في مخاطر إجهاض مشاريعنا الاصلاحية

2006-03-28:: الجزيرة نت

طرحت مسألة الاصلاح في العالم العربي منذ السبعينيات، على اثر اكتشاف العديد من الأوساط العربية حدود فعالية النماذج التنموية التي اتبعت في العقود الماضية. لكن باستثناء البرامج التقليدية المستمدة من توصيات بعض المؤسسات المالية الدولية والأفكار العامة عن الانفتاح الاقتصادي، الذي شكل أول تجربة إصلاحية عربية بعد سنوات طويلة من الانغلاق الاقتصادي والسياسات الحمائية القوية، لم تتبلور حتى وقت قريب أي رؤية شاملة لمعنى الاصلاح وأجندته ومهامه العملية. وبالرغم من أن سياسات الانفتاح لم تفض إلى نتائج ناجعة إلا أنها استمرت كما هي بسبب غياب أي بدائل نظرية أخرى. ولا تزال الأمور تسير من سيء إلى أسوأ مع تراجع متواصل في معظم الأقطار للحالة الاقتصادية والسياسية والمعنوية معا.
بدأت معالم الأزمة العميقة في النماذج القائمة منذ الثمانينيات نتيجة فشل سياسات الانفتاح الاقتصادي الأولى التي بدأت في مطلع السبعينات. وكان من نتيجة هذه الأزمة تفجر ما عرف في ذلك الوقت باسم ثورات الخبز. وقد شملت هذه الانتفاضات جميع الأقطار العربية الفقيرة نسبيا والتي كانت لا تزال تسمح بهامش بسيط من المبادرة الجمعية، من المغرب الأقصى حتى مصر. وذهب ضحية الانفجارات الشعبية هذه آلاف القتلى والجرحى. لكن السلطات نجحت في إعادة الأمن والاستقرار من جديد لقاء تعديلات محدودة في السياسات الاقتصادية، وفي مقدمتها الابقاء على دعم بعض السلع الأساسية وأهمها الخبز، والقليل من التنازلات السياسية الشكلية التي تلخصت في السماح بهامش ضعيف لنشاط بعض مجموعات المعارضة التي بقيت ممنوعة لفترة طويلة سابقة. لكن هذه الاصلاحات على محدوديتها ضمنت للنظم القائمة فترة تزيد عن العقد من الاستقرار النسبي، وما عناه ذلك من الاحتفاظ بأسس النظام الفاسدة من غير تغيير. وكان من نتيجة ذلك أن تفاقمت الأزمة بشكل أكبر وعادت للانفجار بصورة أقوى وأكثر شمولا، منذ بداية التسعينات، كما عبر عن ذلك انتشار حركات المعارضة المدنية، بالإضافة إلى ما سمي في حينه المد الاسلامي وما ارتبط به من ظواهر الاحتجاج التي اتخذت في بعض البلدان صورة التمرد الواسع على السلطة والنظام في سبيل إقامة نظم مغايرة تعتمد مرجعية مختلفة وشرعية إسلامية جديدة.

وقد أيقظت هذه الحروب والثورات الاحتجاجية قطاعات واسعة من الرأي العام العربي. كما أثارت الخوف في الدول الصناعية وعلى مصيرها، وهي التي تعتمد بشكل أساسي على النفط المصدر إليها من منطقة الشرق الأوسط. لكن رد فعل هذه الدول جاء خلال أكثر من عقد من الزمن في الاتجاه المعاكس للاصلاح. فقد دفعها الخوف من انتشار الحركات الاحتجاجية الدينية وسيطرتها على المنطقة إلى التماهي مع النخب العربية الحاكمة والوقوف وراءها في مواجهة حركات الاحتجاج تماما كما دفعها الخوف من الحركات القومية الشعبية التي انتشرت في الخمسينات والستينات إلى الوقوف إلى جانب الحكومات الاستبدادية الأوليغارشية. وهكذا بعد أن شهد عقد التسعينات الحروب الإقليمية المدمرة من فلسطين إلى العراق سوف تملأ فترة العقد العاشر من القرن نفسه الحروب الأهلية المعلنة أو الكامنة.
لكن الخلاف الذي نشأ بين المجموعة العربية والولايات المتحدة الأمريكية منذ 11 ايلول 2001، ثم امتد بعد ذلك حول موضوع احتلال العراق عام 2003، قد ارتبط بحملة جديدة من الضغط في اتجاه الاصلاح قادته واشنطن قبل أن تعلن الدول الاوروبية الانضمام إليها والتكاتف معها في فرض أجندة جديدة على المنطقة العربية. فقد نشأ اعتقاد قوي على إثر تنامي حركات الاحتجاج الاسلامية وانتقال نشاطها إلى الخارج، بأن مواجهة الارهاب والعنف المتزايدين في المنطقة والعالم تستدعي القيام بإصلاحات بنيوية تقلل من الضغوط الاجتماعية وتوسع دائرة مشاركة النخب والطبقات الوسطى المهمشة أو المستبعدة تماما عن الحياة العمومية.
وقد التقت البرامج الاصلاحية الغربية المرتبطة بأجندة الحرب على الارهاب ببرامج إصلاحية محلية نمت وتطورت على أيدى النخب العربية التي جعلها تدهور الموقف العربي الخارجي وتعثر عملية النمو وتراجع شروط الحياة المادية والمعنوية بشكل خطير إلى قرع ناقوس الخطر وتبني برنامج إصلاح وطني عربي منذ بداية الألفية الثالثة، كما عبر عن ذلك برنامج التنمية الإنسانية الذي صدر تحت إشراف عدد كبير من المثقفين العرب في إطار برنامج الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
لكن، نجاح النخب الحاكمة في محاصرة قوى المجتمع المدني العربية ومنعها من التحول إلى محرك لحركة شعبية قوية حاملة لبرنامج الاصلاح، جعل الأجندة الاصلاحية الجديدة أسيرة أجندة الاستراتيجية الغربية. فقد صادرت قوى التحالف الأطلسي في الواقع قضية الاصلاح ووظفتها لحسابها وجعلت منها أداة للضغط على النظم القائمة لانتزاع اعترافها وموافقتها وتعاونها. ولأنها لا تملك أي استقلالية، بقيت الأجندة الاصلاحية تفتقر لبرامج تنفيذية حقيقية، وكان من الطبيعي أن تتقدم وتتراجع على حسب تقدم وتراجع التعاون التي تبديه هذه العاصمة أو تلك مع أهداف الاستراتيجية الامريكية الجديدة وبالوتيرة التي يحتاج إليها تحقيق هذه الاستراتيجية ونجاحها.
وكان من الطبيعي أن تتسم دعوة الاصلاح الخارجية هذه منذ البداية بتناقضات لا مخرج منها بسبب الاختلاط الواضح بين أجندتين لا يمكن التوفيق بينهما: أجندة الاصلاح الذي يستدعي انخراطا أكبر للمجتمعات في تقرير سياساتها المحلية وأجندة السيطرة العالمية والإقليمية التقليدية التي تقوم على حرمان هذه المجتمعات نفسها من أدوات السيادة الفعلية. فكما يمكن لدعوة الاصلاح أن تأتي إلى السلطة في البلدان العربية بقوى غير مؤيدة للتحالف الغربي وبالتالي مضرة بتأمين مصالحه الاستراتيجية، يمكن أيضا لتطبيق أجندة السيطرة الإقليمية للغرب أن تتعارض بقوة مع التغيير الديمقراطي أو مع أي تغيير يستدعي القبول بمخاطر متعددة، بما في ذلك الإخفاق في السيطرة على الموقف والسير نحو الفوضى أو الاقتتال الداخلي. ولذلك، في مقابل هذه المخاطر، ألحق برنامج الاصلاح بأولويات السيطرة الإقليمية ولم يعد هدفا في ذاته. وصار الضغط باسم الاصلاح الوسيلة التي تستغلها واشنطن لفرض التعاون على الدول العربية وإقناعها بضرورة التنسيق معها في سياستها الإقليمية الجديدة، خاصة في العراق. وقد نجحت عصا الاصلاح بالفعل في دفع العديد من العواصم العربية إلى التكيف مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة والتخلي عن موقف المعارضة للحرب الذي اتخذته خشية من أن يقود إلى انقلاب الرأي العام عليها وتفجير أوضاعها الهشة.
ينبغي الاعتراف بأن مخاطر كبيرة تهدد اليوم دعوة الاصلاح التي انتشرت وتوسعت قاعدة المؤمنين بها في السنوات الخمس الماضية كما لم يحصل في أي حقبة سابقة في حجر المجتمعات العربية. فبالاضافة إلى أن الضغوط الخارجية من أجل الاصلاح قد مالت إلى الركود، لم تنجح المجتمعات المدنية العربية بعد في توليد قوى كافية من حيث الوعي والتنظيم لجعل إرادة الاصلاح حقيقة عملية وهدفا يصعب التراجع عنه. والواقع أنه لم يبق من الاصلاح الذي طالب به الرئيس الامريكي جورج بوش، خاصة السياسي منه، لكن الاقتصادي والقضائي والتشريعي أيضا، سوى ذكرى مريرة، وبعض ما نشر في السنوات الأربع الماضية من وثائق وتصريحات أمريكية وأوروبية حول ضرورات الاصلاح ومخططاته ومبادراته. وبصرف النظر عما بذلته قوى المجتمع المدني العربي من جهود فكرية وسياسية في سبيل الدفع بعجلة الاصلاح نحو الأمام، مستفيدة مما اعتقدت أنه شكل ظرفا خارجيا ملائما، ينبغي استغلاله، لم تحقق دعوة الاصلاح الجديدة أي نتائج واضحة بقدر ما فجرت من حولها صراعا حادا قسم الأوساط الثقافية والسياسية العربية معا ولا يزال يقسمها إلى اليوم. وحل محل العمل على إصلاح الواقع المأساوي للمجتمعات العربية نقاش لا نهاية له حول أولوية الاصلاح الداخلي أو الخارجي، الخصوصي أو العالمي، السياسي أو الاقتصادي، إلى آخر ما هنالك من تعارضات ممكنة ومحتملة.
وكما حصل في العقد الماضي أصبح هذا النقاش وسيلة للتغطية على الحاجة الماسة والمستعجلة للاصلاح، وذريعة لتأجيله إلى أجل غير مسمى. وهو ما يهدد بتمديد الوقت الضائع وفي أثره التقهقر المتواصل في شروط المعيشة الناجم عن استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي وتفاقم طواهر الفقر وتزايد معدلات البطالة وتدهور عمل الإدارة ومستويات التعليم وتوتر العلاقات الاجتماعية. ومما يعزز من احتمال انفجارات كبيرة قادمة التقاء هذا التقهقر المستمر في شروط المعيشة المادية والنفسية معا مع الاحباط العام والقلق المرتبط بتواتر الحروب والهزائم في فلسطين والعراق، وما تنشره من دمار مادي ومعنوي يمس منطقة المشرق العربي بشكل خاص، بعد أن انفصلت عنها الكتلة المغربية التي أدركت أن لديها فرصا أكبر في الالتحاق بالقاطرة العالمية والهرب من مصير التهميش الحتمي الذي يتجه نحوه المشرق العربي.
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، من دون أن تستدرك القوى الداخلية الامر وتخرج بسرعة من حالة المراوحة في المكان، ومن حوار الطرشان السائد بين النظم القائمة والمعارضات السياسية والمدنية، فليس هناك أي شك في أننا سوف نخسر للمرة الثالثة فرصة ذهبية للاصلاح، باسم المفاضلة بين العوامل والضغوط الخارجية والداخلية. ولن تكون نتيجة ذلك سوى استفحال الازمة المجتمعية المتعددة الأشكال وإعداد مسرح الانفجارات القادمة الحافل بالنزاعات والتصفيات المتبادلة التي يقدم عراق ما بعد صدام نموذحا ماثلا عليها. وليس هذا من باب التكهنات، كما قد يعتقد البعض ممن يعيشون بقلوبهم وعقولهم خارج مجتمعاتهم ولا يتحسسون ما تعاني منه. فهذا بالضبط ما حصل في العقود الثلاث الماضية، عندما أدى فشل الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات إلى اندلاع ثورات الخبز وتفجر الانتفاضات الاجتماعية بعد أقل من عقد من الزمن. وهو ما حصل أيضا في التسعينيات مع انتشار العنف وتنامي حركات الاحتجاج الاسلامية وتهديدها لأسس النظم القائمة وتحديها لها، بعد أن نجحت النظم القائمة في الالتفاف ثانية على مطالب الإصلاح التي أعقبت انتفاضات الثمانينيات. ولا أعتقد أن هناك وسيلة لتجنب كارثة محتمة سوى العودة إلى النفس، والقبول بتحمل المسؤولية والتخلي عن المراهنات الوهمية على الإرادة الخارجية. وهذا التحدي مطروح على قوى المعارضة السياسية كما هو مطروح بالقدر نفسه على القوى الحاكمة أو الجزء الذي لا يزال حيا فيها، للعمل على الخروج من الحلقة المفرغة للتنازع على سلطة تتقوض أسسها يوما بعد يوم ومن ورائها أسس الحياة الجمعية ذاتها.