتمديد أمد نهبها لثروات شعوبها واستخدامها كرأسمال خاص بها في السوق العالمية بالتجريد العملي والدائم لهذه الشعوب من جميع حقوقها الفردية والجماعية.
من هنا, لن تغير الحرب القادمة التي تعدها الولايات المتحدة الأمريكية وربما التحالف الدولي الجديد في إطار الأمم المتحدة المسيرة من قبل الدول الكبرى وحدها من الوضع الراهن الذي يشجع الاستبداد ويرعاه ويدعمه في الشرق الأوسط. وبالمثل لن يغير استمرار النظام العراقي والنظم الاستبدادية الأخرى القاسية واللاإنسانية التي تسيطر على بلدان المنطقة حالة العجز وانعدام القدرة والكفاءة والسيادة الوطنية والقومية العربية أيضا. بالعكس من ذلك, إن ضرب النظام العراقي لو حصل سيكون مقدمة لتعزيز نظم الديكتاتورية والاستبداد في المنطقة أكثر مما هي عليه اليوم بقدر ما سوف يعزز كفالتها الخارجية. كما أن تجنيب النظام العراقي الضربة العسكرية لن يحسن من ميزان القوة الاستراتيجية الوطنية العربية في مواجهة اسرائيل والدول المعادية ولكنه سوف يزيد من انحطاط نظم الاستبداد القائمة ويضاعف من همجيتها.
إن المطلوب للخروج من الاستبداد والعجز الوطني وانعدام السيادة معا هو بالضبط العمل من أجل كسر حلقة التحالف الموضوعي القائم بين الاستبداد والاستعمار معا, وهو التحالف الذي يجعل ماهيتهما واحدة أيضا. فليس المضمون الحقيقي للاستعمار أو السيطرة الخارجية المتفاقمة سوى الاستبداد الدولي بالقرار العالمي. وليس المضمون الحقيقي للاستبداد سوى الاستعمار الداخلي الذي يجعل فئة خاصة تنتزع سيادة شعب كامل وتحتل وعيه وإرادته.
إن الدفاع عن التدخل الدولي أو المراهنة عليه يتجاهل أن الوضع القائم نفسه ليس سوى ثمرة تدخل اجنبي ولو كان ذلك قد حصل بصورة مختلفة وأحيانا غير مباشرة. وبالمثل, أن الدفاع عن نظام الاستبداد القائم أو المراهنة عليه يتجاهل أن هذا النظام الذي قام ولا يزال على سلب الحقوق الوطنية الدائم والمستمر لشعب كامل من قبل نخب محدودة إن لم يكن من قبل أفراد, يرفض, حتى وهو يواجه تهديدات استعمارية معلنة, تحرير شعبه ولو من قيد واحد كي ما يشجعه على الصمود ويمكنه من الدفاع عن نفسه والوقوف في وجه التدخل الأجنبي.
بالتاكيد ليس كسر هذه الحلقة بالأمر السهل. وهو يحتاج إلى قوى اجتماعية واعية ومنظمة لم يسمح لها ولا يمكن لنظام الاستعمار ونمط الاستبداد والعسف الفكري والسياسي والقانوني السائد في المنطقة أن يسمحا لها بالنمو والاستمرار. لكن الخطوة الأولى على طريق ذلك هي في نظري رفض الابتزاز المزدوج بالوطنية من قبل نظام جرد المواطنين من حقوقهم المدنية والسياسية كما جرد الوطن من مواطنيه والابتزاز بالديمقراطية وحقوق الانسان من قبل تحالف دولي لا يشعر بانعدام الحرية ولا يرى انتهاك حقوق الانسان إلا عندما يصطدم العسف بمصالحه الخاصة والأنانية.
هذا يعني أننا لن ننحح في كسر هذه الحلقة المفرغة والبدء بالفعل في السير على طريق الخلاص إلا عندما ندرك أن الوطنية والديمقراطية لا ينفصلان, وأن الذي لا يحترم حقوق شعبه الأساسية لا يمكن أن يحميه وليس له مصلحة في أن يحميه من أي عدوان, وأن من يرفض أي مفاوضات دولية تعددية ومتكافئة ولا يتورع في سبيل ضمان موقع التفوق والسيطرة العالمية لنفسه وحلفائه عن تدمير الشعوب والقضاء على مستقبلها ونهب ثرواتها ومواردها لا يمكن أن يكون داعيا حقيقيا للديمقراطية ولا كافلا لتحقيقها. وإذا لم نشأ أن تكون المحنة الراهنة التي يعيشها العراق والعرب جميعا من ورائه عذابا مجانيا ومن دون معنى علينا أن نجعل منها وسبلة لفضح الاستراتيجيات الحقيقية لكل من لاستبداد والاستعمار. فكل دعوة وطنية مفصولة عن الحرية خداع وكل دعوة ديمقراطية مفصولة عن التصامن الانساني بين الجماعات والبشر كذب قراح. فلا وطنية من دون مواطنين أحرار ولا ديمقراطية من دون علاقات دولية متكافئة.