في أصل الخوف العربي من التغيير

2007-11-23:: الجزيرة نت

بالرغم من تفاقم القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب وفقدان هذه الأخيرة الثقة بالنظم التسلطية القائمة، إلا أن الغالبية العظمى من الرأي العام لا تزال تنظر بصورة سلبية، إن لم يكن بروح الشك، إلى مشروع التغيير. بل ليس من المؤكد أن لهذا المشروع معنى محددا وواضحا عندها، ربما سوى تغير اسماء الممسكين بالسلطة والقابضين عليها وأصولهم المذهبية أو الإتنية أو، في أحسن الحالات، الاجتماعية. وهذا ما يفسر عزلة حركات المعارضة العربية وضيق القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها. كما يفسر، من وراء ذلك، مأزق التغيير وانسدادا آفاقه في المجتمعات العربية، بالرغم من الشعور العميق بالحاجة إليه وضرورته وحتميته عند جميع الأفراد، ليس في المجتمع فقط ولكن في الحكم أيضا. وبسبب غياب الأفق الفكري والأخلاقي للتغيير، لا تدفع الضغوط القوية التي يتعرض لها المجتمع إلى التحرك نحو الأمام كما هو الحال في المجتمعات السليمة البناء، وإنما يتجلى عبر توسع دائرة الانفجارات والنزاعات الداخلية الطائفية والمذهبية والأقوامية، وبالتالي عبر الدوران في حلقة مفرغة، مما يزيد من غرق المجتمع في الأزمة وإحباط فئاته الاجتماعية وغضبهم جميعا.
يرجع هذا الوضع في جزء كبير منه إلى نجاح السلطة العربية في العقود الماضية في القضاء على أي ثقافة مدنية سياسية دستورية حديثة كتلك التي نشأت في سياق النهضة والصراع ضد السيطرة الأوروبية الاستعمارية وعلى أرضية مفاهيم الحداثة السياسية. وقد أسفر ذلك عن عودة أشكال من الوعي ما قبل السياسي ترى في النظام الاجتماعي قدرا محتوما أو تجليا لإرادة عليا لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها أو حتى فهم دوافعها وآليات عملها. فهو لا يبدو في نظرها ثمرة جهود إنسانية واعية وإرادية لأفراد المجتمع، وبالتالي نتيجة اختيارات سياسية وأخلاقية يمكن تغييرها أو مراجعتها من قبل المواطنين الذين تبنوها. ويرجع في جزء آخر منه إلى تشييء مفهوم السياسة وحصره في الاختيار بين نماذج اجتماعية جاهزة وناجزة، اشتراكية أو ليبرالية او إسلامية، تملك مفاتيحها نخب متميزة، لا مكان فيه لمشاركة شعبية ولا مجال لمناقشة أو مجادلة. فما على الرأي العام سوى الالتحاق بأصحاب هذا النماذج التي يرتبط تحقيقها بنجاح هذه الفئة أو تلك في الوصول إلى سلطة مفتاحها التفاهم بين الزعماء المحليين والدول الكبرى التي تتحكم بالمصير العالمي.
يخفي هذا التصور كما هو واضح انحطاط الحياة السياسية في موازاة انحسار الرابطة الوطنية، والاستقالة العميقة النظرية والسياسية والأخلاقية معا للرأي العام، سواء اجاء ذلك بسبب اليأس والإحباط من القدرة على التأثير أم بسبب الاقتناع المتنامي بالاستلاب للقوى الكبرى والحاكمة معا. لكن النتيجة واحدة هي النظر إلى التغيير على أنه ليس فعل إرادة ذاتية للشعوب، ولكنه ثمرة تضافر عوامل خارجية وداخلية خارجة عن إرادة الناس وقدراتهم.
لا تشجع هذه القيم السائدة بالتأكيد على انتشار أفكار الديمقراطية والتفاعل معها من قبل الرأي العام العربي. بل إنها تصصدم بعنف مع وعي الأكثرية ومفاهيمها، أو على الأقل لا تجد صدى لها فيهما. فالديمقراطية تفترض قيما معاكسة تماما لما استبطن في الوعي العام، قائمة على الاعتقاد بأن النظم الاجتماعية نظما تاريخية وأن وجودها هو ثمرة اختيار الناس ومشاركهم في الحياة السياسية وقدرتهم على التأثير فيها لا أقدارا طبيعية. ومن هنا تثير الفكرة الديمقراطية من القلق أكثر مما تبعث من آمال. فهي تطرح على الأفراد تحديات تكاد تكون غير قابلة للرد، لا تقتصر على االتغلب على العوائق الخارجية المرتبطة بالإجراءات القمعية للنظم وإنما على العوائق الداخلية المرتبطة بالقيم والتصورات والاقنتاعات العميقة والتقاليد السائدة. ولا يجد الأفراد المحرومين من فرص الارتقاء إلى مستوى الحياة السياسية الحرة أو إلى مستوى الحرية الشخصية التي تفترضها الديمقراطية، وسيلة للهرب من مواجهة هذه التحديات سوى في رد الديمقراطية نفسها ورفضها باعتبارها فكرة مستوردة أو أجنبية بالنسبة للبعض أو فكرة شيطانية وهدامة لدى البعض الآخر. ويتمحور هذا العداء والرفض حول فكرة الحرية الفردية نفسها التي لا ديمقراطية من دونها. ففي نظر الكثير من قطاعات الرأي العام، تنطوي الحريات الفردية على تهديدات حقيقية لهوية الجماعة والدين والقومية وتتناقض معها. ولذلك تبدو الديمقراطية للكثيرين على أنها أكثر سلبية من جميع ما أتى قبلها من ايديولوجيات حداثية.
ينبع سوء الفهم بشكل خاص من المطابقة في الوعي الجمعي الشائع بين الحرية الفردية والاباحة، وتفسيرها على أنها تعني حق الفرد في عمل كل ما يشاء أوما يخطر له، من دون اعتبار المحرمات الدينية أو التقيد بقاعدة أخلاقية أو مراعاة الأحكام القانونية. هكذا تظهر الحرية في هذا الوعي الجمعي السائد كتحرر من الالتزامات والمسؤوليات الجمعية، كما تبدو الديمقراطيةالقائمة عليها عنوان النظام السياسي الذي يدعو إلى إلغاء القيود الدينية والوطنية والاجتماعية أو يدعو إليها. لذلك لا تتورع بعض التيارات المحافظة الدينية عن اتهام الديمقراطيين، عندما يتحدثون عن الحريات الفردية وحقوق الانسان العالمية، بأنهم يريدون تحويل الانسان إلى ما يشبه البهيمة التي تتصرف بدافع غرائزها وترفض إخضاع سلوكها الغريزي لأي قيمة أخلاقية أو دينية.
لا تقود هذه التمثلات التاريخية السائدة في الوعي الجمعي العربي حول السياسة وحدودها إلى تشويه مفهوم الديمقراطية فحسب، ولكنها تقضي أكثر من ذلك، ومن خلال ذلك، على الفكرة الوحيدة الحاملة لمشروع تغيير فعلي وجدي في الوقت الراهن، بل على فرص التغيير. فليس للتغيير قاعدة ممكنة وضرورية اليوم سوى إعادة إدخال المجتمع في القرار العام، وبالتالي استعادة شروط بناء حياة سياسية سليمة وحية. وليس هناك إطار نظري وسياسي لتجسيد هذه المشاركة الاجتماعية الواسعة في بلورة الخيارات العمومية، المدنية والسياسية، وتشجيع الأفراد على الانخراط في الحياة العامة وتحمل مسؤولياتهم الجمعية، أي في إحياء الحياة السياسية بالمعنى النبيل للكلمة، سوى الديمقراطية التي تجمع بين إدخال الشعب في معادلة السلطة المحلية وإدراج الجماعة الوطنية نفسها في الحياة الدولية وفي الكونية الإنسانية.
والبديل الوحيد لهذا التغيير الديمقراطي، أي لإدخال الشعب في معادلة السلطة العمومية وإدراج الجماعة في أجندة الحضارة الكونية هو تعميم منطق الانقسامات الطائفية والإتنية وحل التناقضات والتوترات من خلال الانفجارات العشوائية، والتجديد المستمر من وراء ذلك لنظم القهر والديكتاتورية. وليس هناك أمل في تغيير وجهة الحركة الاجتماعية، ونقلها من مسار النزاعات الأهلية لتنفيس الضغوط الداخلية والخارجية، إلى مسار التحرك إلى الأمام والبحث عن تطوير بنية المؤسسات وتوزيع الصلاحيات وتقسيم العمل العام، وبالتالي التراكم المنتج، من دون إعادة الاعتبار لفكرة الديمقراطية وفي صميمها فكرة الحرية والقيم المرتبطة بها، من حرية الاعتقاد والمبادرة والتنظيم والمشاركة في الحياة العمومية. فلا ديمقراطية ولا نظام سلطة قانونية منضبطة خاضعة للمساءلة وحاملة لمعنى المسؤولية، من دون إحياء معنى الشخصية الفردية الفاعلة والمستقلة القادرة على المشاركة الفكرية والسياسية في المصائر العمومية. ولا شخصية من دون حرية تميز عمل الفكر والضمير والسلوك الأخلاقي. فهي شرط استرجاع الأفراد أهليتهم، أي ثقتهم بنفسهم وايمانهم بقدرتهم على التفكير الناجع والمساهمة الايجابية والمشاركة في المسؤولية العمومية واتخاذ القرارات المصيرية. وهي شرط التخلص أيضا من نزعة التمييز العنصري ضد الذات، الناجم عن الاستقالة العمومية، والذي يجعل أغلبية الأفراد يعتقدون أنهم غير أهل وغير كفؤ لتقرير مصيرهم، ويقبلون بتسليم زمام أمورهم إلى فئة يضفون عليها سمات الفهم والنبالة وروح المسؤولية، ويحولونها إلى ارستقراطية يسيرها العقل والقيم النبيلة، بينما ينظرون إلى أنفسهم كرعاع تسيرهم الغريزة.
والحال أن الديمقراطية تعني وتفترض نزوع الجميع إلى أن يعترف بهم كأسياد، أي كموطن وعي أخلاقي قادر على حمل المسؤولية والمشاركة في توجيه الحياة العمومية. ومطالبتهم بالحرية كشرط لهذه السيادة ومقوم لها.
فلا تعني الحرية التحرر من القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية، كما يفهمها الوعي البسيط الشائع، ويتمثلها بالتالي كفكرة خطرة وهدامة، وإنما تعني بالعكس اعتراف الجميع، أي كل فرد، بأنفسهم كرجال أهل قادرين، يشكل كل منهم موطن سيادة وقرار وإمكانية اختيار. وهو مؤهل لهذا السبب لحمل المسؤولية ومدعو للتصرف والسلوك حسب قواعد الأخلاق والقانون والمصلحة الجمعية، وقادر على تجاوز النظرة الأنانية. باختصار لا تعني الحرية هنا الانفلات من القيود وإنما العكس تماما: أي التقيد بمباديء وقواعد أخلاقية وتصرفات قانونية نابعة من اختيار طوعي يستند هو نفسه على اقتناع وايمان. وهذا ما يميز التقيد الذاتي عن التقييد الاجتماعي، الديني والأخلاقي، من الخارج الذي سيطر على مجتمعنا خلال القرون الطويلة السابقة. وهو ما يحول التقيد إلى شعور بالمسؤولية يرتب إلتزامات ويحدد مهام ليست مفروضة من قبل المجتمع بقدر ما هي نابعة من الذات ومرتبطة بسعي الفرد إلى تحقيق نفسه وتأكيد ذاته كمواطن، أي كإنسان حر واع ومسؤول، أي سيد بين أسياد. وهو أساس تشكيل الأمم السياسية ومحرك حياتها ومصدر حيويتها. فلا يصبح الفرد مواطنا إلا بقدر ما يظهر قدرته على تحمل المسؤولية العمومية جنبا إلى جنب وبالقدر نفسه مع شركائه الآخرين في الوطنية. ولا مسؤولية ولا مساواة في الوطنية من دون النجاح في استبطان القيم القانونية والأخلاقية المشتركة والسلوك بموجبها. ولا سلوك أخلاقي وقانوني من دون التمكن من شرط الحرية وما تعنيه من اختيار ووعي بمعنى الاختيار.
من هنا ينطوي الخيار الديمقراطي بالنسبة لي على أكثر من بناء نظام سياسي قائم على التعددية وتنظيم الانتخابات الدورية وممارسة الحريات الفردية كيفما يشاء الفرد. إنها ثورة أخلاقية وسياسية في الوقت نفسه لأنها تفترض في مجتمعاتنا إحياءا بعد موات لمعنى الأخلاق والحياة المدنية وما تفترضه من تكافل وتضامن ولفظ للأنانية والانتهازية، كما تفترض تغييرا عميقا في منظومة القيم الأساسية التي تقوم عليها الشخصية الفردية في ثقاتنا ومجتمعاتنا العربية، يقع في صلبه استعادة معنى المسؤولية.
هذا يعني أن الديمقراطية، قبل أن تكون نظاما سياسيا ناجزا، هي معركة طويلة لتحرير المجتمع والفرد من ثقافة العطالة والخنوع والتسليم والهرب من المسؤولية والانسحاق أمام القوة. وهي كنظام سياسي مدرسة عملية لتربية الأفراد على حمل المسؤولية والانخراط في الحياة العمومية والالتزام بقواعد قانونية وأخلاقية. وهي في الحالتين شرط لتأكيد معاني السيادة الشخصية والتحرر من الشعور بالدونية، وتحقيق مفهوم المواطنية بما يعنيه من مساواة وعدالة وتضامن وتكافل بين الجميع، وما يستدعيه من الارتقاء فوق المصالح الفردية. إنها عملية تحرير للانسان، خاصة للجمهور الشعبي العام الذي عومل خلال التاريخ كجمهور غريزي، لا يمكن أن يتصرف حسب العقل والأخلاق، ودفعته نظم القهر والاستبداد إلى استبطان قيم الدونية والانسحاب من المسؤوليات العمومية.
من هنا أيضا لا سبيل إلى بناء مجتمع ديمقراطي بعيد عن التسلط والتعسف وانتهاك حرية الآخر إلا بتربية المجتمع نفسه وتأهيله لاستيعاب معنى الحرية والمساواة والقانون. هذه هي الخطوة الأولى والضرورية لبناء قوى ديمقراطية فعلا قادرة على حمل النظام الديمقراطي وتسييره والدفاع عنه ومنع استغلاله من قبل شبكات المصالح المالية. وربما كان دور المثقفين أهم في هذا المجال بكثير من دورهم في قيادة حركة التغيير السياسي نفسها. المهم أن نعرف أن الديمقراطية هي النظام الذي يستند إلى تدخل الشعب ومشاركته القوية، وهذا ما يفترض أولا وجود شعب. والشعب ليس مجرد أفراد يعيشون مع بعض ولكن علاقة سياسية تجمع بين الأفراد على قاعدة العيش المشترك وأخلاقيات الاحترام والمساواة والتضامن والتكافل. الشعب نظام أخلاقي وثقافي وقانوني، أي وعي وطني أو مواطني يولد إرادة واحدة. فإذا انعدمت الأخلاقيات التضامنية والمواطنية وتحول الشعب إلى أفراد لا رابط بينهم سوى المصالح الخاصة، لا يشعرون بالألفة ولا الثقة المتبادلة ولا الفائدة من العيش المشترك، زالت الإرادة الموحدة وانقسم الشعب إرادات، وزالت إمكانية بناء نظام سياسي بالفعل. أما ما نعرفه في بلداننا فلا علاقة له بذلك وهو ليس نظام سياسة وإنما نظام تسلط بالقوة وفرض إرادة مجموعة من الحاكمين المستندين في حكمهم إلى الأجهزة الامنية والعسكرية. ولا تملك شعوبنا لا أخلاقيات سياسية حقيقية واعية ولا إرادة وطنية. إنها تعيش في نظام التبعية المطلقة للسلطة وللدولة "الأجنبيتين"، حتى لو كان أعضاؤهما من أهل البلاد الأصليين. لكن لا يجمعهم جامع مع بقية أبناء جلدتهم. ولا يستطيعون ضمان استمرار سلطتهم إلا بتعليم الشعوب استبطان دونيتها، وفرض صورة الحاكمين باعتبارهم طبقة متميزة مختلفة عن بقية السكان ومتفوقة عليهم . ولا تتردد بعض النظم الضعيفة في اللجوء إلى أقسى درجات العنف حتى تجبر السكان على استبطان علاقات السلطة القائمة على التمييز والإذعان للقوة.
ليس هناك شك في أن تمحور تفكيرنا ونقاشنا خلال أكثر من قرنين على مسائل الهوية والقومية في مواجهة العصبيات الطائفية والسياسات الاستعمارية، التي ابتلينا بها في هذه المنطقة أكثر من أي منطقة أخرى، قد حرمنا من فرصة التأمل في مسائل تحرر الفرد وانعتاقه وتحوله إلى مشارك فعال في الحياة العمومية، وبالتالي من فرصة فهم موقع الديمقراطية ومكانها في عملية التحويل الاجتماعي والتحديث الحضاري. بيد أن الرأي العام قد تعلم من التجربة الماضية كثيرا. وأصبح يدرك اليوم أكثر من أي حقبة ماضية أن تجاوز تشوهات التاريخ الماضي ومواجهة السياسات الامبرطورية الاستعمارية ما عادا ممكنين من دون التغلب على ثقافة الأنانية والصغار والخنوع والإمعية، والعمل على إحياء معنى الإنسان في كل فرد وتجديد وعيه والارتقاء بالوعي الجمعي إلى مستوى الحياة المدنية والأخلاقية.