في الثورة السورية والمراجعة وثقافة المسؤولية

2017-07-24:: العربي الجديد

 

منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، وفي مواجهة التصعيد غير المتوقع وغير المسبوق في العنف الذي واجه به نظام الاحتلال الداخلي التظاهرات السلمية، تبلورت في صفوف النشطاء والمثقفين الموالين للثورة، بشكل عفوي، استراتيجية جوهرها المراهنة على تفعيل التضامن الدولي مع قضية الشعب السوري، والضغط على الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية والدبلوماسية، لتطبيق ما تنص عليه مواثيقها في ما يتعلق بحماية المدنيين، بما في ذلك، وفي مقدمه، حق التدخل الإنساني. وللرد على هذا الرهان وتطويره، قام المجلس الوطني الذي ضم أغلب قوى المعارضة المنظمة أو شبه المنظمة، وجعل محور نشاطه العمل على كسر جمود الموقف الدولي، وعزل النظام القائم سياسيا ودبلوماسيا، وتكثيف الضغوط المختلفة عليه، لوقف القتل المنظم والقبول بعملية الانتقال السياسي. لكن ليس هناك أي شك في أن الثورة والمعارضة منيا بخيبة كاملة على هذا الصعيد. 
وهكذا، بعد فشل الضغوط السياسية الداخلية والدولية، تفجر القتال في مواجهة الحرب الرسمية التي أعلنها النظام على المجتمع بأكمله، وليس فقط على الثوار. وبعد سنواتٍ من القتال المرير، وحصول التدخل الدولي الرسمي، ممثلا بالغزو الإيراني والاحتلال الروسي، وغير الرسمي الذي مثلته السلفية الجهادية، وفشلنا في إسقاط النظام بالقوة، سلمنا بأن الحل أصبح رهين التفاهم الدولي الروسي الأميركي. ولم يتأخر الوقت حتى اكتشفنا، في الواقع من دون مفاجأة، حقيقة النوايا الروسية والأميركية، واستهتار موسكو وواشنطن بمصير السوريين، وتركيزهما على الحرب ضد الإرهاب الذي يخشون انتقاله إليهما، وفي موازاة ذلك التوافق على تقاسم المصالح والنفوذ في بلادنا، إن لم يكن تقسيمها لضمان أهدافهم الاستراتيجية. 
ومن الطبيعي أن يقود هذا العجز المستمر عن التوصل إلى حل بالسياسة أو الحرب أو التفاهم الدولي الرأي العام السوري إلى الشعور بالإحباط، وفقدان الثقة والأمل. أما المعارضة، فيكاد يقتصر عملها السياسي والدبلوماسي منذ أشهر على توجيه النقد اللاذع والمحق للمجتمع الدولي الذي خان المبادئ والقيم التي جعل منها مبرّر تدخلاته في مناطق مختلفة. وتحول نشاطنا السياسي، أكثر فأكثر، إلى شكوى دائمة من استبعادنا من المناقشات الجدية حول تقرير مصير المناطق السورية، واتهام العالم بالتآمر على الشعب السوري، وكأننا نكتشف لأول مرة خيانة الدول المهيمنة للمواثيق الدولية والقيم والمبادئ التي وضعتها قبل أي شيء آخر، للمحافظة على مصالحها القومية. 


ليس هناك أي شك في أن دولا كثيرة ادعت صداقتها السوريين قد خدعتهم. لكن ما من شك أيضا في أننا خدعنا نحن أيضا أنفسنا، حين اعتقدنا أن من الممكن المراهنة على موقف الدول الديمقراطية التي جعلت من الحرية والعدالة عنوان هيمنتها ومصدر شرعية نفوذها العالمي، وسيطرتها لتحقيق أهدافها، كما لو أننا صدقنا أن العلاقات الدولية قد أصبحت بالفعل خاضعةً لقواعد قانونية ومبادئ أخلاقية. وربما ساهم وهم هذا الاعتقاد بالتقدّم القانوني والأخلاقي لعصرنا في تخدير وعينا بالمسؤولية، ومنعنا من الشعور بقدرتنا على انتزاع المبادرة من أجل تغيير أوضاعنا. 

فإذا كان من الصحيح أن العوامل الخارجية، على اختلاف أنواعها، سواء أكانت تدخلا مباشرا على طريقة المليشيات الموجهة من طهران وموسكو، أو تنكرا للالتزامات الدولية من الدول الديمقراطية ومؤسسات المجتمع الدولي، فإن من الصحيح أيضا أن بناء استراتيجية فعالة وناجعة لمقاومة هذه العوامل، أو التقليل من وزنها، والعمل على توحيد قوى السوريين، وحثهم على الدفاع عن حقهم في تقرير مصيرهم في مواجهة النظام والدول الداعمة له، هي من مهمات قوى المعارضة ومسؤوليتها. وفي هذا الإطار، لا شك أيضا في أن النخبة السورية، السياسية والثقافية، تعاملت في هذه المسألة مع نفسها بتواطؤ مستمر، فعلى الرغم من الفشل المتكرّر، العسكري والسياسي والإداري والإعلامي، لا نكاد نعثر على مساهماتٍ حاولت فيها النخب السورية أن تطرح سؤالا عن مسؤولياتها، ولم تقم أيٌّ منها بمراجعة للسياسات التي طبقتها خلال سنوات طويلة ماضية، ولم تجرؤ على مناقشة خياراتها، وطرح نتائج قيادتها حركة الاحتجاج وتقييمها. وعندما تتجرأ أطراف وتيارات، أو قادتها، على النظر في سلبيات خيارات المعارضة السابقة، فليس ذلك على سبيل المراجعة، وإنما في أغلب الحالات للتهرّب من المسؤولية، ورميها على الطرف الآخر. وهناك ميل كبير اليوم إلى التهرب من المسؤولية في تحويل بعض الأشخاص، أو التيارات، إلى كبش فداء، ترمى عليه جميع الأخطاء، ويمكن من خلال شيطنته التخلص السهل من الشعور المؤلم بالفشل، وربما الذنب. 
وعلى الرغم من الشكاوى والانتقادات الحادة والمتكرّرة التي يوجهها قطاعٌ واسع من الجمهور الثوري والمعارض لعمل مؤسسات المعارضة، وعجزها عن تحقيق أهدافها والغايات التي أنشئت من أجلها، لم يشعر مسؤول واحد بأن من واجبه أن يستجيب لهذه النداءات، ويقدم استقالته، تعبيرا عن اعترافه بالفشل، ولم نقرأ لأحدٍ من هؤلاء المسؤولين مراجعة ذاتية أو حتى محاولة لتفسير ما جرى. وبالمثل، خرج مئات المثقفين والصحافيين والمسؤولين السابقين على النظام وانشقوا عنه، بعد عقود من التعاون معه، والخدمة في مؤسساته، والخضوع لأوامره، والسير في ركابه، وفي معظم الأحيان مشاركته في عمليات القمع والقهر التي طاولت شعبا بأكمله. لكن لم نقرأ أي مراجعةٍ جدية لمواقفهم السابقة. وقليلون جدا منهم من سعوا إلى تنوير الجمهور بتجربتهم مع النظام، والأسباب التي تجعلهم اليوم مع الثورة والتحولات الديمقراطية، ورؤيتهم الجديدة إلى دورهم ومسؤولياتهم المنتظرة في مجتمعهم في المستقبل. ولم ينتقد شخص واحد منهم ضلوعه السابق مع النظام، ولم يعتذر للشعب عن الأذى الذي تسبب له به بدعمه النظام، ومسايرته، أو التهاون في كشف خياراته الدموية. 
لا يعني ذلك أن مراجعة قادة مؤسسات المعارضة الأخطاء التي ارتكبت كانت ستنقذ الثورة من المهاوي التي وقعت فيها، ولا كانت ستحول دون حصول ما حصل من تغوّل القوى الإقليميةوالدولية على حقوق الشعب السوري، لكنها كانت ستظهر أن لدينا، أو أصبح لدينا رجال أحرار بالفعل، يعرفون أن احتلال موقع القرار يرتّب على صاحبه مسؤولية ومساءلة، وهو ما يحتاج إليه رجل السياسة والدولة وكل مركز قيادة عمومية، في منظومة سياسية ديمقراطية، وأن وجودهم في مواقع السلطة والقرار ليس منحةً، أو تكريماً لهم، وتشريفاً لحسبهم ونسبهم، وإنما هو تكليف من الشعب، تترتب عليه واجبات محدّدة في خدمة المؤسسة أو المجتمع، والناس الذين أولوه مهمة التصرّف بمصيرهم أو مواردهم وتوجيه مستقبلهم. 

والواقع، ليس هناك مثال يعبر عن استهتار النخب الحاكمة بشعوبها، ورأيها العام ومصالحها، أفضل من مثال النخبة البعثية، ونوعية رجالها الذين حكموا البلاد، وقادوا المجتمعات، في العقود الماضية، من دون أي شعور بالمسؤولية، وباقتناع تام بأن مناصب السلطة التي احتلوها هي غنائم لهم استحقّوها بقوة ذراعهم، واستعدادهم لارتكاب كل الانتهاكات، والتجرّد من أي قيم إنسانية أو أخلاقية والتقلب في المواقف الفكرية والسياسية، وبين المذاهب والأيديولوجيات القومية والاشتراكية والليبرالية والإسلامية والعلمانية، من دون أي حاجةٍ للشرح أو التفسير أو التبرير. يشترك هؤلاء جميعا في الإيمان الراسخ بأنهم ليسوا مسؤولين أمام أي شعب أو قاعدة شعبية أو رأي عام، وأن سلطتهم ليست مستمدة من أحد سوى "المعلم" الذي جنّدهم، أي ولي نعمتهم، ولا تحتاج إلى موافقة أو تفويض أي شعبٍ أو قبوله، وإنما هي تفرض نفسها بالقوة ولا تحتاج لشرعنتها سوى إلى إتقان فن الكذب والغش والخداع. وهم يدركون جميعا ويؤمنون بأن استمرارهم في احتكار مناصب السلطة والقرار منوط بقدرتهم على التعاون والتضامن والتكاتف ضد أي مشاركة أو مراقبة شعبيتين وإقصاء الجمهور عن أي نشاط عمومي أو قرار، وفرض الإذعان على المجتمع، وتعطيل أي قدرة له على التفاعل والتواصل وتكوين رأي. 


ليست المراجعة وتفسير الانقلابات في المواقف والخيارات ضروريةً لتصحيح الأخطاء فحسب، ولا ترتبط بقضية شخصيةٍ، ولا تتعلق بمسألة أخلاقية من قبيل تبرئة الذمة أو إرضاء الضمير، وإنما هي واجب على أصحاب السلطة والقرار تجاه شعوبهم ومرؤوسيهم، وحق لهؤلاء من أجل معرفة واقع ما حصل، والاستفادة من دروس الماضي، وتجاربه لتحسين الخيارات المقبلة والمطلوبة، وربما في اختيار قياداتٍ أكثر قدرةً وكفاءة في حمل المسؤولية، فمن حق السوريين الذين فقدوا الآلاف من أبنائهم، ودمرت بلادهم، أن يعرفوا من هم الذين انشقوا عن النظام، بعد أن عاشوا في كنفه، وعملوا تحت رايته، عن قناعةٍ أو من دونها، وكيف استطاع هذا النظام أن يورّط نخبة المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية بشكل شبه كامل في مشروعه الدموي، وما هي الأسباب التي حالت دون معرفتهم بما يجري، أو قبولهم به، فهذه المراجعة ليست ضرورية لتأكيد الانفصال عن النظام، ونمط تفكيره وقيادته، ولتعريف الرأي العام بالأشخاص المنشقين، ومشاريعهم وأفكارهم وخياراتهم فحسب، وإنما هي أساسية أيضا لمعرفة كيف نجح نظام الأسد في إعداد البلاد لمثل هذه المذبحة. وفي ما وراء ذلك، هي الشرط اللازم لإعادة بناء الثقة بين الشعب والنخبة التي خذلته عقودا طويلة، وبناء صدقية المنشقين وإخلاصهم لخيارهم الجديد، والمصادقة على انشقاقهم، وتغيير ولائهم من الشعب. ومن دون ذلك، لا يمكن لهم أن يأملوا بالقيام بأي دور أو الاندماج في حركة المجتمع الجديد. 
وفي المقابل، يقدم غياب الشعور بالحاجة للمراجعة وتفسير الأخطاء، أو انقلاب الخيارات والتوجهات عند نخب المعارضة القديمة والمنشقة، ونأيهم بأنفسهم عن تقديم كشف حسابٍ عن مسيرتهم العمومية للرأي العام، الدليل الواضح على استمرار المشكلة العميقة وراء الكارثة التي شهدتها البلاد، وهي انفصال النخب الاجتماعية عن المجتمع والجمهور العريض، واستهتارها برأيه وموقفه ومشاعره، واعتقاد رجالاتها الراسخ بأنه ليس لرأي الشعب والجمهور أي قيمةٍ في تقرير مصيرهم العمومي، ودورهم في النظام القادم، وإنما يتوقف الأمر على تحالفاتهم فيما بينهم، أو بين هؤلاء وأولئك والدول الراعية لهم، أو صاحبة النفوذ الجديد في البلاد. ولأنهم غير معنيين بنيل ثقة الشعب، ولا تعني لهم هذه الثقة شيئا، ولا يراهنون عليها لتحسين أوراقٍ تنافسهم في ما بينهم، فهم غير معنيين بتقديم أي كشف حسابٍ، أو تفسير، أو ومن باب أولى الاعتراف بالخطأ، والاعتذار عن نتائج أعمالهم للشعب. 

ربما يعتقد بعضهم، أو أكثرهم، أن هذا الموقف المتستر على نشاطهم الماضي يحفظ لهم ماء وجههم، وأن تجنيبهم المساءلة يترك لهم هامشا واسعا من المناورة السياسية، لكنه يحرمهم في الواقع من أي صدقيةٍ، بمقدار ما يبرهن على ضعفهم الأخلاقي، وغياب إرادتهم وقدرتهم على تحمل المسؤولية، وربما الاستعداد لركوب طريق سياسة الحكم السابق، وخياراته السياسية المكرّسة في التلاعب والتحايل والغش والانتهازية. وهذا ما يفسر أن الجمهور الواسع استمر ينظر إلى كثيرين منهم، على أنهم من أتباع النظام القديم، أي من الفلول المتربصين، على الرغم من انفصالهم عنه، أي لا يختلفون عنه في سلوكهم وتفكيرهم، ويرى فيهم النواة الجاهزة لإعادة إقامة النظام القديم، والتي تتجسد في بنية التفكير وطبيعة العلاقة مع السلطة والهوة التي تفصل بين النخبة والجمهور الشعبي العريض. 
ليس الهدف من التذكير بمسؤولياتنا، نحن السوريين، التغطية على مسؤوليات القوى الإقليمية والدولية، ولا على إفلاس المنظمات الدولية التي كان العالم يراهن عليها، من أجل وضع حد أدنى من الثقة والعدالة والتضامن في حقل العلاقات الدولية، وعدم السماح بأن تكون القوة الوحشية معيار العلاقات بين الجماعات والبشر. إنما كان الهدف التذكير أيضا بدورنا ومسؤوليتنا، والإشارة، بشكل خاص، إلى استمرائنا الهرب من الاعتراف بأخطائنا والإمعان في رمي المسؤولية على الآخرين، في كل ما يحصل لنا، حتى أصبحنا مثار شفقة العالم وموضع سخرية شعوبنا نفسها، فإذا لم يكن هناك شك في أن العالم الخارجي، أي القوى الأجنبية هي المسؤولة الرئيسية عن المحنة التي أصابتنا، والكارثة التي حلت بوطننا، فليس هناك أدنى شك أيضا في أننا نحن وحدنا المسؤولون عن خلاصنا، وعن العمل لوضع حد لتحكم العالم بمصيرنا، وتقويضه لمستقبلنا، فمصيرنا لا يعني أحدا غيرنا، وإذا لم نعمل على تجاوز الحفرة التي أوقعنا العالم فيها، بسبب تناقضاته وصراعاته التاريخية التي لم يكن لنا، بوصفنا الشعب، يد فيها، فلن يهتم أحد بإخراجنا منها، ولا يعني خروجنا منها شيئا لأحد. 
لا تهدف المراجعة، ولا النقد الذاتي، إلى تكبيل أنفسنا وإحباط شبابنا، ولكن بالعكس إلى تشجيع أبنائنا على مواجهة الواقع والحقائق كما هي، ودفع السوريين إلى تحمّل مسؤولياتهم تجاه أنفسهم وقضيتهم والكف عن انتظار الخلاص والمخلص في من لا يعنيه مصيرهم، أو لا يستطيع لهم نفعا، ولا ضرا من القوى والمنظمات الدولية. 
فالاعتراف بالخطأ والمراجعة هي الخطوة الأولى في مسيرة التحرّر التي فجرتها ثورة 11 مارس/ آذار 2011 غير المكتملة، وهي شرط أول لاستعادة الثقة، ثقتنا بأنفسنا وثقة العالم بمقدرتنا وثقة الشعب بالمستقبل التي لا يمكن من دونها أن يعود إلى ساحة العمل والتضحية، ومن وراء ذلك إحياء الضمير الأخلاقي في كل واحد منا. ومن دون ذلك، سوف يكون من الصعب تحقيق الخطوة الثانية الهادفة إلى كسر الحواجز التي أقامها النظام، ورسختها سنوات الحرب بين السوريين، أقليات وأكثريات، إسلاميين وعلمانيين، جنوبيين وشماليين، عشائر وقرويين، مدنيين وعسكريين، طوائفيين وديمقراطيين وطنيين، والانطلاق نحو بناء عهد جديد يفتح باب الحرية، وينهي عهد الفساد والاستعباد والتغول والاغتيال.
 
 https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/7/23/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9%D8%A9-%D9%88%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9