لماذا تستهين الولايات المتحدة بالبلدان العربية

2002-08-28:: الاتحاد

لا ينبغي أن يكون المرء محللا استراتيجيا حتى يدرك أن المنطقة العربية المشرقية التي عانت منذ القرن التاسع عشر من التدخلات الغربية المستمرة وعلى جميع المستويات وفي جميع الميادين الاقتصادية والدينية والعسكرية تعود اليوم لتصبح المنطقة الأولى التي يتركز فيها التدخل الأجنبي ويدعي لنفسه حقا شرعيا في ممارسة مثل هذه التدخلات. فبعد محاولات مخفقة لإيجاد تسوية للحرب العربية-الإسرائيلية تضمن المصالح الاسرائيلية أطلقت الإدارة الأميركية القائمة يد إسرائيل في إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني وملحقاته اللبنانية والسورية بما يناسبها ويضمن لها الأمن والسلام والتوسع الجغرافي من دون اتفاق. وبعد أن حطمت قوات التحالف الدولي في التسعينيات البنيات التحتية للدولة وللمجتمع العراقيين تعود اليوم إلى مقدمة جدول الأعمال الأميركي مسألة تغيير النظام العراقي ووضع نظام بديل يكون منسجما أكثر مع المصالح الأميركية الإسرائيلية. وإذا لم تنجح واشنطن في القضاء على النظام العراقي من الضربة الأولى فسيعني ذلك فتح باب الحرب الأهلية في العراق بين عراق السلطة المركزية وعراق القوى المتحالفة مع الولايات المتحدة وربما توطين هذه الحرب لحقبة طويلة كما كان عليه الحال في فيتنام وكوريا أثناء الحرب الباردة. وبعد أن عبرت الإدارة الأميركية أكثر من مرة عن مطالبها في تغيير البرامج التعليمية الدينية بل إغلاق المدارس الدينية ورفع مستوى التعاون الأمني مع المملكة العربية السعودية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تخطو اليوم خطوة متقدمة أخرى بنشرها أو تسريبها محتوى التقرير الذي استمع إليه البنتاغون حول السعودية والذي يصفها بأنها مصدر الشر الأول في المنطقة الشرق أوسطية ويتهمها بالاستمرار في تغذية الإرهاب ودعم حركاته ونشاطاته وعدم التعاون الفعال مع واشنطن في هذا المجال• وفي آخر ما صدر عن الإدارة الأميركية تخصيص مليار دولار لبرنامج تطوير الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط ولا ندري بعد بأية طريقة؟ إذا كانت هذهالإدارة نفسها هي التي هددت الشعب الفلسطيني بأن انتخابه مجددا عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية سيدفع الإدارة إلى التحلل من التزاماتها تجاه الدولة الفلسطينية.
وليست العلاقات الأميركية-المصرية أو لم تكن هذه العلاقات أكثر سوءا في أية حقبة مثل ما هي اليوم بسبب ما تعتقد الإدارة الأميركية من أن القاهرة لا تقوم بالدور المنوط بها أو المنتظر منها لإقناع السلطة الفلسطينية بالكف عما تسميه الإرهاب، أي العمليات الفدائية، والقبول بالمساهمة بشكل أكبر في محاربة الإرهاب، أي في وقف الانتفاضة والمقاومة الفلسطينيتين وتسليم الأمر لحسن نوايا إسرائيل وحكومة شارون الاستعمارية بامتياز.
من يسمع خطابات المسؤولين الأميركيين وكتابات دعاتهم في الصحافة المكتوبة يعتقد أن البلاد العربية تخوض حرب استقلال مع الولايات المتحدة في الوقت الذي لا تكف فيه بلدان المنطقة العربية عن الكشف عن تعاونها الكامل معواشنطن في جميع الملفات الأمنية وفي مقدمتها ملف حرب الإرهاب. لا بل إن أحد تصريحات الخارجية الأميركية الأخيرة عبر عن امتنانه للتعاون الكبير الذي شهدته الأشهر الماضية مع الأمن السوري والذي ساهم في إنقاذ العديد من الأرواح الأميركية، وهو ما تؤكد عليه كذلك الديبلوماسية السورية. ومع ذلك لم يتوقف الضغط على الحكومات العربية ولا تزال التيارات اليمينية تقدم للكونجرس كل فترة ملفا أو مشروع قانون لمحاسبة هذه الدولة العربية أو عقاب تلك، كما حصل مع قانون محاسبة سوريا سيئ الذكر والذي لا تزال بعض الأوساط الممالئة لاسرائيل في الإدارة الأميركية تعمل المستحيل للحصول على أغلبية ضرورية لإقراره.
تجعل هذه الضغوط الهائلة على الدول العربية الرئيسية الحكومات في حيرة من أمرها وتدفعها إلى الشك في نفسها• فهي لا تستهدف دولا ولا سلطات تعلن عداءها للولايات المتحدة الأميركية أو تقف عقبة أمام تحقيق أهدافها مهما كانت ولكنها تتوجه لحكومات وسلطات لا تكف عن تأييد ثقتها في الولايات المتحدة ورغبتها في توثيق العلاقات معها ولا تمل من مناشدتها التدخل للمساهمة في حل مشكلات المنطقة وعلى رأسها مشكلة الصراع العربي-الإسرائيلي، وهي تضع جميع إمكانياتها السياسية والأمنية والمالية في خدمة الاستراتيجية الأميركية الاقليمية ولا تخفي استعدادها للتعاون بجميع الوسائل مع واشنطن لحل الخلافات الجزئية أو تجاوزها إذا وجدت بين الطرفين. 
ماذا تريد الولايات المتحدة الأميركية إذن من هذه الضغوط المستمرة التي تمارسها على أقرب المقربين إليها من النظم العربية والتي ترفض كل ما يضمن لهذه النظم الاستقرار أو حتى مراعاة ماء وجهها؟ وما الذي يتوجب على النظم العربية عمله حتى تنال رضى واشنطن وتأييدها؟
تنزع التحليلات العربية إلى التركيز على عنصرين لتفسير هذا الوضع المحير والأليم بل المأساوي بالنسبة لأنظمة وضعت أوراقها جميعا تقريبا في سلة الإدارة الأميركية واعتبرتها هي الحامية الوحيدة والضامنة الرئيسية لها في وجه خصومها أو من بعضها بعضا وأمام الكتلة الكبيرة الناقمة والمعترضة من شعوبها وسكانها. العنصر الأول هو خضوع الإدارة الأميركية أو قسم كبير منها للضغوط والابتزازات الإسرائيلية وتقارب وجهات النظر والتحليلات الاستراتيجية الأميركية-الإسرائيلية عموما بشأن المنطقة ومخاطرها ومصيرها• وليس من مصلحة إسرائيل أن تقوم بين البلاد العربية وأعظم قوة عالمية اليوم علاقات قوية ووثيقة تضعف من إمكانية استغلال التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي إلى أقصى الحدود وتضيق هامش المناورة الاستراتيجية الاسرائيلية• أما العنصر الثاني فهو انتصار التيار المتطرف اليميني الأميركي الذي يحقد على العرب والمسلمين ويؤمن بالحرب الحضارية ولا يرى مانعا في تدعيم إسرائيل باعتبارها الحليف المباشر والأمين له.
هذا التحليل ليس خاطئا تماما في عنصريه ولكنه ناقص وينبغي استكماله، ويتعلق بعض هذا النقص في فهم موقف التيار اليميني المتطرف الحاكم في واشنطن اليوم تجاه الشرق الأوسط عموما وموقف النظم العربية الصديقة لأميركا في الوقت نفسه• فالتلاقي بين السياسة الأميركية وسياسة شارون ليس صدفة ولكنه مرتبط بالقيم والأهدافوالتصورات التي تملي على الإدارة الأميركية سياستها الدولية واستراتيجياتها الاقليمية في الشرق الأوسط وغيره أيضا. 
فليس الشرق الأوسط في نظر الفريق الأميركي المسيطر على القرار اليوم هدفا في ذاته ولا منطقة صراع ينبغي عليه الاستثمار فيها لكسبها. إنها بالعكس منطقة مكرسة للسيطرة الأميركية منذ فترة طويلة وأصبحت مكرسة كليا، بل سقطت بنفسها في الفلك الأميركي باشتراكييها ورأسمالييها بعد زوال الحرب الباردة، وواشنطن تعرف أنه ليس فيها من لا يخطب ودها ويتقرب منها ويحلم أن يقيم معها علاقات وثيقة وكلية. فالنخب العربية التي أخفقت في إقامة أنظمة قائمة على أسس المشروعية والقبول الشعبي لا تجد مناصا للبقاء في الحكم ومواجهة المشكلات الداخلية الاقتصادية والسياسية والتقنية من دون شريك قوي خارجي تتقاسم معه المصالح والمنافع ويقدم لها الحماية المادية والكفالة السياسية. 
إن ما يثير قلق التيار الأميركي المتطرف ويشكل تحديا له أو في نظره ليس الشرق الأوسط ولا أمن إسرائيل وإنما ما يعتقد أنه المعركة الكبرى لضمان مستقبل أميركا وتفوقها وقيادتها العالمية في القرن الحادي والعشرين وبالتالي تحسين شروط قدرتها على مواجهة خصومها الحقيقيين القائمين والمحتملين من أوروبا إلى الصين مرورا باليابان وروسيا وغيرها. ومن منظور هذا الطموح والاستراتيجية التي يقتضي تطويرها وبلورتها لا يمكن لهذا الفريق أن يرىفي الشرق الأوسط تحديا يذكر. ولكنه أخذ ينظر إليه مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية ثم فيما بعد، على إثر أحداث سبتمبر ،2001 على أنه منطقة قلاقل ومصدر اضطرابات تعيق تقدم مسيرة الولايات المتحدة نحو السيطرة العالمية الشاملة كما أصبح يرى في الأنطمة المحلية القريبة من واشنطن حليفا ضعيفا وربما غير مقنع وغير مفيد لا في مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهها المنطقة والتهديدات التي تتعرض لها من قبل أنظمة مثل العراق ولا في ضبط جمهور يجنح أكثر فأكثر إلى التمرد على السلطات والعمل خارج نطاق سيطرتها كما تدل على ذلك المنظمات الإسلامية النشطة والمتوسعة. ومنذ اللحظة التي ترسخ فيها هذا التفكير في واشنطن اعتقدت الحكومة الأميركية اليمينية أن النظم والحكومات ليست جديرة تماما بالاعتماد عليها ونزعت إلى أن تأخذ معالجة شؤون المنطقة وحل مشكلاتها، كلما رأت أن هناك مشكلات وفي حدود رؤيتها لمثل هذه المشكلات وتقديرها، على عاتقها• ومن هنا أصبح هناك اعتقاد قوي في البيت الأبيض وعند أصحاب هذا التيار اليميني المسيطر عليه أنه لم يعد مطلوباً من الحكومات العربية أن تفكر ولا أن تقرر ولا أن تساهم في تكوين الرؤية الخاصة بالمنطقة ولكن أن تطبق فقط ما تطلبه منها الإدارة الأميركية نفسها• وفيما يتعلق بالنزاع العربي-الإسرائيلي الذي جعلت منه الدول العربية في نظر واشنطن قميص عثمان تخفي وراءه عجزها وتقاعسها وعدم كفاءتها وفسادها، ليس على العرب إلا قبول الأمر الواقع والتعاون، فيما وراء قضية الفلسطينيين وبصرف النظر عن حلها الذي سيأخذ وقتا طويلا، مع إسرائيل والولايات المتحدة، في سبيل تحسين أوضاعهم. وفيما يتعلق بمسألة التهديدات الناجمة عن انتشار الأفكار التي تشكل مصدر الإرهاب في نظر الإدارة الأميركية الراهنة ينبغي على الحكومات العربية أن تسلم بشكل أكبر زمام الأمور إلى الولايات المتحدة وتأتمر بأوامرها وتضع تحت تصرفها جميع الوسائل والوثائق والامكانيات التي تساعدها على استئصال جذور الإرهاب• وبمعنى آخر أن تتخلى في هذا المجال على الأقل عن سيادتها تماما وتفتح جميع ملفاتها بشكل مباشر ومستمر للأمن الأميركي.