كيف أصبح مصير التغيير العربي مهمة استعمارية؟

2003-05-14:: الاتحاد

كيف أصبح مصير التغيير العربي مهمتطرح التهديدات الأميركية الجديدة لحكومات الشرق الأوسط العربي تحديات كبيرة على الأنظمة وعلى المعارضة في الوقت نفسه· وفي العديد من الحالات، كما بين ذلك مثال العراق قبل الاحتلال، لا يبدو أن كابوس الغزو الأجنبي يساهم في تقليص الشقة القائمة بين الأنظمة والمعارضات بل ربما يعمقها· ويبدو وكأن تفاقم النزاعات الخارجية، على عكس ما يتصوره أو كان يتصوره المعارضون الوطنيون وما تقتضيه فكرة الوطنية نفسها، يزيد من تسعير الخلافات الداخلية ويؤججها بدل أن يردم الهوة بين أطراف الشعب الواحد المتنافسة والمتنازعة· فبينما ينتظر الجمهور من الحكومات انفتاحا أكبر عليه عندما تتعرض للضغوط الخارجية حتى تكسب رضاه وتأييده على سبيل تعزيز الوحدة الوطنية، وهو ما لا تكف المعارضات عن التذكير به والمراهنة عليه للخروج من المأزق والموت البطيء، يبدو وكأن الحكومات تنتظر الأزمات الخارجية إن لم تفتعلها وتراهن عليها كي تبرر الانغلاق والتضييق على المعارضة والمجتمع ككل· وقسم منها لا يتردد في القول إنه في أوقات الأزمة الوطنية لا ينبغي لصوت أن يعلو على صوت المعركة وإن الحفاظ على الأمن والاستقرار لا يستقيم من دون فرض الصمت على السكان ومنعهم من الحركة أو المساءلة أو المشاركة في أي مستوى كان من مستويات الحياة العامة·
لكن الأمر لا يختلف كثيرا عن ذلك عندما تزول الضغوط أو تتوقف لفترة طويلة أو قصيرة· فما إن تهدأ العاصفة الخارجية حتى تعود النخب الحاكمة إلى غطرسة القوة السابقة التي ميزتها خلال عقودها الطويلة وتزيد من جديد من التضييق على الجمهور وتقليص هامش الحريات المدنية بعد إلغاء الحريات السياسية أو تقييدها الكامل· كما لو أن زوال الضغط أو توقفه يعطي هذه النخب الشعور بأنها إن لم تكن في حظوة القوة الأكبر وتأييدها فهي على الأقل ليست مستهدفة منها وهذه الطمأنينة كافية كي تبث في نفسها الراحة والاستقرار وتشعرها بأنها في مأمن من أي خطر ولا داعي هناك لأن تقدم للمعارضة وللجمهور تنازلات مجانية لم تفرض عليها بالقوة ولا يستحقانها ولا جدوى منها· وهكذا تستخدم الحكومة في وقت الهدوء منطق التفوق لتبرير انفرادها بالحكم والقرار ورفض القيام بأي تنازل عن انفرادها المستديم بالسلطة· لكنها ما إن تشعر بأن الضغوط الخارجية تزداد عليها حتى تبالغ أكثر في رفض الانفتاح والحوار والمصالحة الوطنية مبررة ذلك بأنها لا تقبل ولا يمكن أن تقبل بالقيام بتنازلات في وقت تتعرض فيه لضغوط خارجية لأن مثل هذه التنازلات يمكن أن تفهم على أنها إشارة ضعف وتراجع من طرفها وتشجع بالتالي أعداءها على التجرؤ عليها والمطالبة بالمزيد من التنازلات·

والنتيجة أن النخب العربية ترفض في كل الأحوال، حال القوة وحالة الضعف، أي تعديل في النظم القائمة وتقطع في الوقت نفسه أي طريق للتغيير والإصلاح الداخلي ولا ترى هناك وسيلة للحفاظ على الوحدة الوطنية إلا رمي المعارضات بتهم التعامل مع الأجنبي أو مساعدة القوى المعادية في حين تبيح لنفسها أن تواصل من دون تردد القضم اليومي لإطار المواطنية ومعناها وقيمها· ولشرهها الذي لا ينتهي للسلطة والثورة لا تدرك هذه النخب أنها في رفضها التنازل عن أي من الامتيازات التي أعطتها لنفسها ضد القانون وإصرارها على إقامة الحكم على ميزان القوة لا تترك أمام المجتمع أي هامش للتمييز بين حكم الامر الواقع الذي تفرضه القوى الداخلية على المجتمع بقوة السلاح والسيطرة الأمنية والحكم الذي يفرضه الاستعمار بقوة تفوقه العسكري·
في مثل هذه الحالة لا يمكن للمعارضات إلا أن تجد نفسها في مواجهة خيارين لا محيد عنهما: القبول بالاستبداد والسكوت عنه إن لم يكن التعاون معه أو الاستمرار في رفع المطالب الوطنية والمغامرة بأن تتهم بالوقوف إلى جانب القوى الأجنبية، وذلك مع خطر أن تصب نضالاتها المشروعة في سبيل العدالة والمساواة والحريات والمشاركة السياسية بالفعل في طاحونة القوى الخارجية· والنتيجة ضغوط متبادلة بين الحكومات والمعارضات تجعل النخب الحاكمة تشعر بأنها تتعرض لتهديد خارجي وداخلي يفرض عليها اللجوء إلى قانون الاستثناء المجحف، سواء أعلنت حالة الطوارئ أم لم تعلن، كما تجعل المعارضات تعيش في محنة الاختناق الدائم وتتطلع إلى التدخلات الأجنبية وكأنها الأمل الوحيد بالخلاص·
فما هي هذه الآلية الجهنمية التي أوصلتنا إلى هذا المأزق الخطير الذي يدمر قوانا الوطنية ويحيد بعضها ببعض آخر والتي تدفع المجتمعات العربية نحو القطيعة المتزايدة بدل التقارب الوطني وتفرض على الأطراف المختلفة المتنافسة الانغلاق والتمسك بمواقف جامدة ورفض الحوار؟ وما الذي يجعل الحكومات التي تتعرض لبعض الضغوط الخارجية تشعر بأنها ضعيفة لدرجة تعتقد فيها أن أي انفتاح على القوى السياسية الداخلية يمكن أن يفقدها توازنها ويهدد قدرتها على السيطرة على الموقف الداخلي بدل أن تجد في تعبئة الجمهور وكسبه إلى صفها ولسياستها وسيلة لتعزيز موقفها ورفض الابتزاز الأجنبي؟ وما الذي يدفع المعارضات الوطنية إلى أن تتطلع إلى التدخلات الأجنبية وترى فيها الحل الوحيد لحالة العطالة والموت والثبات؟
تطرح هذه التساؤلات تحديا كبيرا على العقل السياسي العربي وتستحق الكثير من الفحص والمساءلة· لكن منذ الآن يبدو لي أن من الممكن وضع بعض الطروحات التي تساهم في إطلاق حركة التفكير الواسع بما أسميه أزمة الوطنيات العربية الراهنة· وكما أرى الأمور حسب معطيات اليوم، ينبغي البحث عن حل هذه المعضلة في طبيعة أنظمة الحكم نفسها وممارسة السلطة· فما دامت الحكومات ليست صادرة عن الشعب ولا مرتهنة بإرادته فهي لا تشعر أنها مدينة له بشيء ولا ترى في أي انفتاح عليه سوى تنازل عن حقوق حصلت عليها بجهدها الخاص سواء أتجسد هذا الجهد في تنظيم حركات انقلابية أو شبكات سلطة سرية أو في التفاهم الخاص مع الدول الأجنبية والتعاون معها· وهي تدرك أن أي انفتاح سياسي داخلي لا يمكن أن يقود في هذه الحال إلا إلى الانتحار الذاتي لأنه يعني القبول بسحب البساط من تحت أقدامها وتهديد الأسس التي تقوم عليها سلطتها·

ومن هنا لا يمثل الشعب محاورا لها أو طرفا من أي نمط كان ولا في أي ظرف كان· أما المحاور الفعلي والطرف الأصيل والأصلي فيبقى القوى الخارجية التي تؤثر وحدها على ميزان قوة الحكم واستمراره· ولذلك فليس لدى هذه الحكومات حسابات أدق من حساباتها تجاه القوى الكبرى الخارجية· وإذا كان عليها أن تقدم تنازلات ما أو إذا فرضت عليها التنازلات فهي تفضل أن تقدمها لهذه القوى القادرة وحدها في نظرها على ضمان الأمن والسلامة لها أو انتزاعها من جذورها، ولا يمكن أن يخطر ببالها لحظة أن تقدمها للشعب لتعزز بها مواقفها· وكل ذلك يعبر عن حقيقة ساطعة أليمة ومدمرة في الوقت نفسه، هي أن الشعب لم يملك في أي وقت مصيره بيده ولم يصبح سيد أمره ولا صاحب سلطة وبالأحرى صاحب السلطة· لقد كان ولا يزال البضاعة التي يتاجر بها معسكر صناعي قوي ومتجبر ويلزمها هنا وهناك إلى من يعتقد أنه الأصلح لتحقيق مصالحه في هذا الوقت أو ذاك· ولذلك أيضا لا ينبغي أن يستغرب بعضنا ممن يحزنه وضعنا الذي صارت فيه الوطنية وسيلة ابتزاز لتبرير الاستبداد والديمقراطية شعارا لتبرير الاحتلال أن يزداد الانسحاب لرجل الشارع العادي من الحياة العمومية مع تعاظم اعتقاده بصحة القول القديم القائل: لا ينزل الحمار من المئذنة سوى ذاك الذي أصعده إليها·