خطاب بوش ووزن العرب في السياسة الدولية

2002-06:: الجزيرة نت


فاجأ خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش العالم أجمع بخطابه الذي عبر فيه عن تصوره لآلية الخروج من أكبر وأطول الأزمات التي عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين. وبالرغم من أن العديد من الأطراف الدولية قد سعى إلى التخفيف من وطأة الصدمة التي أحدثها هذا الخطاب بتأكيد الجوانب الايجابية وصرف النظر عن السلبيات الأساسبة إلا أن ردود فعل الدبلوماسية الدولية, من الصين إلى أوربة مرورا بالبلاد العربية قد أظهرت خيبة أمل كبيرة تجاه ما وصفه وزير العمل الاسرائيــــلي ريــــوفين ريفلــــين نفسه على أنه مطابق تماما للموقف الاسرائيلي وانه كان يمكن ان يكتبه مسؤول في الليكود. لا بل إن صحيفة يديعوت احرونوت ذهبت أبعد من ذلك في مقالتها الافتتاحية عندما وصفت الرئيس بوش بانه عضو جديد في الليكود . أما صحيفة معاريف فقد نقلت عن وزير اسرائيلي قوله انه يجب تقليد بوش وسام الصهيونية.
وبصرف النظر عن هذا الترحيب الاسرائيلي الذي يعكس أيضا الرغبة في ترجمة خطاب بوش ترجمة اسرائيلية محضة, يمكن القول إن هذا الخطاب يعكس تراجعات كبيرة وجوهرية عن المواقف والوعود التي أطلقتها الإدارة الأمريكية ذاتها في الأشهر الماضية.
فبعكس ما كانت تتوقعه الدبلوماسبة العالمية, وتلك الممثلة باللجنة الرباعية (الأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الاوروبي إلى جانب أمريكا)التي قبلت بها واشنطن, افتقد الخطاب إلى الحد الأدنى من التوازن. إذ حمل الشعب الفسطيني وليس السلطة الفلسطينية وحدها في الواقع المسؤولية الوحيدة في تعثر الوصول إلى تسوية للأزمة وبالتالي وضع عليه العبء الرئيسي في تقديم التنازلات المطلوبة لبدء المباحثات السياسية في المستقبل من دون أن يكون هناك أي ضمان في أن لا تذهب هذه التنازلات سدى ومن دون تكليف حكومة اسرائيل التي هي الطرف الرئيسي في الأزمة أدنى مسؤولية أو التزام.
لم يعد مطلوبا من الفلسطينيين وقف العمليات الفدائية أو التقليل منها أو بذل مئة بالمئة من الجهد لمنعها إنما أصبح من المفروض عليهم للحصول على حق الدخول في المفاوضات السياسية التخلي عن رئيس السلطة الفلسطينية نفسه وبناء حياة ديمقراطية ودستورية ومؤسسية سليمة ترضي الاسرائيليين وتطمئنهم أيضا.
ولا شك أن قطاعات كبيرة من الرأي الفلسطييني والعربي والعالمي تؤيد منذ فترة طويلة عملية الاصلاح في فلسطين. لكن ليس هذا هو المضمون الحقيقي لما يشترطه الرئيس الأمريكي في الحقيقة. ذلك أنه عندما يدعو الشعب الفلسطيني إلى عدم انتخاب الرئيس عرفات فهو يتهمه بالتعاون مع الارهاب ويطالب الفلسطينيين بانتخاب قيادة جديدة قادرة على محاربة الارهاب, أي وقف المقاومة الفلسطينية بالدرجة الأولى. ومثل هذه القيادة التي ينبغي عليها أن تنال شرعيتها من رضا الإدارةالأمريكية عنها وموافقه حكومة شارون وتمكنها من القضاء على المقاومة الفلسطينية لن تكون ديمقراطية, بل لن تكون فلسطينية وإنما قيادة عميلة لاسرائيل والولايات المتحدة معا.

وبعكس ما كان الفلسطينيون يعتقدون لم يتورع الرئيس الامريكي من نقل مفاهيم حرب الارهاب الدولي كليا إلى الساحة الفلسطينية الاسرائيلية. فقد خلط من دون تمييز بين عمليات المقاومة الفلسطينية جميعا وبكل أشكالها وعمليات الارهاب واشترط على الفلسطينيين وقف عمليات المقاومة-الارهاب قبل البدء بأي مباحثات سياسية. وخطاب الرئيس الأمريكي واضخ تماما في ذلك فهو يشترط البدء بمفاوضات التسوية السياسية في سبيل بناء الدولة الفلسطينية الموعودة والدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي لهذه الدولة خلال المرحلة التجريبية المؤقتة وبعدها بتحقيق الشعب الفلسطيني وقف المقاومة, والتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة واسرائيل لضمان الأمن والسلام لاسرائيل.
والمسألة تتجاوز في الواقع بكثير إزاحة رئيس عجوز متهم بالتغطية على الارهاب أو التشجيع على الفساد. إن المطلوب في الواقع ليس استبدال قيادة فلسطينية قديمة بقيادة فلسطينية جديدة ديمقراطية وإنما تحويل السلطة الفلسطينية إلى ذراع في يد اسرائيل وتكليفها بمهام حماية الأمن الاسرائيلي في الأراضي المحتلة. وعندما يتحقق ذلك وتبين السلطة الجديدة أنها نجحت في إخماد شعلة المقاومة عند الشعب الفلسطيني للاحتلال, أي لاسرائيل في نظر الادارة, يمكن للولايات المتحدة أن تضغط على اسرائيل للقبول بالدولة التي ستصبح بالضرورة دولة تابعة لاسرائيل ومحكومة من قبل حكومة لا قوام لها من دون الحماية الاسرائيلية.

وبعكس ما كان يتظره العرب والأوروبيون معا لم يتضمن الخطاب أي تصورات عملية عن أسلوب التوصل إلى الحل المنتظر وإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة إلى جانب الدولة الاسرائيلية. فهو يترك الامر معلقا أيضا على الإرادة الاسرائيلية ولا يضع على الولايات المتحدة أي التزام سوى السعي والتشجيع والدعم لكل الأطراف معا على السير في الطريق الصحيح.
فحتى لو حقق الفلسطينيون جميع المطالب الأمريكية الاسرائلية فانتخبوا قيادة مستعدة للتعاون مع تل أبيب لتحقيق أمن اسرائيل ليس هناك ما يضمن أن يستعيدوا سيادتهم على قرارهم وأراضيهم في وقت لاحق. فالولايات المتحدة تلتزم كما فعلت في السابق بالمساعدة على إقامة دولة فلسطينية لكن ليس بما هو أبعد من ذلك. وعندما تصطدم رغبتها في المساعدة بالإرادة الاسرائيلية ليس هناك أي أمل في أن لا تتجمد المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينيية.

والأمريكيون يسخرون في الواقع من الفلسطينيين والعرب عندما يعودون إلى النغمة ذاتها. فما حصل في السنوات العشر الأخيرة لم يكن يختلف شعرة عما يعدون به اليوم. فقد التزمت واشنطن بالمساعدة على ايجاد حل على أساس قرارات الأمم المتحدة ودفعت إلى عقد مؤتمر مدريد وعندما أصبح من الضروري الضغط على الاسرائيليين للانسحاب من الأراضي الفلسطينية أظهرت واشنطن تخاذلا كبيرا أدى إلى انهيار مفاوضات السلام ودفع الاسرائيليين والفلسطينيين من جديد إلى دائرة المواجهة العسكرية.
ليس في خطاب الرئيس الأمريكي أفكار جديدة ولا التزامات أفضل بإقامة الدولة الفلسطينية ولا رؤية أكثر عملية لآلية السير الناجح بالمفاوضات نحو الهدف المرسوم ولا من باب أولى إرادة أمريكية أقوى في التوصل إلى تسوية للأزمة الشرق أوسطية. كل ما سعى الرئيس إلى عمله في خطابه هو الرد على ضغوط الدبلوماسية الاوربية والعربية التي أبدت في الأشهر الأخيرة قلقا بالغا على انسحاب الإدارة الأمريكية من العملية السياسية الشرق أوسطية واحتمال تطور الوضع في الشرق الأوسط نحو آفاق كارثية. وانتقل الموقف الأمريكي من الجمود وعدم الاهتمام بالأزمة إلى الانخراط فيه من منطلق الحرب ضد الارهاب ودعم الجهود الاسرائيلية والموقف الشاروني. لذلك رمى الخطاب المسؤولية في الإزمة على الفلسطينيين وطالبهم بدفع الثمن اللازم وحدهم لتهدئة الوضع في المنطقة. وفيما وراء الحديث السطحي والدعائي عن قبول واشنطن بدولتين تعيشان جنبا إلى جنب بسلام, وهو من الكلام الشائع والذي لا يكلف ثمنا, لم تجد الإدارة الامريكية بعد أشهر طويلة من المشاورات الدولية والتأملات والنقاشات الداخلية حلا آخر سوى وقف المقاومة الفلسطينية. وهذا هو الأمر الوحيد الواضح والمبين في نص الخطاب, أما ما تبقى فهو كلام دبلوماسي للارضاء المعنوى والتخدير النفسي. وليس الحديث عن الاصلاح والقيادة الفلسطينية الجديدة والديمقراطية بعيد عن ذلك, بل إن هذا الاصلاح والتغيير هو الأداة التي تعتقد الولايات المتحدة أنها ستقضي بفضلها على الانتفاضة بل وتخلق البيئة التي تمنع قيام أي مقاومة مقبلة محتملة.

يشكل خطاب الرئيس بوش ضربة موجعة قبل أي شيء آخر للدبلوماسية الرباعية وللأقطاب الثلاث الشركاء مع واشنطن في حل الأزمة الشرق أوسطية. فمن الواضح أن هذا الخطاب قد استبعد كل تصوراتهم واقتراحاتهم واعتبرها لا قيمة لها, بل لقد كان هدفه رميهم بعيدا خارج حلبة السياسة الشرق أوسطية لصالح التفاهم الثنائي الشامل الاسرائيلي الأمريكي.
لكنه يشكل هزيمة منكرة أيضا للدبلوماسية العربية التي نشطت في الأشهر الأخيرة واعتقدت أنها استطاعت أن تؤثر في الموقف الأمريكي عن طريق المبادرة التي أطلقتها. وهي تجد نفسها, كما كنا قد توقعنا لها تماما, في وضع تفرض عليها الولايات المتحدة التسليم بالتنازلات التي كانت مستعدة لتقديمها في إطار تسوية شاملة لكن قبل تحقيق هذه التسوية وربما من دونها وكعربون على حسن نواياها في مقاومة الارهاب والمساعدة على استئصاله من المنطقة.
وهو يشكل كذلك تحديا كبير للشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى التي لم يعد من الممكن تمييز نضالاتها وتضحياتها في المعايير الدولية التي تحددها الدولة الأعظم إلا من زاوية الحرب ضد الارهاب الدولي وفي إطارها.
لكن, فيما وراء ما يعنيه بالنسبة لأزمة الشرق الأوسط, الناجمة عن عجز المجموعة الدولية بكل مؤسساتها ومكوناتها عن وضع حد للاحتلال الاسرائيلي وتطبيق قرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن, تطرح المسائل التي يثيرها خطاب الرئيس بوش مشكلة السياسة العالمية التي تسعى الدول المختلفة بصورة مضمرة إلى وضع أسسها بموازاة عملية الاندماج العالمي. فهو يعلن عن أسلوب في العمل الدولي وفي تصور الحلول المطلوبة للأزمات العالمية يقطع مع جميع المكتسبات القانونية والأخلاقية والسياسية السابقة ويجعل من الولايات المتحدة الوصي الفعلي على مصير العالم فوق القانون وبصرف النظر عن أي شرعة دولية. فالولايات المتحدة لا تسمح لنفسها عبر هذا الخطاب بتقرير قواعد العمل في المنطقة من دون مراعاة أي مصالح أو تصورات لحلفائها الأوروبيين والروس وللأمم المتحدة فحسب, ولكنها تذهب أكثر من ذلك فتطالب يحقها في تقرير قواعد العمل بين الأطراف السياسية والاجتماعية داخل كل مجتمع على حدة من دون مراعاة مصالح هذا المجتمع أو رؤيته أو مشاعره الخاصة. فهي تحدد له نموذج الحكم الصالح وهي التي تختار له قادته الذين تعتقد بأنهم يلبون المعايير الحكومية الصالحة وتبين له الشروط التي ينبغي عليه التزامها لنيل الاعتراف بحكومته. والانتخابات لا تكون نزيهة إلا عندما توافق نتائجها توقعات واشنطن وشروط حربها الشاملة ضد الارهاب. فليس هناك أي سبب كي لا تستخدم الولايات المتحدة هذا المثال كسابقة للتدخل في شؤون الدول العربية الأخرى بصورة مباشرة وإملاء نوع الحكومات المطلوبة والآليات المحددة لتحقيقها.
والسؤال : هل يعبر ذلك بالفعل كما يعتقد البعض عن انتصار دبلوماسي لارييل شارون الذي تمكن خلال زياراته الست الي واشنطن منذ توليه السلطة الي اقناع بوش باقصاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, أم عن انتصار التيار اليميني المتشدد في الادارة الامريكية ذاتها؟
في اعتقادي إن هذا الخطاب يعكس بالدرجة الأولى الوزن المتهاوي للعرب في السياسة الدولية بسبب عدم قدرتهم على الارتقاء بأدائهم الى المستوى الاقليمي الذي يستطيع أن يخفف من الاجتياح الحقيقي الذي يمثله صعود القوة الأمريكية في مسرح عالمي جيوسياسي مفتوح لا تزن فيه الدول الصغيرة مثقال ذرة.