في الاسباب العميقة للشلل العربي أمام الوضع المأساوي في فلسطين

2002-04:: الجزيرة نت

لم يكن الوضع العربي الاقليمي مشتعلا وقابلا للتفجر كما هو عليه اليوم منذ عقود طويلة. فعلى ما تبديه القيادات السياسية العليا من شلل نتيجة الانقسامات وانعدام التفاهم والتطلعات والمصالح الانتهازية والخاصة المختلفة والمتناقضة يرد الجمهور العربي المحترق بالشعور بالاهانة والغضب لعدم قدرته على القيام بشيء يخفف من الام الشعب الفلسطيني بحركات احتجاج موجهة نحو قياداته وطافحة بالاتهامات بالخيانة والعمالة والتأمر والتورط. ولا تجد الحكومات العربية المرعوبة من وسيلة اخرى للرد على حركة الاحتجاج والتنديد المتوسعة التي تتعرض لها ولم تتوقعها الا القمع واستخدام الوسائل التقليدية من اعتقالات وسجن وضرب.
والواقع أن النطم الحاكمة التي احتمت حتى الان وراء تقارير المخابرات التي تؤكد لها السيطرة الكاملة على الشارع وغياب التنظيمات السياسية القادرة على العمل ضدها بدأت تخشى من ان لا تستطيع استيعاب حركة الجمهور الناقم. وليس لديها بعد ورقة مبادرة السلام التي اخرجتها على امل ان تحد من جموح الحملة العسكرية الاسرائيلية اي خيار اخر. فالحرب خيار اعلنت الدول العربية اكثر من مرة ولا تزال تعلن بمناسبة ومن دون مناسبة تخليها النهائي عنه ورفضها حتى التفكير بامكانية العودة اليه. وحتى لو أرادت العودة اليه فستجد نفسها مفتقرة لكل مقومات النجاح والنصر فيه. ذلك ان الحروب لا تخاض على عجل ولا يمكن الدخول فيها بين ساعة واخرى ولكنها تحتاج الى اعداد مسبق كبير ومديد يشمل تحقيق جاهزية المعدات وتاهيل الافراد وتدريبهم وتهيئة الاقتصاد والشعب معا. ويحتاج مثل هذا الاعداد للتعبئة السياسية والاقتصادية والنفسية العامة في الوقت نفسه. اما خيار استخدام الاسلحة الاقتصادية مثل قطع صادرات النفط العربي عن الولايات المتحدة فهو لا يمكن ان يكون مجديا الا اذا كان عملا جماعيا واجماعيا يجعل منه تهديدا حقيقيا لسوق النفط ومن ورائه للاسواق الاقتصادية العالمية ويحث جميع الدول الصناعية على تحمل مسؤولياتها تجاه الوضع المتفجر في الشرق الاوسط. والحال ان دولا كثيرة تجد نفسها في وضع اقتصادي اكثر هشاشة من ان يتحمل هو نفسه مثل هذه الصدمة. كما ان الكثير من النظم النفطية تعيش على الحماية الامريكية ذاتها وتعتبر هذه الحماية هي القاعدة الرئيسية لاستقرارها بل لوجود دولها ذاتها.
لا بل ان النظم العربية لا تبدو مستعدة لبذل اقل من ذلك من الجهد. فلم تقم الحكومات العربية في الثمانية عشر شهرا الماضية من الحرب المعلنة على الشعب الفلسطيني بعد انهيار مفاوضات السلام بأي نشاط دولي او اقليمي يمكنها من ان تكسب بعض المواقع في مواجهة الهجمة الاسرائيلية الدبلوماسية او الامريكية. ولا تكاد لجان دعم القضية الفلسطينية الوزارية تنجح هي ذاتها في عقد اجتماعاتها الطبيعية, بل يمكن القول انها لم تجتمع ابدا او ان ذلك حصل سرا من دون ان يعلم احد, وبالاحرى ان تقوم بنشاط فعال على الساحة الدبلوماسية الدولية لعزل الحكومة الاسرائيلة او احراجها او اضعاف موقفها على الاقل.
إن شلل السياسة والاستراتيجية العربية, حتى على المستوى الدبلوماسي, امر مثير للتساؤل بالفعل. فما نعيشه من احداث اليوم لم يكن لا جديدا ولا بعيد الاحتمال. فقد كان احتمال فشل مفاوضات السلام مذهبا من مذاهب بعض النظم العربية نفسها بينما كانت العديد من النظم الاخرى لا تكف عن ترداد شجبها لتقاعس اسرائيل وسوء نيتها وسعيها للالتفاف على استحقاقات السلام. ومن الصعب ان نقول ان الحملة الاسرائيلية الشرسة على الشعب الفلسطيني كانت مفاجأة لأحد. لقد كانت منتظرة ومتوقعة, وهي مستمرة على اي حال منذ ما يقارب السنتين من دون انقطاع. كيف نفسر اذن هذا الشلل العربي وانعدام المبادرة وفقدان الاختيار وما هو سر هذا التهذيب المريب في مواجهة اسرائيل والولايات المتحدة والدول الكبرى ذات المسؤولية الحقيقية عما يجري في فلسطين وللشعب الفلسطيني لأنظمة تنبح على بعضها كالكلاب المسعورة عندما يدوس احدها عمدا او خطأ على ذنب الاخر وتعامل بعضها البعض بشراسة قل نظيرها عندما تختلف فيما بينها؟
يعكس الوضع الذي تجد الانظمة العربية نفسها فيه اليوم حقائق ثلاثة. الحقيقة الاولى ان المصالح الوطنية وفي مقدمها المصلحة القائمة في ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية واسترجاع القدس لا تشكل اي اولوية في السياسات العربية على الاقل منذ عقدين. والحقيقة الثانية ان الدول العربية التي قررت رسميا الانسحاب من المواجهة عندما اقرت بالتخلي عن خيار اللجوء الى القوة وتبني سياسة المفاوضات تراهن على الولايات المتحدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه من اسرائيل ولا تزال تراهن عليها اليوم ولن تراهن على غيرها في المستقبل بل ليس لديها, وهي على ما هي عليه, أي خيار اخر سوى هذا الرهان الذي يعني أيضا انها تخلت عن انتزاع حقوقها بنفسها أو أعلنت عجزها عن ذلك. والحقيقة الثالثة أن اسرائيل, بالرغم من كل التهديدات والمخاطر التي تمثلها, ليس للشعب الفلسطيني فحسب ولكن للشعوب العربية جميعا, لم تعد الجبهة الرئيسية في اولويات المواجهة عند النظم العربية. بل ربما لم تعد جبهة مواجهة على الاطلاق, ولا تستحق لذلك ان يرصد لها استثمارات وتوظيفات مهمة مادية ومعنوية ولم تعد ايضا مصدر القلق والخطر الرئيسي في نظر النخب العربية الرسمية. ان جبهة المواجهة الحقيقية التي تجذب الاستثمارات المالية والسياسية والدبلوماسية والنفسية هي القائمة في وجه المجتمعات العربية ومن أجل حصار الرأي العام وتقييد حركة الجمهور واجهاض مشاريع التغيير بل حركات الاحتجاج والمعارضة على اي مستوى كانت وفي اي ميدان ظهرت. ولذلك وفي الوقت الذي تظهر فيه شللا لا حدود له على جبهة المواجهة الاسرائيلية وتكاد تستجدي, عن طريق واشنطن او بصورة مباشرة, ارييل شارون الرحمة بالسكان الذين يعدهم بالقتل, تبدي النخب العربية الرسمية نشاطا لا حدود ولا مثيل له على جبهة الحرب الداخلية. فهي لا توفر فرصة للتعبئة النفسية والايديولوجية ولا لملاحقة الافراد والجماعات على اي كلمة يمكن ان تصدر عنهم ويشتم منها رائحة الاحتجاج او المعارضة او عدم التسليم والايمان بشرعية القيادات القائمة. وجميع قوى الامن والدفاع مجندة لاخراس مئات الاصوات التي يشك بولائها المطلق. وجميع موارد الدولة موضوعة في خدمة اولئلك الذين يعلنون استعدادهم لتقديم الولاء للحاكم والمساهمة في قطع رقاب العناصر "المارقة" المنتمية هي ايضا الى محور الشر, أعني محور "التخريب" والمعارضة والمطالبة باحترام الانسان وعدم الاعتداء على حقوقه وحرياته وحرماته الشخصية.
لا يعكس شلل النخب العربية الرسمية اذن سوء تقدير للمخاطر والتهديدات الخارجية ولكنه يعبر عن اختيارات سياسية تجعل من الحفاظ على الوضع القائم بما يعنيه من توزيع للثروة وللامتيازات لصالح فئة قليلة جدا من السكان لا تكاد تتجاوز مئات الاسر أولوية استثمائئية بل الأولوية فحسب, ويضع الجمهور الواسع بل المجتمع بأكمله في مواجهة النخب الرسمية. وهذه النخب لا تخطيء عندما تقف مكتوفة الايدي امام اسرائيل ومشاريعها التوسعية وأنما هي تطبق القاعدة الاستراتيجية الصحيحة والعقلانية التي تقول ان من الخطأ فتح جبهتين في الوقت نفسه, وهنا الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية. وهكذا استقرت قاعدة تقسيم العمل الجديدة لتحقيق الاستقرار : للنظم المحلية مهمة تقييد حركة المجتمعات العربية واخضاعها وشل ارادتها وللولايات المتحدة امر حل مشكلتنا مع اسرائيل. المشكلة الوحيدة في هذه المعادلة التي نعيش تطوراتها هي ان هناك شعبا اسمه الشعب الفلسطيني يريد ان يعيش بكرامة على ارضه ويرفض الاستسلام.