ثمن التبعية وغياب الاستقلال

2003-06-04:: الاتحاد

 

شيئا فشيئا بدأت النخب العربية، الرسمية الحاكمة والأهلية المعارضة او المستقلة، تتحسس النتائج الحتمية للكسب الإقليمي الذي حققته الولايات المتحدة من جراء احتلال العراق· وبصرف النظر عن التصريحات العلنية، أصبحت جميع هذه النخب تدرك ما يعنيه التكيف مع المعطيات الجديدة من تغييرات تشمل ميادين نشاط سياسية واقتصادية وإعلامية وتربوية عديدة· وقد بدأت التغييرات تظهر واضحة على الموقف النفسي بشكل عام· ففي الوقت الذي تبدو فيه الحكومات ميالة أكثر للاعتدال في صدها للمطالب السياسية والفكرية المنبعثة من التيارات الليبرالية أو شبه الليبرالية تظهر قطاعات واسعة من الرأي العام المثقف والمسيس استعدادات أكبر للانخراط في العمل العمومي والتضحية في سبيله· وإذا كان من السابق لأوانه الحديث عن تغيير في طرق العمل والتسيير السائدة في البلاد العربية منذ عقود، فمما لا شك فيه أن ما نشهده اليوم هو تنام أكبر في الهمة الاصلاحية لدى المسؤولين ولدى الرأي العام الواسع·

ولا نقصد بالهمة الاستعداد النفسي لتقبل شكل أو آخر من الاصلاح والتغيير فحسب ولكن أكثر من ذلك الايمان المتنامي بأن هناك ظروفا أفضل للدفاع عن برنامج الاصلاح أو الانخراط فيه·
لا يعكس بروز الهمة هذا بالضرورة، خاصة لدى قطاعات الرأي العام الأهلي، اعتقادا عميقا بأن واشنطن جاءت إلى الشرق الأوسط وخاضت الحرب ضد نظام بغداد ورتبت شروط احتلال هذا البلد عسكريا لتحقق الاصلاح أو تبني الديمقراطية العربية· فالقسم الأكبر إن لم نقل الساحق من الرأي العام العربي يفتقر لأي نوع من الثقة في السياسات الأميركية الشرق أوسطية ولا يرى لها هدفا آخر سوى السيطرة على الموارد العربية وتعزيز قدرة إسرائيل العسكرية والتفاوضية معا· إنه يعكس بالأحرى الشعور المتنامي في الشارع العربي بأن الأميركيين الذين مستهم شظايا العنف والاحتراب الدائم في المنطقة وشكلت لهم تحديا أمنيا لا نظير له في عقر دارهم قد رفعوا أيديهم عن أو خففوا حمايتهم ورعايتهم للنخب العربية الحاكمة، وقرروا لأسباب تتعلق بخدمة مصالحهم عدم التسليم بأن صيغ الحكم التي وضعت منذ نصف قرن لا تزال قادرة على أن تضمن اليوم الاستقرار الذي يشكل الهدف الأول لسياساتهم الإقليمية· وهناك اقتناع متزايد في وسط الجمهور العربي بأن ضمان الاستقرار الذي يبحث عنه الأميركيون، مثلهم مثل الأوروبيين وجميع الدول الصناعية التي تعتمد وسوف تعتمد بشكل أكبر في مصادر الطاقة التي تستخدمها على نفط منطقة الشرق الأوسط، لن يكون ممكنا بعد اليوم من دون المرور بإصلاحات عميقة إلى هذا الحد أو ذاك داخل النظم العربية·
وربما ستظهر نتائج هذا التحول في المناخ النفسي في المنطقة أكثر فأكثر في المستقبل مع إدراك الرأي العام أن هامش مبادرة النخب المحلية قد ضاق كثيرا بعد وصول واشنطن إلى بغداد وأنها لم تعد مستعدة للمغامرة بما تبقى لها من رصيد لدى واشنطن، والمثابرة في اتباع أساليب قديمة تصدم دعاة الاصلاح أو تصطدم بهم· ولهذا فهي تبدو للرأي العام مكتفة اليدين تماما إلا فيما يتعلق بالحرب المشتركة ضد الإرهاب، أي فيما يتعلق اليوم، بشكل رئيسي، بقمع الحركات الإسلامية المتطرفة أو التي يشك في تطرفها· ورغم أن ميل النخب المترددة في التغيير سيكون قويا لمماثلة جميع حركات المعارضة مع الحركات الاسلامية المتطرفة لتبرير الاحتفاظ بأجهزة القمع القوية والضاربة إلا أنها ستظل، مهما كان الحال، غير قادرة في نظر الرأي العام على استخدامها كما كانت تفعل في السابق·

فلأول مرة يشعر الجمهور العربي أنه لم يعد اليوم أمام النخب المحلية رأسا لرأس ولكن أصبح هناك شريك ثالث قوي· والجديد في الأمر أن هذا الطرف الثالث لا يعلن اليوم تحالفه العلني مع الطرف الرسمي بقدر ما يزمجر في وجهه ليل نهار ويسعى إلى دغدغة آمال وعواطف الجمهور الواسع الذي ينتظر الإصلاح والتغيير على أحر من الجمر· بمعنى آخر يعتقد رجل الشارع العربي لأول مرة أن هناك اليوم في المنطقة معلماً، وأن هذا المعلم، بالرغم من كل ما يتصف به من نزعة للبطش ومغالاة في التحيز للعدو الإسرائيلي واستهتار بالثقافة والهوية العربيتين، يبقى مع ذلك صاحب حرفة وصاحب رأي وصاحب قرار، أي يبقى مرجعا ولو لم يكن مرجعا مقبولا أو المرجع المطلوب· وربما كان الجمهور يجد أملا أكبر في التعامل مع معلم يتعامل معه بمكيال مزدوج من التعامل مع ما أصبح يبدو في العديد من الحالات بمثابة ميليشيا تعيث فسادا ولا تعرف في تعاملها مع من تخضعه لحكمها لا مبدأ ولا قانونا·
لا يعبر هذا المناخ المتنامي في الشرق في نظري عن انتشار أي وهم يتعلق بنية الأميركيين الجدية في التغيير ولا في قدرتهم على التغيير· ولا يقلل ذرة واحدة من مسؤوليتهم في سفك دماء الفلسطينيين والعراقيين بوصفهم شركاء في دعم السياسات الإسرائيلية الاستيطانية وفي دعم نظام صدام حسين خلال حقبة طويلة، خاصة في الحرب ضد ايران، وبعد ذلك في الحرب التي خاضوها لإزاحة صدام حسين عن الحكم·

ولا يعني بأي شكل أن الولايات المتحدة قد خلقت شروط الاصلاح أو هي في طريقها لأن تخلق مثل هذه الشروط· ولا يعني قبل هذا وذاك أن الاصلاح والتغيير في العالم العربي مشروع أميركي أو هو ثمرة أفكار ومصالح أميركية· فهو فكرة وحاجة ومصلحة عربية محضة· إنه يعني فقط حقيقة واحدة وهي أن انحباس حركة التغيير وانعدام الاصلاح لم يكونا بسبب رفض الجمهور العربي الواسع لأفكار الاصلاح ومبادئه وشروطه ومتطلباته نتيجة محافظته أو تدينه كما يدعي الكثير من المنظرين الأميركيين الذين يرمون إلى تبرير الاحتلال، ولكنهما كانا نتيجة توازن القوة الذي أحدثه التفاهم والتعاون والتضامن الدائم بين النخب الحاكمة والقوى الدولية الخارجية·
إن انطلاق عجلة الاصلاح بعد احتلال العراق يظهر أن مصير المنطقة وإدارتها ليسا ولم يكونا أبدا ملك أبنائها بالفعل، لا في حقبة الاستبداد والطغيان المنذورة للانتهاء ولا في حقبة الاصلاح المنتظر والمأمول· وهو يبرهن بما لا يقبل الجدل أن الركود الماضي والاستمرار في العسف والقهر والاستبداد لم يكونا ممكنين من دون مباركة خارجية بل من دون رغبة وإرادة دوليتين ولم يكونا أبدا نتيجة توازنات داخلية خاصة بالمجتمعات العربية· فالحقيقة أن شيئا لم يتغير في الواقع العربي ليغير المواقف والسياسات في اتجاه جديد·
إن ما تغير هو موقف الولايات المتحدة من الصيغ السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في البلدان العربية أو معظمها· فبعد أن كانت تقدم لها الدعم وتشكل كافلا عالميا لها بذريعة الحفاظ على الاستقرار الذي لم تعرفه الشعوب أبدا ولكن النظم والحكومات، أصبحت اليوم تدعو لتغيير هذه الصيغ نفسها باسم الحفاظ على الأمن العالمي ومحاربة الارهاب· والواقع أن ما لم يتغير ولن يتغير هو السبب الأول في غياب الاصلاح أعني رهن السياسات الوطنية المحلية بمصالح الدول والاستراتيجيات الدولية· وهذا هو المعنى الحقيقي للتبعية والهيمنة والاستعمار·