خير من الحرب غيرالجدية

2000-04-29:: ملحق النهار

 السلام عزيز المنال حتى لو لم يكن عادلا . وشعوب كثيرة في العالم تحلم بالسلام بأي ثمن . قكيف اذا كان السلام عادلا وشاملا ودائما ؟  من الصعب القول أننا أمام سلام عادل ، ولكن السلام ، في النهاية ، غير العادل ، خير من الحرب غير الجدية التي تنقلب وبالا على من يشنها والتي تتحول ، كما حصل للعرب في نهاية القرن الذي انصرم لتوه " الى حرب العرب على العرب . ولو لم أكن عربياً ، ليس في المعنى الوراثي ،ولكن في معنى التبني السياسي والايمان الفكري ، لقلت لقد نال العرب السلام الذي يستحقونه ، لأنهم لم ينجحوا في تجاوز خلافاتهم وانقساماتهم ومشاحناتهم التي لاتنتهي ، ولم يدخلوا إلا لماما ًفي منطق الحرب الفعلية ، بل عاشوا الحرب دعاية إعلامية ذات أهداف سياسية داخلية . لكن من الصحيح أيضا أن العرب في انقساماتهم هم ضحية للجغرافية السياسية التي حسوا فيها وكانت شرط اطلاق اسارهم من قيود الاستعمار التقليدي الثقيلة ، لكن ليس من أجل تحريرهم والسماح لهم بتكوين ارادة مستقلة وفضاءات اقتصادية وسياسية وفكرية قابلة للتنمية والتطوير من معايير الحضارة الراهنة . ولايبدو أن العرب كانوا على قدر من الدراية والنضج خلال القرن الماضي يمكنهم من التغلب على العقبات التي وضعت أمامهم وقلب الخريطة الاستعمارية.
ولذلك ينبغي لنا التدقيق في المصطلحات أيضا . فكلمة العرب كما هي مستخدمة اليوم تثير الكثير من الالتباس . اذ لو كان العرب هم الذين وقعوا السلام ،أعني العرب مجتمعين في إطار واحد ، مع ما يملكونه من قدرات ووزن ، لكان السلام الراهن هزيمة منكرة لهم . ولكن ليس العرب من وقع السلام ولكن عرب ينتمون الى دول ومنظمات مستقلة عن بعضها ومتنافسة لم تنجح في أي وقت في لملمة نفسها ومواجهة اسرائيل كطرف واحد . ولو حصل ذلك لما كنا في الوضع الذي نحن فيه الآن .والذي وقع الاتفاقات هو الذي من دون شك سيحظى بالسلام في المعنى العامي للكلمة ، أي تجنب الحرب . فهناك اليوم سلام اسرائيلي - مصري واسرائيلي - أردني واسرائيلي - فلسطيني وموريتاني وغداً على الأغلب سوري ولبناني - وبعد ذلك قطري وعماني وبحريني ومغربي وجزائري وتونسي وغيرها ،لكن ليس هناك سلام اسرائيلي - عربي . أو مع أولئك الذين ما يزالون ينظرون إلى أنفسهم كعرب قبل أن يكونوا سوريين ومصريين ولبنانيين وأردنيين وغير ذلك أو بالاضافة الى ذلك . فهؤلاء خسروا بالفعل المعركة ، وجاء السلام على أنقاضهم ، وفي سبيل تحويلهم نهائيا ًأنقاضا ًوردمهم تحت التراب ؟ وكأن المطلوب بالضبط هو أن لايكون هناك سلام اسرائيلي - عربي ، ولكن فقط مصري وأردني وسوري ولبناني وتونسي ومغربي ... الخ . ولم يكن هذا بهدف جعل كل سلام من هذه السلامات يتناسب مع وزن الدولة التي وقعته ولن أيضا من أجل تحويل السلام منطلقاً لإعادة التركيب الجيوسياسي للمنطقة بما يضمن لاسرائيل أن تكون طرفا ًفاعلاً ورئيسيا ُوأسبقيا ًفيها .
وهكذا كان لابد للسلام أن يكون وسيلة لتعزيز المصالح الخصوصية والظرفية لكل دولة عربية ودافعا لبلورة استراتيجيتها الوطنية المغلقلة على نفسها اقليميا ًودوليا ًبالنسبة الى المستقبل . وهذا يعني أنه كي يتحقق ضم اسرائيل للمنطقة كان ينبغي تحويل كل دولة من دول المنطقة اسرائيل صغيرة وضعيفة ، مستقلة كلياً عن الدول الأخرى ، ولا تفكر إلا في مصالحها الجزئية والخاصة ، وفي مقدمها المصالح الأمنية والسياسية والغاء كل وشائج القربى والعلاقات والأحلام والآمال التاريخية التي كانت تشكل لأكثر من قرن محرك التغيير والتطور في البلاد العربية .
ولاشك عندي في أن السلام قد حصل ، بمعنى وضع المنطقة في شروط ومناخ يحولان دون وقوع حرب أو نزاع مسلح بين احدى الدول العربية أو حلف عربي احتمالي من جهة واسرائيل من جهة ثانية . وأنه لن يكون هناك حرب في المدى المنظور بين أي دولة أو تكتل عربي محتمل واسرائيل ، وشروط منع اندلاع الحرب هي بوضوح التفوق الاستراتيجي والعسكري الاسرائيلي الساحق على الدول العربية منفردة ومجتمعة بضمان الولايات المتحدة والغرب عموما ،وعدم السماح بقيام أي تكتل عربي يستبعد اسرائيل ، وتاليا ًدفن الفكرة القومية العربية ، وأخيرا ًاشغال الدول العربية التي وقعت السلام أو دخلت فيه بهمومها الداخلية والاقتصادية والسياسية والطائفية والأقوامية .
لكن هذا لايعني إنهاء الصراع في الضرورة مع العرب ، أي مع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ، وطالما بقي هناك أمل لبناء عالم عربي موحد ، أو ما دامت هناك ارادة وعزيمة لدى العرب أو بعضهم على عدم التخلي عن الأمل التاريخي القديم في تكوين قطب مستقل للتنمية الخضارية والانسانية ، وسيكون محور هذا الصراع بالضبط هذه الارادة وتلك القطاعات من الرأي العام العربي الذين لايزالون يتمسكون بمنطق العروبة وآفاقها ، أي بانشاء تكتل عربي يعتمد على احياء الشخصية العربية التاريخية ويطمح إلى أن يجعل من العرب مركز نهضة اقتصادية واجتماعية مستقلة وقائمة في ذاتها وليست ملحقاً بالمركز الاسرائيلي الذي يعد نفسه لشغل منصب بؤرة الهيمنة الاقليمية .
وبالتأكيد لن تكون هذه المعركة على توجيه المنطقة وتقرير مصيرها سهلة لا بالنسبة الى العرب ، أي لأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالخيار العربي ، ولا بالنسبة الى اسرائيل . فمن جهة لن ينتهي شأن العرب لأن الدول العربية وقعت اتفاقات سلام سواء كانت شكلية أم فعلية . ومن جهة ثانية يصعب على اسرائيل كما يبدو لي السيطرة على مركز القرار وصوغ جدول الأعمال التاريخي للمنطقة لأنها غريبة أكثر من اللزوم في عقلية مجتمعها ومطامحها وآمالها وآلامها عن شعوب المنطقة ، ومحدودة الحجم والاشعاع الأخلاقي والفكري والسياسي مهما حصلت من نفوذ وتفوق استراتيجيين . ولأن العرب يمثلون ثالثا كثافة سكانية وثقافية أكبر وأقوى من أن يبلعوا بسهولة أو أن يكونوا لقمة سائغة للدولة الاسرائيلية ، وذلك حتى لو نجحت هذه الدولة في الاحتفاظ بالدعم والتأييد الخارجيين بالحجم اللذين هما عليه اليوم . وطالما لم يكن في مقدور اسرائيل لم المنطقة المشتتة من حولها ، وهو مستحيل عليها بسبب بنيتها التي ذكرنا ، وأيضا ما سيبقى من نزوعات لدى الدول والنخب العربية ذاتها لتأكيد موقعها ونفوذها الاقليميين ، فسيبقى الصراع مستمرا بينها وبين العرب ، كما لايزال مستمرا ًبين هذه الدول العربية نفسها منذ عقود ، لتقرير من هو الذي يجمع الآخرين ويقرر جدول أعمال المنطقة وأولوياتها .
ساهم الصراع مع اسرائيل في تعزيز آلية تكوين الوطنيات المحلية والالتفاف حول النخب والدول القائمة من دون شك في العقود الأخيرة ، خصوصا في سورية ومصر . وسيحتاج الاحتفاظ بالمستوى نفسه من الانسجام والوحدة داخل هذه الدول الى تنازلات سياسية ملموسة من النخب الحاكمة التي استفادت من هامش تسامح كبير في العقود الماضية . لكن لن يكون هذا سببا كافيا لتغيير البنى السياسية القائمة . بيد أن من الضروري أن ندرك أيضا أن نوعية العلاقة القائمة بين الدول العربية واسرائيل ليست هي العامل الوحيد الذي يرسم مستقبل الأنظمة الساسية ولا مطالب المجتمعات العربية . ان الأنظمة ستتغير من دون أي شك ، وستحدث ثورات حقيقية في هذا المجال في اتجاه سلبي أو ايجابي بحسب ردود فعل النخب الحاكمة ، لكن لن يكون ذلك بسبب السلام ولا بسبب العلاقة الجديدة باسرائيل ولكن بسبب الاستحقاقات الكبيرة والعديدة ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تم تأجيلها منذ فترة طويلة . فتوقف التنمية عمليا منذ أكثر من عقدين أو تراجع معدلاتها في شكل خطير في معظم البلاد العربية ، وتفاقم التفاوت الاجتماعي في المداخيل ومستويات المعيشة مع تزايد متسارع وخطير لدائرة الفقر والتهميش ، وتطور الوعي الاجتماعي عموما بضرورة وضع حد لسلطة العسف والتسلط واملاء القرارات من لدن نخب تجمع بين عدم الفاعلية وعدم الشعور بالمسؤولية والعبودية للمصالح الفئوية واقرار مبدأ المشاركة السياسية ، كل ذلك يشكل عوامل ضغط قوية على النظم المجتمعية القائمة ويدفع الى تغييرها . وتلتقي عوامل الضغط الداخلية هذه من دون شك مع عوامل الضغط الخارجية الممثلة بمطالبة مؤسسات الدعم المالي الدولية والدول الصناعية الكبرى بالتجاوب مع استراتيجيا العولمة وفتح الأسواق وتحرير الاقتصادات الوطنية التي بقيت منطوية على نفسها نسبيا ، لتخلق مناخا من التوتر الشديد يدفع لامحالة الى البحث عن حلول جديدة واعادة نظر جذرية في نماذج الحكم والسياسات المتبعة منذ عقود . ولن يلعب السلام مقابل هذه العوامل المتعددة المهمة سوى دور ثانوي في تقرير اتجاه التغيير وحجمه ونمزذجه سواء جاء في اتجاه الديمقراطية أم الدمقرطة ، وهذا ممكن وسيتحقق في بعض البلدان ، أو في اتجاه اعادة بناء النظم الديكتاتورية على أسس أكثر فاعلية ونجاعة وفاشية ، وهو خيار مفتوح أيضا في بلدان أخرى . وتعززه رغبة الحكومات الاسرائيلية والدول الكبرى في ايجاد أوضاع تحتكر فيها النخب الأقلية القرار السياسي ، بصرف النظر عن الواجهات الشكلية التعددية التي ستقام لامحالة ، وذلك لسهولة التعامل معها في امرار الحلول السلمية والسياسات الدولية غير الشعبية الأخرى . وفي هذا المعنى سيؤدي السلام دورا في ترجيح النزوعات الديكتاتورية في بعض البلدان وليس العكس |، لكنه ان يكون العامل الحاسم .
وما يصح على موضوع النظم الساسية يصح على مستقبل الحياة الفكرية في سوريا وغيرها من البلاد العربية . فلا يرتبط تطور هذه الحياة كثيرا بمسألة العلاقة مع اسرائيل ، ولكنه يخضع لعوامل داخلية وخارجية أشمل تأثيرا . كما أن مستقبل الحياة الثقافية ، من حيث الانفتاح والحرية وتنمية المناخات الابداعية ، لن يكون بالضرورة واحدا في جميع الدول العربية .
في اعتقادي أن مفهوم التطبيع الثقافي قد نشأ في اطار استراتيجيا التطبيع العربي المتعدد الشكل مع اسرائيل |، كشرط للسلام . وكانت الحكومات والمنظمات العربية المعنية بالسلام بالمنطقة قد سعت لجمع المثقفين العرب والاسرائيليين في ندوات وملتقيات عديدة من أجل كسر الحواجز النفسية بينهم والمساهمة في دفع دينامية السلام السياسية .
وبالمثل ولد مفهوم رفض التطبيع الثقافي مع اسرائيل ومقاطعة الندوات والمؤتمرات والمحافل التي يشارك فيها اسرائيليون أو التي تسعى إلى جمع العرب والاسرائيليين الى مائدة واحدة ، كجزء من استراتيجية عربية تقوم على رفض التعامل الثقافي مع كل ما يمثل اسرائيل طالما لم تقبل اسرائيل بتحقيق المطالب العربية الجغرافية والسياسية ، أي الانسحاب الفعلي من الأراضي المحتلة والاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطين بما في ذلك حقه في تقرير المصير واقامة دولة مستقلة . وقد جمعت هذه الاستراتيجية بين اتجاهين مختلفين أحدهما يربط انهاء المقاطعة الثقافية بتحقيق السلام بين الدول العربية على أسس مؤتمر مدريد ، وثانيهما يرى أن المقاطعة يجب أن تستمر باعتبارها جزءا من استراتيجيا العرب لرفض التسليم لاسرائيل وعدم القبول بمشاريع التسوية التي تعني الاعتراف بضياع فلسطين العربية الى الأبد .