في مخاطر الخلط بين الديمقراطية والليبرالية

2005-06-02:: الجزيرة نت


في الوقت الذي يصوّت فيه الناخب الفرنسي والأوروبي عموما ضد الدستور الأوروبي الجديد لما يتسم به من الليبرالية المفرطة التي تهدد المكتسبات الديمقراطية، يتزايد الحديث لدى أوساط المثقفين العرب، على هامش نمو الفكرة الديمقراطية في بلدانهم وبموازاتها، عن الليبرالية كما لو كانت متطابقة مع الديمقراطية أو رديفا لها. وبقدر ما يعكس الخلط بين المفهومين رغبة بعض قطاعات المثقفين العرب في تفسير الديمقراطية بما يتجاوز مسألة الرد على تحديات السلطة الاستبدادية، ويصب بالأحرى في معركة التحرر من القيود والضغوط التي تمارسها المجتمعات التقليدية على الفرد، يثير الأمر بالمقابل مخاوف كبيرة لدى قطاعات الرأي العام الواسعة التي تخشى أن يكون مضمون الديمقراطية الإباحة الكاملة لكل ما يمكن أن يشكل خرقا للقيم والتقاليد والعقائد الدينية.

فكما تبدو الديمقراطية لدى الفريق الليبرالي المتنامي وسيلة لتأكيد سيادة الفرد المطلقة تجاه المجتمع، تظهر عند الفريق المحافظ والإسلامي منه بشكل خاص كتحرر من كل قيد بل من كل التزامات تجاه هذا المجتمع نفسه واستباحة لجميع المحرمات. وربما شكل هذا التناقض المتنامي في حجر الفكر السياسي العربي الناشئ، وهو التناقض المسكوت عنه اليوم بسبب الالتقاء الظرفي في المصالح بين جميع تيارات الاحتجاج على النظام التسلطي العربي، مصدر القلق والتردد والتشكيك وبالتالي الانقسام على النفس الذي لا يزال يطبع موقف الرأي العام العربي من مسألة الاختيار الديمقراطي ويؤخر الحسم فيه، بالرغم من تنافس الجميع في تقديم الولاء الظاهري للفكرة الديمقراطية. فكيف يستقيم القول بالديمقراطية مع الرفض الواضح لليبرالية من دون التمييز بين المفهومين، وما ينجم عنهما من ممارسات اجتماعية وسياسية؟

تنطلق الفلسفة الليبرالية الأصلية من اعتقادات ثابتة أساسية لا تستقيم من دونها. أولها مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بأن بحث كل فرد حر عن مصالحه الخاصة لا يتناقض مع تحقيق المصلحة العامة للجميع، ولكنه يشكل بالعكس ضمانته الحقيقية. ويعني هذا أنه إذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة فسنصل إلى انسجام حقيقي في المصالح، أكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام أو لاختراعه. وثانيها أن حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية. ولا يعني هذا مجرد الافتراض بأن الاقتصاد الحر هو شرط للحرية السياسية أو الديمقراطية فحسب، ولكن أكثر من ذلك أن الحريات الاقتصادية المجسدة في اقتصاد السوق الحر تقود مباشرة وتلقائيا إلى نشوء الحريات السياسية وتأكيدها. وثالثها أن الديمقراطية والليبرالية متطابقتان تماما، فلا ديمقراطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديمقراطية، وبالتالي فالليبرالية تضمن بشكل تلقائي تكافؤ الفرص وآفاق الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية لجميع الأفراد، بقدر ما تضمن النمو والتقدم الاقتصادي.

لكن الليبرالية كما يعرضها أنصارها وكما عادت إلى التجلي عبر ما يسمى اليوم بالليبرالية الجديدة التي تحولت إلى مذهب سياسي للقوى الكبرى، قد واجهت ولا تزال انتقادات كثيرة. قبل أن تظهر التجربة التاريخية أن الحرية بالمعنى الذي تدعو إليه الليبرالية لا تقود بالضرورة إلى الانسجام الطبيعي بين جميع المصالح الاجتماعية، كما أنها يمكن أن تعمل على إيجاد أوضاع اجتماعية تخل بشروط ممارسة الحرية عند القسم الأكبر من الرأي العام لصالح فئات قليلة هي المسيطرة على موارد الثروة والسلطة والمعرفة. لذلك فهي بدل أن تقود إلى تعميم قيم الحرية، تمنع من تحقيق ما تطمح إليه المجتمعات من عدالة ومساواة حقيقيتين. وكان جون ستيوارت ميل قد لاحظ مثل هذه التناقضات داخل الليبرالية، وسعى عبر فلسفته الخاصة إلى التوفيق بين مبادئ الحرية ومبادئ العدالة والمساواة. وهكذا قام بالتمييز منذ القرن التاسع عشر بين مجال الخاص أو مجال الحرمة الشخصية الذي يكون فيه الفرد حرا تماما ولا حق للدولة أو السلطة العمومية في تقييد حريته، ومجال العام الذي يكون فيه للدولة الحق في أن تتدخل بما يضمن مصالح الكل الاجتماعي واتساق حريات الأفراد وقيم المجتمع. وكان هذا التمييز تأكيدا على أن الكل الاجتماعي ليس حصيلة حسابية للفرديات الحرة وإنما هو كيان مختلف عن الفرديات جميعا، له منطق اتساقه الخاص الذي لا يتطابق مع منطق الفرد الحر ميكانيكيا. وهو ما يعني أن ما نسميه المصلحة العامة لا يمكن أن ينجم تلقائيا من تنافس المصالح الخاصة.

ولا يقبل الفكر الديمقراطي المعاصر بالمسلمة القائلة إن احترام الحريات الفردية يقود حتما إلى تحقيق القيم الإنسانية المطلوبة وينتج تلقائيا العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد، ولا يؤمن بالتالي بالانسجام الطبيعي بين حقلي الحرية الاقتصادية والسياسية. إن الحرية لا بد أن تترافق مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حدا أدنى من الاستقلال يمكن الأفراد من ممارسة حرياتهم والتعبير الصحيح عنها. فالحرية وحدها ليست مبدأ كافيا لقيام نظام ديمقراطي واجتماعي صالح وناجع بالرغم من أنها تبقى قيمة أساسية فيه. فإذا لم تكن هناك ديمقراطية من دون حرية، فلا حرية أيضا من دون عدالة ومساواة قانونية فعلية. ومن هنا لا يعتبر الفكر الديمقراطي المعاصر عدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية مذهبا مقدسا وشرطا لقيام اقتصاد سوق ناجح ومنتج. ومن هنا سوف يتبلور عبر التجربة التاريخية الطويلة مفهوم للديمقراطية، ويتقاطع مع الليبرالية في مناح عديدة. المنحى الأول هو التمييز بين المظاهر السطحية والشكلية للممارسة الديمقراطية، وبين تحقيق القيم العميقة للفلسفة الليبرالية. وكان ماركس أول من كشف عن هذا التناقض العميق بين الحريات الشكلية التي وعدت بها الليبرالية، وبين العبودية التي ينتجها ويفرضها تحكم رأس المال حتما على الطبقات الشعبية.

وبالرغم من الانحراف الذي قادت إليه هذه النظرية الصحيحة، والذي اتخذ شكل معارضة نظام الحرية السياسية أي الديمقراطية "الشكلية" كما كان يقول الماركسيون بنظام المساواة الاجتماعية أو الديمقراطية "الشعبية" التي تقوم على عدالة توزيع الثروة، فإن تطور التجربة الليبرالية نفسها قد أسفر عن رؤية تكاد تكون موضع جماع على أمرين. 

الأول أن الديمقراطية بما تعنيه من ضمان حرية الأفراد ومشاركتهم السياسية واستقلالهم، لا يمكن أن تتحقق من دون حد أدنى من العدالة والإنصاف في توزيع الثروة. والثاني أن نظام السوق بالرغم من قانون المنافسة الذي يضبطه يقود حتما وبصورة تلقائية إلى تركيز الثروة، وبالتالي أيضا السلطة والمعرفة بيد فئات قليلة. ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الأوروبية التقليدية مع الزمن سياسات اجتماعية أساسية، لتجاوز هذا التناقض وإخضاع المبادئ الليبرالية التقليدية إلى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع أصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع، وتقضي بالتالي على الديمقراطية باسم الحرية أو الحفاظ على أوسع قدر من الحريات الفردية الذي تسعى إليه الليبرالية. وهذا يعني أن الديمقراطية لا تتعلق فقط بالمظاهر والمؤسسات الشكلية ولكنها تهتم بشكل أكبر بالقيم الاجتماعية والسياسية الفعلية. وهو ما يساعدنا على التمييز بين نظام التعددية السياسية بما يشير إليه من اعتراف بالحريات والحقوق الأساسية للأفراد، وبين نظام الديمقراطية بما يتضمنه من تأكيد لقيم الحرية والعدالة والمساواة.

فمن الممكن أن يكون هناك نظام يحترم بدقة التعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير والتنظيم والمشاركة للجميع، لكنه لا يحقق مع ذلك القيم الديمقراطية من تكافؤ الفرص والمشاركة العملية وحرية الرأي وغيرها. ذلك أن فئة قليلة من أصحاب الرساميل تسيطر على النظام التعددي وتسيره حسب مصالحها وتتلاعب بالإرادة الشعبية. وهذه أكبر المخاطر التي تواجهها الليبرالية في الواقع. ومن هنا لم يعد مقياس ديمقراطية المجتمع هو دقة احترام الدساتير للمبادئ الليبرالية، وإنما حقيقة مطابقة هذه المبادئ مع الوقائع الاجتماعية. إن الديمقراطية تقاس إذن بمدى تحقق قيم الحرية والمساواة والعدالة، فلا حرية مع الفقر أو التفاوت الفاحش في مستويات المعيشة، ومن هنا يعتبر ما قامت به بعض الحكومات في العقود الماضية من تقليص سلطة الملاك شبه الإقطاعيين وإعادة توزيع الأرض على الفلاحين باسم الإصلاح الزراعي إجراءا ديمقراطيا، بالرغم من أنه حصل في سياق وبأسلوب غير ديمقراطي.

وبالمثل فإن دمج الفلاحين في الحياة الوطنية الحديثة عن طريق نخبهم أو مباشرة بتحسين شروط الحياة في الأرياف، وربط هذه الأخيرة بشبكات النشاط الاقتصادي والسياسي والفكري المدينية، هو جزء من عمليات التحويل الديمقراطي مهما كانت الشروط التي تم فيها. فلم تعد الديمقراطية في هذا المنظور تطبيقا مباشرا وتلقائيا لفلسفة الحرية الفردية، وأصبحت هي نفسها مثالا أو نموذجا للانسجام داخل النظام الاجتماعي، تقاس به درجة تحقق الحرية الفردية الفعلية أو حقيقة الحرية المدعاة في النظم السياسية. وهذا الفصل بين الديمقراطية كنظام اجتماعي يدمج بين دولة القانون التي يتساوى فيها الأفراد، ودولة العدالة الاجتماعية ورفض التهميش والإقصاء والتفاوت الصارخ في المداخيل مهما كان مصدره، وكذلك دولة الحريات الفردية واحترام الأشخاص والجماعات، قد فصل الديمقراطية عن الأيديولوجية الليبرالية التي شكلت التربة الفلسفية التي ولدت فيها وسمح بالتالي بنشوء نماذج متعددة محتملة لها. فلم يعد هناك ما يمنع الديمقراطية، من حيث هي نظام للحكم وتنظيم علاقات السلطة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد بما يساعد على تحقيق قيم الحرية والمساواة والعدالة، أن تستقل بنفسها عن الفلسفة الليبرالية لتأخذ بفلسفات روحية واجتماعية مختلفة عنها لا تجعل من حرية الفرد المقياس الوحيد لتقدم الحياة الجمعية من دون أن تلغيها أو تتعارض معها.

وهكذا صار من الممكن الحديث، من دون فقدان الاتساق المنطقي، عن ديمقراطية مسيحية أو اشتراكية تستمد شرعية القيم الإنسانية التي تعمل من أجلها من عقائد أو فلسفات أخرى. وفي تركيا الراهنة يمكن الحديث عن ديمقراطية إسلامية تؤكد على الالتزام بقواعد الديمقراطية وقيم العدالة والمساواة والحرية مع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على أهمية التضامن داخل الأسرة أو تشجيع المؤسسات الأهلية والخيرية إلخ. وبالمثل ليس هناك ما يمنع سلطة ديمقراطية منتخبة وتمثيلية من أن تضع بعض القيود على قانون المنافسة الاقتصادية، إذا وجدت في ذلك ضرورة للحد من الهدر أو من احتمالات تدمير الموارد أو إرهاق طبقة العمال أو البيئة العامة. ولن يكون هناك مانع أيضا من وضع قيود على حرية التجارة والتبادل، أو رفع التعريفات الجمركية في العديد من الميادين أو تجاه العديد من المنتجات. باختصار، من الممكن تماما أن تكون هناك ديمقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهته فيها بحجم أو بعدد الحريات الفردية الممارسة، وأن تكون فيها الأسبقية لقيم العدالة أو المساواة بين المواطنين أو بين الجنسين أو بين الطبقات أو الأقاليم والجماعات المختلفة، خاصة عندما تكون الفوارق بينها ذات طبيعة خطيرة واستثنائية. وذلك ما يعني القبول بما يتطلبه تحقيق ذلك أحيانا من تدخل مباشر لفرض بعض القيود على حريات بعض الفئات التي يعيق نمط إنتاجها أو ممارسة حرياتها تحرر الأغلبية من الأفراد وتفتحهم. كما يعني القبول بما نسميه اليوم مبدأ ممارسة التمييز الإيجابي لصالح الطبقات الشعبية أو الفئات المجتمعية الضعيفة لرفع درجة مشاركتها أو اندماجها أو مستوى معيشة أبنائها. وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن ديمقراطية اجتماعية هدفها تحقيق أكثر ما يمكن من التضامن بين الأفراد ومن المساواة الفعلية بين جماعات المنتمين إلى الدولة الواحدة بل إلى العالم الواحد، مع الحفاظ على حرية الفرد كجوهر ثابت لأي ممارسة ديمقراطية.