دفاعا عن مشاعر التضامن العربي النبيلة

2006-02-01:: الاتحاد

أثار المؤتمر التضامني الذي عقده اتحاد المحامين العرب في دمشق في منتصف كانون الثاني الجاري ردود أفعال متفاوتة في وسط الرأي العام. وبالرغم من أن الكثيرين قد نظروا إليه كتظاهر للتضامن مع سورية، نظر إليه أغلب أبناء الشعب السوري كتظاهرة للتضامن مع النظام. لا بل إن الشعارات التي أطلقت في المؤتمر من قبل المشاركين أو المؤطرين لهم، والتي ركزت جميعا على شخص رئيس الدولة، الذي وسم بأنه جمال عبد الناصر القرن الواحد والعشرين، ورمز الوطنية والسيادة العربية والسورية معا، أعطت الإنطباع بالفعل بأنه لم يكن للمحامين العرب هدف آخر من عقد هذا المؤتمر في دمشق سوى دعم رئيس الجمهورية السورية، وتكريس زعامته للأمة العربية، وتأييده في مواجهة ما تثيره ضده لجنة التحقيق الدولية. حتى قال بعضهم من القاعة: حتى لو أردت لقاء لجنة التحقيق فسوف نمنعك، نحن المحامين العرب، من ذلك بالقوة.

وبصرف النظر عما يبعثه مثل هذا التضامن الفج من انطباع سلبي لدى الرأي العام العربي والعالمي، يعمل على عكس ما يرمي إليه تماما بسبب ما يثيره، في ظروف توجيه يد الاتهام للنظام السوري في عملية الاغتيال المريعة التي قضى فيها رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، من شكوك حول احتمال مشاركة الرئيس نفسه في العملية، يطرح تكرار مثل هذه التظاهرات، التي كانت قد بلغت أوجها في السنة الأولى لسقوط نظام صدام حسين، أسئلة عديدة على الأحزاب والمنظمات والمثقفين العرب، الذين ينتمون أو لا يزالون يتمسكون ببعض مباديء الحركة القومية العربية وشعاراتها. فهل يمثل نظام بشار الأسد بالفعل امتدادا للحركة القومية العربية وهل يستحق النظام السوري الدعم الذي يقدمه له قطاع واسع من الرأي العام العربي، وهل هو النظام الأفضل للحفاظ على المصالح السورية والعربية اليوم؟ وهل يصب هذا الدعم في صالح تعزيز موقف سورية، الوطن والشعب، في مواجهة الضغوطات الأجنبية، أم أنه يقود إلى تعزيز مواقف النظام في مواجهة الشعب والمعارضة السوريين الذين يطالبان منذ عقود بوقف الفساد المعمم وإصلاح الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والقضائية السائبة، ووضع حد لنظام التمديد التلقائي لنظام السيطرة الأمنية الذي تتحكم به أجهزة مخابرات مطلقة الصلاحية، تضع نفسها فوق المساءلة والقانون، بل هي التي تصنع القانون كما تصنع الحياة العمومية، الاقتصادية والسياسية والنقابية والثقافية والعلمية؟ وهل تفيد مثل هذه المؤتمرات ومظاهر التضامن العشوائية التي ترفض التمييز بين الدولة والنظام، مصالح الأمة العربية، إذا صرفنا النظر عن المصالح الوطنية السورية؟
لا شك أن القسم الأكبر من الجمهور العربي، الشعبي والمثقف، الذي يتضامن مع سورية، يعرف طبيعة النظام السوري الراهن كما عرف طبيعة نظام صدام البائد، ولا يتردد في توجيه الانتقاد له في السر والعلن. والدليل أننا لم نعد نقرأ مؤيدا لا يحيط تأييده بشروط تشمل دعوة النظام إلى تعزيز الوحدة الوطنية عن طريق الانفتاح على الشعب السوري وتحقيق الاصلاح والديمقراطية ووقف العمل بالقوانين الاستثنائية المدمرة لأي مجتمع يريد الحياة. فجميع المتضامنين مع سورية، وهم أغلبية ساحقة من العرب، يحركهم الخوف على سورية ويعتقدون أنهم يدعمون، من وراء دعم النظام السوري، الشعب السوري نفسه وقضاياه الوطنية. لكن ليس هناك شك أيضا في أن القسم الأكبر من الرأي العام السوري الملوع بنظام الحكم بالأجهزة الأمنية وعن طريقها ولصالح رجالاتها وأقاربهم ومواليهم لا غير، أو أغلبية هذا الرأي السوري الساحقة، يعتقدون بأن مثل هذه المهرجانات والتضامنات لا تخدم قضيتهم ولكنها تصب مباشرة في خدمة النظام. فهي لا تزن كثيرا في ميزان المواجهة مع الخارج ولا يعتد بها في موازين القوى الدولية، لكنها شديدة الأهمية في ما يتعلق بتعزيز موقف النظام، المثابر على رفض الانفتاح والاصلاح معا والتغطية على العجز والفساد وكبت الحريات العامة وتقييد الحقوق السياسية، في مواجهة الرأي العام الداخلي. ومما يعزز من هذا الاعتقاد أن مثل هذه التضامنات لا تحصل أبدا للدفاع عن قضايا الشعب ومصالحه في مواجهة انتهاكات السلطة حقوقه، في سورية أو غيرها من البلاد العربية المفجوعة بنظم مثيله، ولكنها تكاد تكون موصى عليها. فهي تأتي في الوقت والمكان المناسبين لحماية النظام وتقديم غطاء سياسي له وتزويده بشرعية قومية كاذبة في مواجهة الشرعية الديمقراطية.
لكن، مع ذلك، ليس المحامون والمثقفون إلا قطاعا بسيطا من قطاعات الرأي العام العربي الواسعة التي تتخذ الموقف نفسه. وهي أغلبية اعتادت أن لا تولي أهمية كبيرة لشروط حياة الشعب وعلاقة سلطته العامة به، ولا تأخذها بالاعتبار، عندما يتعرض أي بلد أو أي نظام لضغوط خارجية. وهو ما يشكل جزءا من تراث الحركة القومية العربية، حتى لو اتخذ هذا الشكل أكثر فأكثر طابعا عصبويا متزايدا وخضع لأخلاق الجاهلية القائمة على قاعدة انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فالمسألة أعمق بكثير إذن من مسألة محامين ومثقفين، وبالتالي مما يتبادر إلى ذهن بعض أنصار حركات المعارضة الديمقراطية في البلدان العربية من أنه ليس وراء تظاهرات الدعم هذه سوى الانتهازية ورغبة بعض الوصوليين في الاستفادة من كرم الضيافة الدمشقية أو حتى في نكء جراح بعض المصابين بحنين القومية الشعبية لسنوات الخمسينات والستينات. إنها مسألة أكبر تتعلق بتشوش الوعي الوطني العربي نفسه، وفصله الطويل والإشكالي بين الوطنية بمضمونها الداخلي المرتبط باحترام حقوق المواطنين ومصالحهم، ومضمونها الخارجي المرتبط بالدفاع عن سيادة الدولة واستقلال البلاد ومصالحهما السياسية. ولا يمكن ايجاد مخرج من هذا الاختلاط والتشوش من دون عودة إلى مسألة الوطنية نفسها وإعادة النظر في تحديداتها.
بعكس ما تنزع إليه بعض الاتجاهات التي يحركها العداء للفكرة القومية العربية، والتي ترى في مثل هذا التضامن تعبيرا عن تخلف العرب وتمسكهم بالماضي، وتنظر إلى التضامن العربي العربي نظرة سلبية لتؤكد استقلالية كل دولة عربية وعزلتها الكاملة عن الدولة العربية الأخرى، يشكل هذا التضامن مكسبا كبيرا وهاما يستحق أن نحافظ عليه ونغذيه ونرعاه معا. ما هو سلبي وسيء ليس شعور الشعوب العربية بضرورة التضامن مع الدول والشعوب العربية الأخرى عندما تتعرض لمحنة أو ضغوط خارجية. هذا هو التقليد الذي كنا ولا نزال نعمل لبنائه والاستثمار فيه لأنه يشكل أفقا لا بد منه لتجاوز النزاعات العربية العربية وبناء قاعد للعمل العربي المشترك والاتحاد بين الشعوب في المستقبل. إن ما هو سلبي هو أن تستغل النظم العربية الحاكمة هذا التضامن العفوي والتلقائي في سبيل توظيفه للتغطية على سياساتها اللاوطنية واللاشعبية واللاإنسانية. بل إن بعضها قد أدرك بحسه الكلبي أنه يستطيع أن يمرر أي سياسة أجرامية بحق شعبه من خلال إثارة المواجهة الشكلية والسطحية، أو إدعاء المواجهة مع القوى الدولية والاستعمارية، قبل أن يعود فيمهد للتفاهم مع هذه القوى والمساومة على المصالح الوطنية.
ما العمل إذن من أجل أن لا يستغل التضامن العربي النبيل من قبل هذه النظم الاستبدادية لتأبيد وجودها وحرمان شعوبها من حقوقها الطبيعية باسم القومية أو الدفاع عن كرامة الأمة العربية؟ هذا هو السؤال وتلك هي القضية التي ينبغي على جميع المشاركين في هذه النشاطات أن يفكروا فيها قبل القيام بأي عمل يمكن أن يقود إلى عكس الأهداف التي يسعون إليها. فالاستخدام الدنيء للمباديء القومية سيقود حتما إلى كفر الشعب بها بل ربما العداء لها، كما هو حاصل عند قطاع مهم اليوم من الرأي العام العربي الذي يشعر أنه خدع بشعارات القومية والوطنية وهو مستعد للتسليم لأي قوة داخلية أو خارجية تنقذه من دعاتها والمتمسحين بها لخدمة أغراضهم ومصالحهم الفئوية.
والجواب في نظري بسيط. على جميع المنظمات والأحزاب والنقابات وقطاعات الرأي العام العربية أن تشرط تأييدها ودعمها لأي نظام في مواجهة الضغوط الخارجية باحترامه حقوق شعبه الوطنية، أي أن تجعل من الوطنية رديفا للحقوق المواطنية وليس فقط للمحافظة على مظاهر السيادة والاستقلال الخارجية. فالوطنية لا تنفصل. والسيادة الخارجية تجاه الدول الأجنبية لا قيمة لها إن لم تعبر عن السيادة الشعبية الداخلية، لأنها من دونها ستكون سيادة الفئة الحاكمة فحسب، بما يعنيه ذلك من توظيف الدولة والشعب في خدمة مصالح هذه الفئة وحدها. وعندما ينتفي الرابط بين السيادة الخارجية والداخلية الشعبية لا يبق هناك أي عقبة كي يتم التفاهم بين النظم والدول الاستعمارية من خلف ظهر الشعوب وعلى حسابها. فلماذا يتعارض فضح الفساد المستشري والعمل الجماعي لاستئصاله مع بناء مقاومة وطنية؟ وكيف يمكن تعزيز الوحدة الوطنية بفتح السجون والمعتقلات لجميع أولئك الذين ينادون بالإصلاح والتغيير بالطرق السلمية؟ التمييز بين الوطنية والوطنية الكاذبة هو الشرط الضروري كي لا نحرق آخر ما تبقى لنا من العروبة المغدورة، أعني مشاعر التضامن العربي النبيلة. وقديما قال الشاعر : أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم.