كشف حساب التدخل العسكري الأمريكي في المشرق العربي

2005-07-07:: الجزيرة نت

 بعد أن فشلت الولايات المتحدة في العثور على أسلحة الدمار الشامل التي جعلت منها المبرر الرئيسي والشرعي لإسقاط النظام العراقي بالقوة المسلحة وتحقيق هدفها في احتلال العراق وتثبيت أقدامها فيه، أخرجت دبلوماسيتها من صندوقها السحري فكرة الحرب على الاستبداد ودفع العالم العربي الغارق في النظم الشمولية نحو الديمقراطية. وكان هدفها من ذلك أن تضفي على استراتيجيتها العسكرية الهجومية الجديدة في الشرق الأوسط مسحة أخلاقية تبرر تدخلها المباشر في شؤون المنطقة وتخفف من أثر الهجوم القوي الذي تتعرض له من قبل مناوئيها في العالم العربي والعالم أجمع قبل أن يصبح هذا الهجوم قضية داخلية ويدخل إلى أروقة الكونغرس الأمريكي نفسه. وبالرغم من أن الرأي العام العربي والعالمي أيضا لم يخدعا كثيرا بتصريحات المسؤولين الامريكيين وبياناتهم وإعرابهم المتكرر عن نواياهم الخيرة تجاه الشعوب العربية إلا أن قطاعات واسعة من الجمهور العربي الذي فقد الأمل بأي إصلاح داخلي حقيقي وضاق ذرعا بالوعود الفارغة لزعمائه بدأت تعتقد بالفعل بأنه ربما كان لواشنطن مصلحة في تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية في المنطقة والتخلي عن سياساتها التقليدية في دعم النظم الفاسدة الأبوية والاستبدادية. ومما ساهم في ترسيخ هذا الاعتقاد عاملان. الأول الحملة الاعلامية القوية التي خاضتها وسائل الإعلام الأمريكية والتي أكدت فيها على الطبيعة العقائدية لالتزامات الرئيس جورج بوش وهوسه الحقيقي بتحقيق تقدم على صعيد نشر الديمقراطية. والثاني تأكيد معظم المحللين السياسيين العرب والدوليين للطرح القائل بأن الولايات المتحدة التي مالت في العقود الماضية إلى التحالف مع الأنظمة القائمة بصرف النظر عن طبيعتها في سبيل الحفاظ على الاستقرار وإنجاح الحرب ضد الارهاب قد أدركت اليوم خطأ هذا الطرح. فهي تميل الآن إلى تبني طرح مباين له تماما ينطلق من الاعتقاد بأن نظم الاستبداد والإقصاء السياسي والفساد ومصادرة الدولة والسلطة من قبل مجموعات مصالح خاصة وضيقة معا ربما كان السبب الرئيسي في انتشار الارهاب في العالم العربي وتصديره إلى بقية بلدان العالم. وفي هذه الحالة ليس للولايات المتحدة التي جعلت من الحرب ضد الارهاب محور استراتيجتها العالمية أي مصلحة في تبني سياسات الحفاظ على الوضع القائم والتضامن مع النظم الاستبدادية التي تضبط هذه الأوضاع، وأنه ربما كان من مصلحتها بشكل أكبر التخلي عن نظرية الدفاع عن الاستقرار لصالح تبني نظرية العمل في اتجاه نشر الفوضى الخلاقة.

وبصرف النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة قد اقتنعت بالفعل بأهمية العمل في سبيل الاصلاح والديمقراطية أم أنها تستخدمهما فقط من أجل إضفاء الشرعية على أهدافها الاستراتيجية المرتبطة في الشرق الأوسط بالسيطرة الأحادية أو القوية على النفط وبتأمين حماية إسرائيل ونزع سلاح أعدائها سواء أكان سلاح دمار شامل أم غير شامل، وبصرف النظر أيضا عما إذا كانت واشنطن معنية أساسا بالحرب على الارهاب أم أنها تستخدمها كوسيلة لنشر قواتها وسيطرتها العالمية وإجبار الدول الكبرى الأخرى على العمل على أرضية أجندتها الوطنية، لا يستطيع أحد أن ينكر اليوم أنه كان لاستراتيجية التدخل الأمريكي الشامل، العسكري والاقتصادي والسياسي، آثارا كارثية على المصالح العربية سواء ما تعلق منها بنشر الديمقراطية أو بتحقيق السلام الإقليمي وتحرير الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان ولبنان أو في إطلاق ديناميكية تنمية إقليمية أو في تعزيز فرص التكتل العربي والتعاون الاقليمي الذين لا غنى عنهما للتقدم في أي مشروع إصلاح سياسي أو إقتصادي جدي.
ولا يحتاج المرء إلى نظرة ثاقبة حتى يدرك ذلك على الطبيعة. فقد ترافقت السياسة الامريكية الجديدة كما هو واضح للجميع بتعزيز التطابق بين أهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة الشرق أوسطية وأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية مما قاد إلى وضع حد لجهود السلام وقضى نهائيا على عملية برشلونه التي كانت الإطار الوحيد الذي صاغته الدبلوماسية الدولية لفتح حوار مثمر بين العرب والاسرائيليين قد يقود إلى الخروج من حالة الحرب الكامنة وتحرير الأراضي العربية بالوسائل السياسية. وهكذا وصلت عملية مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية التي كانت ولا تزال محور أي جهد جدي في اتجاه إصلاح الأوضاع في الشرق الأوسط إلى طريق مسدود تماما وحلت محلها مناورات ومراوغات إسرائيلية لا تنتهي لابتلاع ما احتلته من الأراضي في الضفة الغربية والجولان.
وعلى مستوى التعاون العربي والإقليمي، تدفع الضغوط الأمريكية التي رافقت استراتيجية السيطرة الشاملة ووضع اليد على المنطقة، إلى التنافس بين الحكومات العربية على التخلي عن تراث العمل العربي المشترك الماضي ومن وراء ذلك إلى التجميد العملي والنظري لأي جهود تكتلية عربية بل إلى التنكر لفكرة الجماعة العربية نفسها على سبيل التجاوب مع مبادرة الشرق أوسطية التي تهدف إلى وضع إسرائيل في قلب أي تكتل إقليمي مقبل. وهكذا لم يتحقق أي تقدم يذكر لا في التعاون بين أعضاء المجموعة العربية لتحسين شروط الاندماج في منظومة العولمة الاقتصادية والجيوسياسية والثقافية والعلمية والتقنية العالمية ولا في التعاون بين المجموعة العربية والدول المجاورة غير العربية.
وعلى مستوى إطلاق عملية التنمية التي تشكل التحدي الأكبر لدول المنطقة التي تشهد تزايدا قويا في معدلات الفقر وتدهورا مستمرا في شروط المعيشة وتفاقما لحجم البطالة التي قد تتجاوز في أوساط الشباب نصف القوة العاملة، ما كان من الممكن حصول أي تقدم مع استمرار جمود الأوضاع الاستراتيجية وغياب التعاون العربي والإقليمي. ولا تزال المنطقة العربية تعاني من أدنى معدلات نمو إقتصادي بالمقارنة مع جميع مناطق العالم، إذا استبعدنا مساهمة تصدير النفط والأثر المباشر لزيادة أسعاره في السنوات القليلة الماضية.
وليست الخسارة بأقل من ذلك على صعيد المسألة الأمنية سواء ما تعلق منها بالأمن الخارجي أو الداخلي لبلدان المنطقة. فهي تعيش جميعا في حالة انكشاف كامل وليس هناك دولة واحدة تستطيع أن تدعي أنها تعتمد في أمنها الوطني على قواها الذاتية أو تحالفاتها الفعلية. وهو ما دفعها جميعا إلى أن تضع نفسها تحت الوصاية والحماية الأجنبية. أما في الداخل فمعظمها، من العراق إلى السعودية مرورا بالأردن ولبنان وسورية، يشهد تناميا ملفتا لبؤر الارهاب التي لم تكن قوية في أي فترة سابقة كما هي اليوم. وجميعها تعيش على وقع عمليات المداهمة والقتل والاغتيال، كما تتهدد وحدة مجتمعاتها النزاعات العائلية والإتنية والدينية.
لكن ربما كان الخراب الأكبر الذي نجم عن سياسات الولايات المتحدة الخرقاء في الشرق الأوسط يتعلق بمسألة الديمقراطية التي تريد واشنطن أن تجعل من دعمها لها عنوانا لأهدافها الأخلاقية. وفي اعتقادي أن ضغوط الولايات المتحدة في هذا المجال قادت أكثر من أي ميدان آخر إلى عكس النتائج التي يريدها العرب وتتفق ومصالحهم الكبرى. فمن جهة أولى أدت سياسات زعزعة الاستقرار إلى تعزيز التحاق النخب الحاكمة بالاستراتيجية الأمريكية وتقديم التنازلات لها على حساب المصالح الوطنية. وفي سبيل التغطية على هذه التنازلات أو منع الجمهور من استخدامها لتبرير ضغوطه على الحكومات لتحقيق أهداف اجتماعية خاصة به قامت الأنظمة، بعكس ما تشير المظاهر السطحية، بتشديد قبضة النظم الأمنية وتطوير أدائها. ومن جهة ثانية، بقدر ما ربطت الولايات المتحدة بين أهدافها الاستراتيجية الاستعمارية، سواء ما تعلق منها بنشر القواعد العسكرية الأمريكية في أكثر الدول العربية، وليس في العراق وحده، أم ما تعلق منها بالدعم غير المشروط لسياسات إسرائيل الاستيطانية أضعفت من شرعية القضية الديمقراطية العربية ودفعت قطاعات واسعة من الجمهور الملوع بالقمع إلى التشكيك فيها والابتعاد عن المشاريع المرتبطة بها. ومن جهة ثالثة كان للخطابات الأمريكية المتكررة حول التمسك بالتحويل الديمقراطي أثر تخديري على النخب العربية التي اعتقدت أنها بالمراهنة على الضغوط الأمريكية تستطيع أن توفر على نفسها عناء العمل الشاق النظري والعملي من أجل بناء القوى الديمقراطية القادرة على تغيير موازين القوى الداخلية والسعي بجميع الوسائل إلى الربط مع الجمهور الواسع وإدخاله في العملية السياسية التحويلية. ومن جهة رابعة قدمت الضغوط الأمريكية باسم الاصلاح والديمقراطية ذريعة سهلة للنظم العربية الاستبدادية لمحاصرة القوى الديمقراطية واتهامها بالمشاركة مع واشنطن في تكثيف الضغوط عليها والمساهمة بالتالي في زعزعة الاستقرار وتهديد الوحدة الوطنية. ومما عزز من هذه الاتهامات اختلاق الولايات المتحدة نفسها لأحزاب معارضة تابعة لها من دون أي قاعدة داخلية بدل أن تتعامل بشكل واضح وعلني مع قوى المعارضة الوطنية وتفتح مفاوضات سياسية علنية معها تكشف النوايا الحقيقية الأمريكية. وهكذا أظهرت الولايات المتحدة أنها لا تريد من الديمقراطية إلا استبدال النظم القائمة بنظم تسيطر عليها أحزاب هي صنيعتها الفعلية كما يعبر عن ذلك إنشاء حزب المؤتمر الوطني لأحمد الشلبي في العراق وحزب الاصلاح السوري لفريد الغادري. إن ما حصل كان في الحقيقة مصادرة مباشرة للقضية الديمقراطية العربية من قبل الولايات المتحدة ومحاولتها لاستخدامها لخدمة أهداف السياسة الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة، أي لتحقيق أهداف تتعارض كليا مع الأهداف الوطنية والجماعية العربية.
قد يقول البعض : لا يمكن أن ننكر أن الضغوط الأمريكية قد أضعفت النظم العربية أو زعزعتها وسمحت بالتالي لبعض قوى المعارضة والرأي العام بأن ترفع رأسها وتزيد من قوة انتقادها كما شجع قطاعات أخرى من المثقفين والناشطين على دخول الحلبة السياسية والتعبير عن رأيهم بحرية أكبر. وأنا أعتقد بالعكس من ذلك أن هذه الضغوط، حتى على هذا المستوى، قد خدمت النظم القائمة لأنها دفعت النخب الثقافية إلى الاندفاع وراء أوهام التغيير السريع المحتمل المراهن على التناقض بين النظام والخارج ومنعتها من الانخراط في العمل الطويل والشاق للربط مع قاعدتها الاجتماعية الأساسية والشغل عليها وإعدادها. وكل ذلك جعل مسألة التغيير تبدو وكأنها عملية إنقلاب سياسي سطحي وحرم الناشطين الديمقراطيين من إدراك ضخافة المهام الموكلة إليهم على سبيل السعي إلى استعادة ثقة الشعب والجمهور الواسع وإعادة تثقيفه بالقيم الجديدة وإعداده سياسيا وتنظيميا لخوض معارك التحويل الديمقراطي التي تتجاوز بكثير مسألة تغيير السلطة أو أشخاصها لتصب في تحويل المجتمع ونوعية العلاقات التي تجمع بين أفراده. لقد اختصرت الديمقراطية إلى صراع من أجل الحريات الشكلية فحسب.
هذا ما يفسر التعثر الكبير الذي لا تزال تعاني منه قضية التحويل الديمقراطي العربية كما يفسر مراوحة المعارضة الديمقراطية العربية في مكانها بالرغم من كل الخطابات الحماسية للرئيس بوش ودعوته الحكومات إلى الانخراط في الاصلاحات المؤدية إليها. فهي لا تزال بعيدة عن أن تكون قوة مؤثرة في بلدانها كما لا تزال تعاني من عزلة عميقة عن بقية قطاعات الرأي العام وتفتقر بصورة محزنة للمبادرات والمشاريع والأفكار التي تجعل منها قطبا ديناميكيا فاعلا في الحياة الثقافية والسياسية لبلدانها. وقد وصلنا نتيجة لكل ذلك إلى وضع خطير لا يستطيع أحد أن يعرف مآله ناجم عن التهافت السياسي والايديولوجي للنظم الشمولية القائمة وفي الوقت نفسه استمرار ضمور المعارضة وفشلها في مراكمة القوة المادية والمعنوية التي تؤهلها لاستلام السلطة وإخراج النظم المتهلهلة. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة نجحت في النهاية في أن تجعل الخيار الوحيد هو التدخلات الخارجية. وهذا ما يؤكد ما كررناه مرارا عن التضامن العميق والموضوعي بين الاستبداد والاستعمار. وكلاهما يراهن على قطع الطريق على تمكين الشعوب من مصيرها ولا يحققان استقرارا ولا نموا اقتصاديا ولا ديمقراطية.
ما هو العمل المطلوب الآن؟
كنت قد حذرت عشية غزو العراق من وهمين بدآ يسيطران على الرأي العام العربي، وهم الاعتقاد بأن التدخل الأمريكي قادر على تحقيق الأهداف الديمقراطية والاصلاحية العربية ووهم الاعتقاد بأن النظم العربية قادرة على فرز تيارات إصلاحية جدية. وقلت إن الضمانة الوحيدة لحصول أي تقدم في اتجاه الديمقراطية أو الاصلاح هو بناء القوى الداخلية فكريا وعمليا وإلا فإن الأمور سوف تسير أكثر فأكثر نحو التعقيد والخراب الأعم. وهو ما نعيشه اليوم مع الانسداد الحاصل على جميع الجبهات وفي كل الاتجاهات. فيبدو العالم العربي اليوم مكبل وجامد من دون خيارات . والآن لم تتغير المعادلة كثيرا ولا يزال الخيار الوحيد بالنسبة لي هو العودة إلى المجتمعات والشعوب من أجل تثقيفها وتنظيمها وإعدادها لمعارك التحويل والاصلاح الطويلة. وهو ما لم يحصل حتى الآن لا من قبل المعارضة ولا من باب أولى من قبل النظم القائمة.