حول غزة ومصر وسياسات العزل العربية

2009-12-30:: الاتحاد

 في اليوم الثاني لتوقيع دمشق وأنقرة على اتفاق فتح الحدود بين الطرفين، والسماح لمواطني البلدين بالسفر من دون تأشيرة دخول، تكريسا لمجموعة من الاتفاقات الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، بادرني بعض الأصدقاء المصريين اثناء مؤتمر علمي كنا نشارك فيه معا في أحد العواصم الخليجية بسؤال : ماذا يجري في الشرق بين سورية وتركيا، وأين تتجه الامور بهذه السرعة؟ وكان من الواضح أن تطور العلاقات السورية التركية يثير تساؤلات كثيرة عند أصدقائي من منطلق شعورهم كمصريين بأن مصر تفقد شيئا فشيئا مركزيتها بالنسبة للبلاد العربية، وبشكل خاص بالنسبة لدمشق التي كانت أكثر المتحمسين في الخمسينات للعلاقات الوثيقة مع القاهرة. حتى ذهب بها الأمر إلى الدخول في وحدة اندماجية معها، شكلت لفترة من الزمن معلما رمزيا كبيرا من معالم طموح العرب إلى تحقيق وحدة عربية لم يكتب لفكرتها النجاح إلى اليوم. قلت ما هو الغريب في الأمر. قال أصدقائي كيف يحصل مثل هذا التفاهم العميق بين بلدين كاد النزاع أن يكون سمة العلاقات الدائمة بينهما منذ انفصال سورية عن السلطنة العثمانية. هل هي العثمانية الجديدة؟ وماذا تسعى دمشق إلى تحقيقه من وراء ذلك؟

قلت للأسف الشديد أن ما أخفقت مصر في الإقدام عليه وتحقيقه في المشرق والعالم العربي يتحقق اليوم على يد تركيا، وهي البلد الذي كان العديد من الباحثين العرب ينظرون إليه منذ سنوات على أنه من بلاد الجوار المعادية. وقد صدرت كتب عربية عديدة بهذا المضمون. والحال أن تركيا استفادت من العقدين الأخيرين وطورت سياسات جديدة تماما، داخل تركيا وتجاه المنطقة المحيطة بها، العربية وغير العربية، بينما بقينا نحن، في مصر وغيرها، ندور في الحلقة المفرغة ذاتها لنقاشات الخمسينات والستينات، ونتبارى في تأكيد أطروحات الماضي أو نفيها. ولا يزال مثقفون مصريون، منذ قيام الناصرية إلى اليوم، يتنازعون في ما بينهم حول عروبة مصر أو مصريتها، وما يترتب على ذلك من تحديد دور مصر في محيطها العربي، ومدى التزامها بالقضايا العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية، وحدود هذا الالتزام وطبيعته. وما الدور الذي يمكن أن ينتظره في إقليمه بلد صرف جل وقته وجهده السياسي في العقدين الاخيرين في الصراع حول توريث السلطة أو عدم توريثها، بينما انقلب العالم رأسا على عقب. لقد همشت مصر نفسها بمقدار ما راوحت في مكانها في القضايا المحورية، من قضية التنمية واستغلال فرص الاندماج الإقليمي، إلى قضية الديمقراطية وبناء إطار قانوني واضح لتداول السلطة وممارستها على جميع الأصعدة، إلى قضية التفاعل الايجابي مع حاجات محيطها وتقديم يد المساعدة للشعوب المنكوبة فيه، وفي مقدمها قضية الاحتلال للاراضي العربية، وتقرير مستقبل الشعب الفلسطيني..

بالمقابل تطورت مواقف النخب السياسية التركية بسرعة كبيرة. وربما كان قبول مصر المساعدة المالية الأمريكية، ثمن توقيعها اتفاقات كمب ديفيد وفرطها التحالف العربي، ورفض برلمان أنقرة عرض الولايات المتحدة مبلغ عشرة مليارات دولار للسماح لها باستخدام أراضيها في حربها ضد العراق عام 2003 التعبير الواضح عن تباين خيارات تركيا الجديدة ومصر ما بعد الناصرية. فقد كان هذا الرفض مفتاح تأكيد الاستقلال التركي من دون أن يعني هذا الاستقلال قطع العلاقات مع الولايات المتحدة أو معاداة الغرب ورفض التعامل مع الاتحاد الأوروبي أو حتى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي، تماما كما كان الحفاظ على المعونة الأمريكية مفتاح فهم العديد من سياسات القاهرة العربية والإقليمية. لكن هذا الخيار الاستقلالي والسيادي الفعلي لم يكن معزولا عن الخيارات الديمقراطية الداخلية للنخبة السياسية التركية على مختلف مشاربها. ففي العقدين الماضيين لم يضطر الجيش التركي الذي نصب نفسه منذ قيام الجمهورية حارسا على السيادة الوطنية إلى التسليم بالأمر الواقع وقبول الشرعية الانتخابية فحسب، وإنما لم يتردد قادة حزب الرفاه الذي اصطدم بالعسكريين، في التراجع عن العديد من مواقفهم، بل في إعادة بناء الحزب الاسلامي على أسس ليبرالية جديدة وتغيير اسمه للحفاظ على الخيار الديمقراطي والاستمرار في تطبيق برنامج العمل الوطني. وليس هناك شك أن وراء هذه التنازلات المشتركة التي عبرت عن نضج النخب التركية يتجلى تطور مفهوم المصالح الوطنية التركية، لا من حيث هي تعزيز لوضع النخبة العسكرية وتأكيد هيمنتها، أي لا من حيث هي عنتريات سيادية شكلية ومظهرية، وإنما كبحث عن فرص تحسين شروط حياة الأتراك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

هكذا بمقدار ما تبلور مشروع وطني تركي يتمحور حول السيادة والاستقلال والحفاظ على الديمقراطية وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو مشروع حداثة حقيقية، تطورت بموازاته سياسة إقليمية جديدة تهدف إلى خدمته. وبدأت أنقرة التي كانت أعظم حليف إقليمي عسكري وسياسي لاسرائيل خلال عقود طويلة سابقة تشعر بمسؤوليتها تجاه مشاكل المنطقة ونزاعاتها. فناهضت سياسات إدارة بوش العدوانية، واستفادت من علاقتها التقليدية بتل أبيب من أجل فك العزلة السورية والسعي إلى تحقيق تسوية تضمن عودة الجولان المحتل، وعبرت أكثر من مرة عن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني واستعدادها للعب دور في أي تسوية سياسية. وأدانت الحرب الاسرائيلية الهمجية على غزة عام 2006. ولم يتردد وزير خارجيتها في زيارة غزة ثم في إلغاء أنقرة المناورات العسكرية المشتركة التي كانت تجري، مع الجيش الاسرائيلي، على حدود سورية الشمالية. ولا يترك زعماء تركيا العدالة والتنمية مناسبة من دون أن يظهروا اهتمامهم بمصير منطقتهم وحرصهم على المساعدة في بسط الاستقرار والسلام فيها. وهم يحققون بسبب ذلك مكاسب استراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية متواصلة لا تحلم بها أي من الدول العربية الرئيسية.ليس هناك إذن أي سر في تقدم تركيا وتنامي دورها في الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة، وتراجع دور مصر وانحسار نفوذها في المنطقة نفسها. فمصر ما بعد الناصرية اختارت التفريط بالاستقلال والسيادة للحفاظ على معونة مالية تكاد تتحول إلى معونة رمزية، وأدارت ظهرها للديمقراطية في سبيل تأكيد استقرار أصبحت تربطه أكثر فأكثر بتخليد الوضع القائم وإرساء تقاليد شبه امبرطورية. وبدل العمل على توفير شروط الارتقاء بمستوى حياة السكان الثقافي والعلمي وتحسين شروط معيشتهم وإرساء أسس المجتمع الصناعي الحديث، قبلت النخب السائدة بسيطرة اقتصاد زبوني قائم على الاحتكار والمضاربة وتقاسم المنافع بين أقلية اجتماعية محدودة على حساب سعادة الأغلبية ومستقبل أبنائها، وهو نقيض مشروع الحداثة وعكسه. واختارت أخيرا، دعما لهذا المشروع السلطاني، الانفصال عن محيطها العربي ورفض تحمل أي مسؤولية في ضمان مستقبله ومستقبل أبنائه، ومازال العديد من مثقفيها وقادتها يمننون العرب، بمناسبة ومن دون مناسبة، بما قدموه ويقدموه من "تضحيات" مجانية، على حساب شعب مصر ومصالحه الوطنية. والنتيجة لا تزال مصر تعيش، مثلها مثل معظم الدول العربية، في عقلية الماضي، بينما تخوض تركيا معركة التفكير بالمستقبل والاعداد له.

لا أتذكر أن أحدا من الحاضرين قد شعر بالإساءة أو بالتجني. والجملة الوحيدة التي سمعتها في نهاية حديثي وجهها أحد كبار الباحثين والسياسيين أيضا لزميل جالس بيننا كانت: أسمعت يا سعادة السفير؟

حضرتني هذه الجلسة السريعة مع أشقائي من المثقفين والناشطين المصريين، الذين كانوا معي قلبا وقالبا، بمناسبة قرار الحكومة المصرية الجديد بناء جدار حديدي عازل على حدودها مع غزة، المحاصرة منذ ثلاث سنوات بهدف تجويع أهلها وفرض الاستسلام عليهم، والتسليم بالمطالب الاسرائيلية. وما يضاعف الأسى أن يدافع بعض المسؤولين المصريين عن بناء الجدار بوصفه مسألة سيادة مصرية كما لو أن مشكلته الوحيدة هي نفي تهمة الامتثال لمطالب السياسة الأمريكية والاسرائيلية، أو كأن السيادة مبرر كاف لأعمال تكاد تندرج إن لم تندرج بالفعل في عداد الجرائم ضد الإنسانية.

كيف يمكن لمصر، وهي واسطة عقد العرب، أن تلعب الدور المنتظر منها والمرتجى في محيطها، إذا كان استكمال حصار غزة والتنكيل بشعبها هو محمول السيادة المصرية ومعيارها؟ وكيف يمكن للعرب أن يتجنبوا سيطرة الدول الأجنبية الإقليمية والدولية إذا تبارت أقطارهم في النفور عمدا، كما أنشد امرؤ القيس، إلى الروم، نكاية بجاراتها وأشقائها ناكري الجميل؟ وأي عروبة يمكن أن تقوم على قاعدة الخديعة والأنانية والطفولية؟

يؤكد درس تركيا، وهذه هي الغاية من استذكاره، أن من يريد استقطاب الآخرين من حوله وحيازة موقع شرعي في محيطه، ولعب دور غير ذاك النابع من التهديد والوعيد، ينبغي أن يظهر، داخل بلاده وخارجها، مقدرة على حمل المسؤولية، وقبل ذلك أن يعرف معنى المسؤولية في قيادة المجتمعات وتكوين التحالفات.