مؤتمر وارسو والسير على حافة الهاوية

2019-02-19:: العربي الجديد

مؤتمر وارسو والسير على حافة الهاوية

ختم إجهاض ثورات الربيع العربي دورة كاملة من السياسات العربية التي قامت بعد الاستقلال على إرساء أركان نظم سياسية تراهن في الحفاظ على بقائها على تنفيذها أجندة دولية أو تقديم الخدمات للدول الكبيرة التي تريد أن تكسب دعمها، أكثر بكثير من رهانها على كسب الشرعية من الانشغال بتحسين شروط حياة شعوبها أو التفكير بمصيرها ومستقبل أبنائها. وقد ولدت من هذه التبعية نخب محلية جعلت من ضبط حركة هذه الشعوب وتكبيلها بدل إطلاق طاقاتها وتحرير قدراتها، مركز اهتمامها، فأصبح وجودها كنخبة مهيمنة وحاكمة يتعارض بصورة متزايدة مع تقدم شروط حياة محكوميها وتحسين أحوالهم. وما كان يمكن ان تنتهي هذه الدورة إلا بما انتهت إليه من مواجهة شاملة كما جسدتها ثورات الربيع العربي، بعد أن تحولت النخب السياسية إلى طبقة من المعمرين الجدد والسياسة "الوطنية" إلى احتلال وقمع، وتحولت الشعوب "رعاع" يزداد خطر انفجارها وتمردها مع تجريدها المتزايد من أي هوية سياسية أو إنسانية.

ما أحدثته الثورات التي احتلت السنوات العشر تقريبا لهذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين هي أنها جردت النخب الحاكمة من ثقتها بقوتها واطمئنانها إلى قدرتها على شل الإرادة الشعبية، مما عزز لديها النزوع إلى فرض المزيد من القيود على مجتمعاتها وإغلاق نظمها على نفسها أكثر مما حصل في أي مرحلة سابقة، والتخلي عن غلالة الاستقلال الواهية التي كانت تحال أن تخفي وراءها تبعيتها الكاملة للدول الضامنة لبقائها، وترمي بنفسها من جديد على الدول الكبرى وتشتري حمايتها. وبعكس ما توقعه المتفائلون من احتمال أن تتعلم النخب الحاكمة الدرس وتعيد النظر في منهج حكمها وتبذل مزيدا من الجهد لكسب التأييد الشعبي أو استعادة جزء منه، دفعتها صدمة الاحتجاجات الكبرى إلى الخوف الذي تحاول أن ترد عليه بتبني خيارين كلاهما أسوأ من الآخر: إقفال النظام بصورة أقسى من قبل وتعزيز سياسات الإقصاء وتقليص هامش الحريات والحياة السياسية إلى حد الإلغاء الكامل من جهة والإلتصاق أكثر من أي حقبة سابقة بالدول الأجنبية، الإقليمية أو الدولية لطلب الحماية منها من جهة ثانية. أي إلى الذهاب في الاتجاه المعاكس لما كان ينبغي أن تتجه إليه من أجل إصلاح الأوضاع وتقليص حجم القطيعة التي تفصلها عن شعوبها والبدء بتفكيك الأزمة الاجتماعية والسياسية التي فجرت الثورات، لتجنب مواجهات جديدة قادمة حتما.

ما دفعني إلى الإشارة إلى هذه الاتجاهات السياسية الانتحارية لنخب طار صوابها، هو الحماس الذي أظهرته للمشاركة فيما سمي مؤتمر وارسو للأمن والسلام في الشرق الأوسط الذي عقد في منتصف هذا الشهر بحضور نائب الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، وتحت إشرافهما، والذي وضع في مقدمة أهدافه مواجهة طهران وسياستها التوسعية والتخريبية في المشرق العربي، وفي ثنياها، لكن كشرط لها، تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، وإدخال إسرائيل منذ الآن وبموافقة عربية طرفا رسميا في معادلة القوة الإقليمية.

يتابع العرب في مشاركتهم هذه ويتعبون خطط واشنطن واستراتيجياتها التي لم تسهم مرة واحدة في تشجيع بلدان المنطقة على التفاهم والمنطقة ككل على الاستقرار. بالعكس كل ما فعلته في العقود الأربعة الماضية، ومعها أكبر البلدان الأوروبية، كان على حساب الأمن والسلام الشرق أوسطيين، ومن أجل تلغيمهما وتقويضهما.  ليس الخطأ في هذه المشاركة التأكيد على ضرورة التصدي للخطر الإيراني ولا أولويته بالنسبة لدول المنطقة المترنحة بسببه، وإنما لسذاجة الاعتقاد بان واشنطن أو إسرائيل سوف توقفان التهديد الإيراني إزاء الدول العربية من أجل عيون هذه الدول وضمان الاستقرار الإقليمي والدولي. إنهما يسعيان بالعكس إلى توتير العلاقات العربية الايرانية بشكل أكبر وتعميق الشرخ بين الجارين المتخاصمين، من أجل تحقيق أهدافهما الخاصة على حساب الدول العربية، وبمعنى آخر تحميل هذه الدول ثمن مواجهة ايران وتحجيم نفوذها، من دون تقديم أي تنازل سياسي أو استراتيجي للدول العربية. وفي النهاية لن يحصد العرب من هذا اللقاء سوى إدماج إسرائيل في منظومتهم العربية وإدخال لاعب معاد لهم فيها، من دون أي ثمن. وهو ما سوف يعمل على تعميق التناقضات والخلافات بين الدول العربية وشعوبها وفيما بينها أيضا ويعمق المشكلة التي كانت في أصل تراجع الموقف العربي الإقليمي وتنامي الأطماع الإيرانية.

استخدمت الولايات المتحدة الامريكية العراق الصاعد في عهد صدام حسين للتقليل من طموح طهران الخمينية التي بدأت معادية للغرب وإسرائيل بالدرجة الأولى، فقضت على العراق وساهمت في حرف الثورة الإيرانية الشعبية عن أهدافها ودفعها نحو التطرف الطائفي والمذهبي، وها هي تسعى من جديد إلى استخدام ما تبقى من الموارد العربية المالية والسياسية من أجل تطويع ايران ودفعها إلى الخضوع لأهداف السياسة الأمريكية والاسرائيلية. خلال ذلك لن يتقدم موقف العرب شعرة واحدة، على أي صعيد. فإذا قبلت طهران التفاوض على مشروعها التخريبي لن تفاوض مع العرب وإنما مع واشنطن وإسرائيل اللتين تشكلان مصدر القوة الحقيقي التي تهددها، وعلى حساب العرب. وإذا قررت طهران الاستمرار في المواجهة فسوف يعني ذلك توسيع دائرة الحرب على الأرض العربية وبزيادة تكاليفها التي لن يقدمها سوى العرب، بشرية كانت أو سياسية أو مادية واستراتيجية، من أمنهم واستقرارهم وفرص تنمية اقتصاداتهم معا.

لن يحل مشكلة العرب شراءهم تأييد الدول الأخرى ودعمها بتنازلات سوف تزيد من ضعفهم وتشتتهم وانقسامهم وفي النهاية إضاعتهم لأي أمل في الاحتفاظ بصدقيتهم واستقلال دولهم وربما بقاءها. لو كانت واشنطن تريد بالفعل مساعدة العرب، بل مشاركتهم ولو قليلا في تكاليف المواجهة، لفرضت على تل أبيب تعديل موقفها من المسألة الفلسطينية، وإذا لم يكن ذلك بالاعتراف بالدولة الفلسطينية الموعودة إلى جانب إسرائيل، على مبدأ حل الدولتين، فعلى الأقل بالوقف النهائي لحركة الاستيطان وما تعنيه من تغيير الطابع الديمغرافي للأرض. ولو كانت تسعى بالفعل لإنقاذ الشرق الأوسط من المحرقة التي وضعته فيها حربان من صنعها قادا إلى تسعير العداء بين العرب والإيرانيين وتفجير حرب تاريخية بينهما، خاصة بضرب القوة العراقية ووضع نظام طائفي في بغداد مكانها، لاتبعت سياسة أخرى مختلفة تماما، وتبنت خيارات من شأنها مساعدة العرب والإيرانيين على نزع فتيل الحرب الدائرة عمليا من ثلاثة عقود، وتوجيه جهودهما لتنمية شعوبهما، وتقديم ضمانات للطرفين بعدم التوسع والاعتداء، وفتح مجال التعاون بينهما.

لكن وقف الحرب في المنطقة وتخفيف حدة التوتر بين دولها ليس أبدا من أهداف السياسة الامريكية أو الإسرائيلية. بالعكس، المطلوب تسعيرها لقطف ثمارها على حساب الطرفين، واللعب عليها لإخضاعهما وإجبارهما على الركوع معا أمام الإرادة الأمريكية والإسرائيلية.

تتحمل طهران مسؤولية كبرى في رمي الخليج على إسرائيل بعد تعلقه بأذيال الحماية الامريكية لعقود، لكن للخليج ودول الجامعة العربية عموما مسؤولية كبيرة أيضا في تبني سياسة واشنطن ضد ايران والجري وراء مخططاتها التي تستهدفهم أكثر مما تستهدف أيران في نظري، لمصالح استراتيجية وإسرائيلية معا، بدل بلورة سياسة عربية مستقلة ولو نسبيا تسمح بإعادة التوازن مع إيران، وتفتح باب التسوية مع شعبها. ومن دون بلورة هذه السياسة وصوغ أجندة عربية مشتركة للمنطقة وللعلاقات مع الجوار، وبناء قوة استراتيجية تضمن تطبيقها والدفاع عنها، لن يعمل الارتماء العربي على القوى الأخرى الخارجية، سواء كانت الولايات المتحدة أم أوروبا، ام الصين غدا، إلا على إضعاف موقفهم بشكل أكبر، والسماح للقوى المدافعة أن تقطف هي نفسها ثمار مواجهتها لإيران وغيرها أو حل التناقضات الإقليمية معها. لا توجد دولة تعمل لصالح دولة أخرى وإنما تستغل الدول ضعف جاراتها، حتى لو كانت حليفتها، وإذا أمكن تعمل على إضعافها أكثر وزيادة حاجتها إليها من أجل تعظيم مكاسبها، سواء كان ذلك، كما يحصل الآن مع العرب، بإستتباعها ومص دمائها أو بإضعاف ايران وفرض التنازلات القاسية عليها لصاح الولايات المتحدة.

والخلاصة أن إيران معضلة كبرى بالنسبة لعرب المشرق خاصة الذين يتعرضون لهجوم كاسح من طرفها، عسكري وسياسي ومذهبي، في إطار صراعها هي نفسها مع الغرب، ولجر الغرب إلى معركة معها يرفض الغرب خوضها بنفسه، ويريد أن يحمل العرب من جديد، باسم مساعدتهم على درء خطرها، مسؤوليتها وتكاليفها.

مواجهة المخططات الإيرانية يشكل تحديا كبيرا للعرب، لا يمكن أن يرد عليه رهن العرب إرادتهم لدول أخرى لها مصالح علنية في إضعاف مناعتهم وإخضاعهم لأجندتها القومية. ما يرد عليه هو تطوير دفاعات العرب الذاتية والعمل على أن يتحولوا، هم بذاتهم، إلى طرف حقيقي في المعادلة الاستراتيجية الإقليمية، يحسب حسابهم ويعترف لهم بنصيب من القرار الإقليمي والحد الأدنى من السيادة والاحترام والمعاملة الندية. وهذا ما تعمل الحكومات العربية، والخليجية منها بشكل خاص، كل ما تستطيع لتجنب التفكير فيه والعمل من أجله. فمثل هذا الخيار لا يمكن أن ينفصل عن خيار يعادل في نظر العديد من أعضاء نخبها الحاكمة تجرع كأس السم. فهو يتعلق حصرا بحل مشكلة العلاقة مع شعوبها، ومواجهة المسألة السياسية والقبول بتنازلات، تدريجية لكن جدية، في نمط توزيع السلطة، والسيادة، الذي يتوقف عليه توزيع أفضل لفرص التقدم والترقي والثروة. وهنا بيت القصيد وكعب أخيل الذي ترفض النخب التي تعودت احتكار السيادة مناقشته حتى الآن.

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2019/2/18/%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%88-%D8%A3%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-1