ماوراء المواجهة العربية الأمريكية أو نحو حرب باردة عالمية جديدة

2002-11-12:: الوطن

 

 كل يوم تثبت الأحداث أكثر من الأيام السابقة أن الحرب التي اعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الارهاب تختلط, بوعي أم من دون وعي, لدى قطاعات متوسعة باستمرار من الرأي العام الغربي, بالحرب ضد الاسلام وتندرج أيضا بصورة أوضح في ما أصبح يشكل الحاضنة النظرية للاستراتيجية الامريكية المستقبلية, أعني الحرب الحضارية. وما صدر ويصدر يوميا على ألسنة بعض رجال الدين الغربيين, وهو يشبه إلى حد كبير ما يصدر عن العديد من رجال الدين اليهود المتطرفين أيضا، من أفكار وتصورات سلبية عن الاسلام يعكس هذا التوجه العام وينقل المواجهة من الميدان العسكري والسياسي الذي تركزت عليه في السنتين الماضيتين إلى الميدان العقائدي الخطير والمعرض للالتهاب.

وبعيدا عن أن يعكس حتمية من أي نوع كانت أو أن يبرز تعارضا فعليا بين الحضارات بل وجود حضارات متناقضة ومتصادمة بالضرورة, كما يحلو لأصحاب الحرب الحضارية من الجهتين تصوير الأمور, يشكل هذا التطور في المواجهة العربية الأمريكية تعبيرا مباشرا عن نجاح الولايات المتحدة في تحويل الاسلام إلى بعبع عالمي يقض مضاجع أو ينبغي أن يقض مضاجع الشعوب والمجتمعات المتحضرة. وهو البعبع الذي تحتاج إليه لتعويض العالم الشيوعي الذي يقي الهاجس الأول للدول والاستراتيجيات الغربية خلال ما يقرب من قرن من الزمن، بقوته العسكرية وحركاته الثورية ومنطقه التحريضي الدعائي وقيمه الاستثنائية والغريبة، بعد أن طواه النسيان او كاد مع زوال الحرب الباردة.  

لا يرجع هذا التطور الذي سيكون له نتائج خطيرة على مصير الشعوب العربية والاسلامية في العقود القليلة القادمة إلى أي سبب ثقافي أو مجتمعي أو حضاري عربي كما تشير إلى ذلك بشكل صريح السمة التي تعطيها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لهذه المواجهة أعني الحرب العالمية ضد الارهاب. فالمصدر الحقيقي له هو رفض القوى القومية الرجعية الأمريكية، التي وصلت لذروة مجدها في عصر الحرب الباردة تحت رئاسة ريغين, القبول بالوقائع الجديدة والامتثال لإرادة عالمية متنامية في بناء نظام دولي قائم على الاعتراف بضرورة التضامن والتكافل بين أعضاء المجموعة الدولية من شعوب ومجتمعات ودول وتشبثها بمفاهيم السيطرة والتفوق والقيادة الأمريكية للعالم. وضمان مثل هذه السيطرة وتبريرها أيضا لا يمكن أن يحصلا من دون حروب مستمرة ساخنة أو باردة تبرز قوة الدولة المسيطرة وتؤكد باستمرار قيمة القوة ومنطقها وتؤمن التحكم بالموارد الاستراتيجية العالمية. ولا يمكن خوض مثل هذه الحروب وضمان استمراريتها وإضفاء الشرعية الأخلاقية عليها من دون تكوين خصومة أصيلة لا يمكن تجاوزها بين نظامين حضاريين أو كتلتين متعاديتين بالطبيعة والأهداف ويملكان حدا أدنى، ولو ظاهريا، من التوازن والصدقية. والخصم الوحيد الذي برز منذ نهاية الحرب الباردة، والذي أشارت إليه الدراسات الغربية منذ تلك اللحظات الأولى مع احتمال تبدل النظام العالمي، كان عالم الاسلام.

وقد وقع الاختيار على الاسلام وهو ليس اختيار بالمعنى الحقيقي للكملة ولكن توجه تدريجي وتلقائي نحو تحويل مجموعة بشرية وسياسية إلى قوة خصم لأسباب عديدة ومتناقضة معا. أولها مظاهر العداء الواضحة والبارزة عبر الأفكار والتيارات العديدة المتطورة في حضن عالم اسلامي يجد صعوبة في تأكيد وجوده أمام السيطرة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والفكري للغرب ولا ولا يزال يعاني بعد فترة طويلة من الخضوع للاستعمار من صعوبات التبعية والدونية الفكرية والثقافية من جهة ويتعرض في فلسطين لضغط مستمر يختلط فيه الطابع الجيوسياسي بالطابع الاستعماري التقليدي بالطابع الديني والثقافي معا. وثانيها ما يتميز به هذا العالم الاسلامي من تفكك وفراغ استراتيجي يضمن السيطرة عليه والتحكم به والتلاعب بقواه المختلفة بسهولة لتبرير الابقاء على مناخ الحرب الباردة وما يعنيه من الاستمرار في سياسات التسلح والتكتل الدولي المحوري والأطلسي منه بشكل خاص.

أما الصين، وهي القطب الثاني الذي يثير مخاوف الغرب, فبالرغم من أنها بقيت تعتبر حضارة معادية إلا أن ما يجعل من تحويلها إلى فزاعة بديل للاتحاد السوفييتي السابق هو الثمن المرتفع جدا الذي كان سيكلفه الاحتفاظ بمناخ الحرب الباردة في مواجهة صينية غربية محتملة. فمن جهة أولى تشكل قوة هائلة بشرية وتقنية وعسكرية استراتيجية مستقلة وموحدة وبالتالي قادرة على المواجهة لفترة طويلة بل وعلى تهديد الولايات المتحدة بالفعل في عقر دارها. ومن جهة ثانية تظل الصين بعيدة نفسيا وماديا وثقافيا عن الغرب لدرجة يصعب معها ضمان تعبئة الرأي العام ضدها لفترة طويلة ومتواصلة وتبرير الصدام معها. إضافة إلى أن سوق الصين الاقتصادية الهائلة برزت وسوف تبرز بشكل أكبر كأهم جائزة نالتها الدول الرأسمالية من إنهاء الحرب الباردة الأولى مع الكتلة الشيوعية.

وبالعكس من ذلك، يجمع العالم الاسلامي وبالأخص العالم العربي الذي يختلط مفهومه به تماما عند الرأي العام الغربي، كافة الخصائص التي تؤهله ليكون فزاعة رخيصة الثمن تسمح بالحفاظ على سياسات واستراتيجيات السيطرة التي ميزت الحرب الباردة وقطع الطريق على أي تحول ايجابي في نظام العلاقات الدولية لصالح الدول الأصغر. فهو في مخيال الرأي العام الغربي كتلة صلدة واحدة ومتحدة توحي بالقوة الكامنة والخطر الأكيد الذي ينبغي مواجهته قبل أن يستفحل. وهو في الواقع عالم ممزق فقير وتابع للدول الصناعية في كل شيء تقريبا اقتصاده وعلمه وتقنيته بل حتى في أمنه وبالأخص للولايات المتحدة الأمريكية. فهو قوة كبرى لكن كالزبد لا وزن لها ولا خطر كبيرا من الصدام المستمر والمنهجي معها. وهو إضافة إلى ذلك حاضر بقوة في المخيال الشعبي الأوروبي والغربي، والآن، الدولي عموما من خلال القرابة الثقافية والاختلاط السكاني المتزايد نتيجة الهجرة.

ويمكن معاينة هذا الحضور الكبير للعالم العربي في الحياة الغربية المعاصرة من خلال ثلاث محاور شديدة الأهمية.

الأول هو الصراع العربي الاسرائيلي وما يعنيه من اهتمام الجاليات اليهودية والرأي العام الغربي الديمقراطي عموما بالمسألة اليهودية التي شكلت بالنسبة لأوروبا أزمة أخلاقية كبيرة خلال القرن الماضي كله. والثاني من خلال تصاعد حركات الاحتجاج القومية ثم الاسلامية العنيفة في العالم العربي ثم في بقية مناطق العالم الاسلامي وتلقي عواصم الدول الغربية بعض تساقطات ثمرة نشاطاتها المرة. والثالث هو الأزمة العميقة التي تعيشها العديد من النظم الاجتماعية والسياسية العربية بالفعل والتي تعكس عن المجتمعات العربية في الخارج صورة شديدة السلبية من الاستبداد والنظم الأوتوقراطية وانتهاكات حقوق الانسان وغياب الشعور بالمسؤولية عند القيادات السياسية وبالتالي جمود عملية التنمية وتفاقم مظاهر الفقر والبطالة والتوتر والعنف وما يتبع كل ذلك من تعاظم تيارات هجرة الشباب إلى البلاد الصناعية.

كل هذه العناصر تجعل من الممكن – لكن ليس الحتمي – توليد ونشر فكرة الخطر الأخضر لدى أوساط الرأي العام الأمريكي والغربي عامة التي تصطدم كل يوم بمظهر ما من مظاهر أزمة المجتمعات العربية ويسقط على رؤوسها بعضا من آثارها السلبية.

 

 بالتأكيد لعبت اسرائيل واللوبيات الاسرائيلية الموجودة في كل مكان دورا كبيرا أيضا في توجيه السياسيين اليمينيين الأمريكيين والأوروبيين في هذا الاتجاه. فبهذه الطريقة وحدها تعود اسرائيل التي أفقدتها الحرب الباردة الكثير من أهميتها الاستراتيجية وشعرت كما لو أن نهاية هذه الحرب قد فتحت باب تطبيع اسرائيل مع البيئة الاقليمية, إلى سابق عهدها وتصبح رأس حربة لحرب كانت في الماضي غربية لتصبح اليوم حسب الشعارات المرفوعة حربا حضارية. وفي هذه الحرب يمكن لاسرائيل أن تضمن تدفق جميع المساعدات العسكرية والمالية والسياسية والفكرية التي بدأت أو كادت تتوقف بعد نهاية الحرب الباردة كما يمكن لها أن تخفف الكثير من عبء مواجهة العالم العربي والاسلامي عليها وهي تهم بابتلاع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة بما فيها القدس وترمي هذه المهمة على عاتق الدول الصناعية وفي مقدمها كما حصل بالفعل الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا يمكن القول أن اسرائيل قد نجحت هي أيضا من خلال استثمار فكرة الحرب الباردة العربية-الاسلامية الغربية في إعادة موضعة نفسها وترتيب أوضاعها بما يمكنها من أن تكون طرفا رئيسيا، على الأقل بالنسبة للاقليم الشرق أوسطي، في تحالف دولي ضد العرب والمسلمين المتضامنين معهم. وكان من نتيجة ذلك ما نشهده تحت حكومة آرييل شارون من تحرير يدها تماما وإطلاقها في أراضي الضفة الغربية وعزة.

لكن علينا أن نعترف أيضا بأن فريقا من قوى المعارضة الاسلامية والقومية العربية المتطرفة التي سعت إلى إعادة تثمين نفسها وتأكيد وجودها والتعويض بالعمليات الاستعراضية الخارجية عن إخفاقها في زعزعة النظم القمعية المحلية  قد ساهم مساهمة كبيرة في تسهيل عملية تبلور الاستراتيجية الامريكية الجديدة. فقد قدم للإدارة اليمنية فرصة نادرة لإضفاء الشرعية والمعقولية على اختياراتها العسكرية المتطرفة وتجاهل الخيارات السياسية السلمية. ولو لم يكن هذا الفريق القومي الاسلامي العربي المتطرف موجودا بالفعل لكان من مصلحة الإدارة الأمريكية ايجاده من العدم. ولا ندري أصلا إذا ما كان هذا الفريق قد تعرض لاختراقات من هنا وهناك بما في ذلك من قبل الأجهزة الأمريكية الامنية المتنافسة. لكن ليس هناك مجال للشك في أن الإدارة اليمينية في واشنطن قد استغلت سعي هذا الفريق إلى إعادة تعويم نفسه وتجديد دوره بالانتقال من العمل داخل الساحات الوطنية والمحلية إلى العمل على الصعيد العالمي وفي الساحة الدولية، وهي لا تزال تستغله وسوف تستمر تستغله بل تستخدم عملياته العنيفة الاستعراضية والعديمة القيمة الاستراتيجية لتبرير الحرب الشاملة المعلنة على العرب والاسلام والمسلمين.

وربما ينبغي القول أن هناك، في ما وراء هذا الفريق المتطرف, جزءا كبيرا من الرأي العام الذي يئس من أي استراتيجية فعالة رسمية لمواجهة الاعتداءات الهمجية الاسرائيلية والاستفزازات المستمرة الأمريكية قد وجد نفسه مدفوعا من دون وعي ولا تفكير إلى تعليق آماله على مثل هذه الاستراتيجية الاستعراضية. فهي وإن لم تكن تظهر القدرة على تغيير الأوضاع ولا وضع حد للاعتداءات الاسرائيلية الأمريكية فهي تمثل في نظره على الأقل رد فعل حي ولا تترك الساحة فارغة تماما أمام المارد الأمريكي الاسرائيلي العسكري.

هكذا استسلم جزء كبير من الرأي العام العربي والاسلامي لاستراتيجيات الفرق المتطرفة الصغيرة ووضع أمله الوحيد فيها وفي ما تتخزنه المجتمعات العربية والاسلامية من روح تضحية أسطورية وفداء. أما الساسة والمسؤولون الرسميون الذين وجدوا انفسهم من دون سياسة ومن دون أوراق تمكنهم من اللعب أو المشاركة في هذه المبارزة العنيفة واليائسة فقد اضطروا إلى الالتحاق بالاستراتيجية الأمريكية والدخول تحت لواء الحرب الدولية ضد الارهاب بعد أن حاولوا لفترة قصيرة الاستفادة منها لدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ موقف أقل تحيزا لصالح اسرائيل. لكن بعد تطبيق الإدارة الأمريكية قاعدة من ليس معنا فهو ضدنا لم يعد هناك مجال آخر إلا الانضواء تحت الراية الواحدة والتعاون الجدي، مئة بالمئة كما يقول الأمريكيون وليس أقل من ذلك، للقضاء على هذه الحركات. وهكذا لم يبق لهم ولا لشعوبهم شيء في سياساتهم التي صارت جميعا ضمن جدول الأعمال أمريكية المتعلق بالارهاب ومن ورائه السيطرة العالمية. وبين الولايات المتحدة واسرائيل اللتان تريدان تركيع العالم العربي وفرض الوصاية الرسمية الجديدة عليه وحركات الاسلام المعولم المناوئة لهما والمخترقة من قبلهما أيضا وتخلي الدول عن أي استراتيجية وطنية أو إقليمية خاصة أيضا غابت القضية العربية بكل ما تنطوي عليه من مسائل وغايات و لم يبق للتفكير في مستقبل العرب والمسلمين ولا الدفاع عن مصالحهم والذود عنهم سوى ثلة من المثقفين الملاحقين هنا وهناك والقابضين على ايمانهم بمستقبل مجتمعاتهم وحريتها ونموها كالقابضين على الجمر.

 

والسؤال: إلى متى سيستمر العالم العربي والاسلامي مكتوف الأيدي وفي حالة المتفرج على المعركة الدائرة بين الولايات الامريكية والتكتل الدولي من حولها ضد الارهاب من جهة والجماعات الاسلامية المتطرفة السرية التي أعلنت نفسها قيادة للكفاح العربي والاسلامي من جهة ثانية، وهل من المعقول أن يترك لمثل هذه المعركة أمر تقرير مصير العالم العربي والاسلامي برمته وموقعه الاستراتيجي والأخلاقي في العالم وبالتالي تقرير مصير المجتمعات والدول والأفراد القائمين فيه لعقود طويلة قادمة؟ وهل يمكن أن يبقى الكفاح العربي والاسلامي أسير الأفكار والطرق والأهداف الشخصية أو الحركية لفرق تهيم في عالم من صنعها وليس لها أي ارتباط بمجتمعاتها ومشاكل هذه المجتمعات الحقيقية؟