تداعيات الأزمة العراقية.. والمسؤولية عن عودة الاستعمار

2003-01-05:: الجزيرة نت


كما كان متوقعا لم يؤثر قبول الحكومة العراقية بدخول فرق الأمم المتحدة للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل ولا التأكد بعد دخولها من عدم وجود مثل هذه الأسلحة في العراق، على الأقل حتى الآن، كثيرا على موقف الولايات المتحدة الأميركية. ولا تزال الإدارة في واشنطن تتابع الحشد العسكري الاستثنائي في الخليج، وتؤكد على لسان كبار مسؤوليها وصغارهم أن شيئا لن يثنيها عن العمل بجميع الوسائل، بل عن خوض الحرب العسكرية، لتغيير النظام العراقي.

والواقع أن الولايات المتحدة لم تخف قط أن نزع أسلحة الدمار الشامل هو مجرد ذريعة لا بد منها لإعطاء حجة تضمن لها موافقة الدول الكبرى من حلفائها على إستراتيجياتها الدولية وإذعان الدول الصغرى لمخططاتها الإقليمية، وأن ما تريده من توجيه ضربة للعراق ليس إزالة أسلحة الدمار الشامل التي يصعب على العراق في أوضاعه الحالية إنتاجها بقدر ما هو الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين نفسه. بل إنها لن تخفي في مرحلة لاحقة أن تغيير النظام العراقي ليس هو نفسه غاية في ذاته، وهو لا يشكل هدفا إستراتيجيا للإدارة الأميركية إلا لأنه يشكل مقدمة لترتيب أوضاع المنطقة وتغيير العديد من أنظمتها بما يتفق مع تصورات الإدارة الأميركية الراهنة، كما عبرت عن ذلك بصراحة المبادرة التي أعلن عنها وزير الخارجية الأميركي كولن باول في ديسمبر/ كانون الأول 2002، التي وعد شعوب الشرق الأوسط فيها بالعمل سويا على إنجاز مهام التحولات الديمقراطية ومكافحة البطالة وإدماج المرأة في المجتمع.

وتظهر هذه المبادرة في الواقع الخلفية الفكرية التي توجه السياسة الأميركية الحالية في العراق والمنطقة ككل النابعة من حصول الاقتناع الكامل لدى فريق الرئيس بوش، أن الأنظمة المجتمعية السائدة في العالم العربي، بما فيها تلك التي كانت ولا تزال محسوبة على واشنطن، قد أخفقت في إدارة شؤون المنطقة الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية وأنها هي المسؤولة في النهاية، أي الأنظمة العربية، عن القلاقل والاضطرابات والتوترات التي تقود إلى تنامي الحركات الأصولية المتطرفة والإرهابية، التي تصيب اليوم بضرباتها البلدان الغربية.

ليس هناك شك في أن عدم اكتشاف أثر لأسلحة الدمار الشامل في العراق قد أحرج قليلا الإدارة الأميركية في مواجهة الرأي العام العالمي الذي أخذ العديد من قطاعاته الأهلية بالتحرك للتحذير من مخاطر سياسة استخدام القوة لتحقيق أهداف ومصالح قومية. ولا شك أيضا في أن هذه التحركات قد فرضت على واشنطن القيام بجهود سياسية ودبلوماسية أكثر من أجل تبرير هذه الحرب، كما فرض عليها العمل بصورة أكبر مع القوى العراقية الداخلية المناوئة لحكم صدام حسين أو القابلة للتعاون مع واشنطن. لكن كل ذلك لم يؤثر كثيرا على تصميم الإدارة الأميركية، ومن غير المحتمل أن يوقف أو يعرقل تقدم آلة الحرب الدولية التي تركب بثبات وانتظام في مواجهة العراق.

 

ينبغي الاعتراف بأن الولايات المتحدة الأميركية نجحت حتى الآن، بالرغم من عدم الاتساق العميق في مواقفها ومخالفة هذه المواقف لقرارات الأمم المتحدة، في تحقيق هدفين إستراتيجيين كبيرين على طريق الانتصار في فرض مخططاتها الإقليمية على البلاد العربية.

الهدف الأول هو الحصول من خلال استخدام وسائل الضغط والتهديد والابتزاز العسكري والسياسي والأخلاقي معا في انتزاع قبول العديد من حكومات المنطقة الاصطفاف خلف مشروع الحرب الأميركية وفي أسوأ الأحوال في الإذعان الشامل لها، فقد أنتج الضغط المستمر الذي مارسته الإدارة الأميركية في الأشهر القليلة الماضية اقتناعا عميقا لدى هذه الحكومات بأن الحرب قادمة لا محالة وأن من الأفضل لها أن تكون في صف المنتصر منذ الآن من أن تقف ضده أو تبقى على الحياد فتتحول إلى الهدف القادم للهجوم الإستراتيجي الشامل على المنطقة. وهكذا تنافست الحكومات العربية أو بدأت تتنافس في ما بينها على تقديم التسهيلات والتنصل من الالتزامات الشكلية واللفظية السابقة في إطار الجامعة العربية. وانتقل العديد منها من موقف إعطاء النصائح للإدارة الأميركية إلى الترحيب بالتعاون والاستعداد لتقديم العون وتطبيق الإصلاحات المنتظرة منها.
وأظهرت الإدارة الأميركية مرونة لافتة في تعاملها مع الحكومات العربية في هذا الميدان، فلم تفرض على أي منها أي أسلوب واضح ومحدد لتفي بالتزاماتها تجاه واشنطن وتجنبت بالعكس أن تظهر هذا التعاون وذاك الدعم بطريقة تسيء كثيرا إلى صدقيتها أو تريق ماء وجهها. فقبلت من كل حكومة ما تستطيع أن تقدمه من دون أن يسبب ذلك حرجا كبيرا لها.
وهكذا عادت مياه العلاقات الأميركية العربية إلى مجاريها وزال قسم كبير من قلق الحكومات التي بدت في مرحلة سابقة متوترة وخائفة على مصيرها ومستقبلها أمام سياسة ضغط أميركية عسكرية عاتية لا تحترم حتى المظاهر الشكلية في العلاقات الدولية. وقد حققت هذه المرونة الأميركية نتائج كبيرة، فقد ضمنت لها من جهة تحييد العالم العربي بأجمعه ومن جهة ثانية التعاون النشط لبعض حكوماته مع الإدارة الأميركية.
وبقدر ما يشكل هذا التعاون شرطا لنجاح المبادرة الإستراتيجية الأميركية بما يقدم لها من قاعدة ثابتة إقليمية للتدخل المباشر والعمل انطلاقا من مسرح العمليات على تغيير الأوضاع المحلية، يشكل تحييد المجموعة العربية شرطا ضروريا لتحرير إرادة الحكومات العربية المتعاونة وحمايتها في وجه أي معارضة أو أي مقاومة داخلية أو إقليمية محتملة.
الهدف الثاني الذي حققته الإدارة الأميركية خلال هجومها الإستراتيجي الراهن على المنطقة العربية هو نجاحها في بث الاقتناع العميق لدى قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي والعربي، الشعبي والرسمي، بأن مشروع التغيير الأميركي هو المشروع الوحيد القائم اليوم في المنطقة وأن أي مشروع آخر للإصلاح الاقتصادي أو للتحول الديمقراطي من داخل المجتمعات العربية قد أصبح متأخرا جدا ودون آفاق.
ومما سرع من حصول هذا الاقتناع ما ظهر من تهافت على موقف النظم العربية في الرد على الأزمة العراقية بالذات، ومن قبل ما عبر عنه الشلل الكامل لهذه الأنظمة تجاه الأزمة الفلسطينية، ثم فشلها قبل ذلك أيضا في تحقيق أي مشروع إصلاح جدي اقتصاديا كان أم سياسيا أم اجتماعيا، وأخيرا الانغلاق المتزايد لنخبها الحاكمة على نفسها واستكلابها على السلطة واستقالتها العمومية.
ففي مواجهة هذا الاستكلاب والاستهتار بأي مطالب اجتماعية للإصلاح وبموازاة تفاقم المشاكل الوطنية والاقتصادية والاجتماعية يزداد الشعور في وسط واسع من الرأي العام العالمي بأنه ربما ليس هناك بديل عن التسليم بالتدخلات الأجنبية في المنطقة العربية، رغم تعارضها الفاضح مع مبادئ الأخلاق وافتقارها لأي غطاء قانوني من أي نوع.
بل إن قطاعا كبيرا من الرأي العام العربي الذي يئس من النخب المحلية وفقد ثقته تماما فيها، وبشكل خاص في أوساط الطبقات الوسطى التي تجد نفسها مهددة بالانهيار من دون أن يكون لديها أي أمل في الخلاص ولا في المشاركة في إصلاح الأحوال، ينزلق شيئا فشيئا نحو الاقتناع نفسه كالمستجير من الرمضاء بالنار. فبعد أن فقد الأمل بأي حلول داخلية أصبح يعلق آماله على تحريك خارجي للأوضاع لكسر الجليد القائم. ومما يشجعه على ذلك أن حكوماته لا تفعل شيئا آخر في مواجهة الأزمات العاتية التي تعصف بالمنطقة عندما لا تكف عن مطالبة الدول الكبرى بالتدخل للمساعدة في حل هذه المشاكل ومناشدتها تقديم العون في كل مجال. فهو يؤكد للرأي العام فقدان هذه الأنظمة السيطرة على الموقف واستبطانها الإيمان بأن حلول المشاكل الإقليمية والوطنية قد أصبحت بالفعل بين أيدي الدول والقوى الأجنبية.
ولا تمنع المخاوف الكبيرة التي يثيرها الهجوم الأميركي بالنسبة للقطاعات الإسلامية من الرأي العام من بروز هذه الاستقالة الوطنية العربية الجماعية وما تعنيه من التسليم بالأمر للآخرين باعتبارها السمة الرئيسية للحقبة الراهنة. ولا يؤثر على هذا التوجه أو يحد منه خطاب الاستهلاك والابتزاز القومي والوطني الكاذب الذي تستخدمه الأنظمة لإخضاع الرأي العام لكبح جماح أي خطاب نقدي وإصلاحي داخلي، بل إنه يشجعه ويزيد منه.

ومن المؤكد أننا إذا لم ننجح، حكومات ومعارضات معا، في التوصل بسرعة في العام الذي بدأ للتو، إلى تفاهم فعلي بشأن إحداث تغيير نوعي في الأوضاع الوطنية والإقليمية يسمح بفتح آفاق التحول الجدي ويخرج الرأي العام من مناخ اليأس والإحباط والقلق والهزيمة الداخلية، فلا ينبغي أن تكون لدينا أي أوهام حول احتمال انهيار جميع الكوابح التي لا تزال تمنع الرأي العام العربي المتشبع بالثقافة الوطنية من تحويل المراهنة على التدخل الخارجي اليوم، الأميركي أو الأوروبي، إلى البرنامج المشترك لجميع القوى السياسية العربية اليسارية واليمينية والسمة الأبرز في تطور الموقف العربي.


فاستمرار المشاكل الراهنة وتواتر العجز عن حلها لا يفقد المجتمعات الثقة بالنخبة الحاكمة فحسب، ولكن بالمعارضات المحلية الوطنية أيضا، ويقود لا محالة إلى فقدان الرأي العام الثقة والإيمان بذاته أيضا وبقدرته على قيادة شؤونه العامة بنفسه. وهذا هو أساس الاستسلام والتسليم الذي يشكل الأرضية العادية لقبول المراهنة على الحلول الخارجية. ولا ينبغي أن نعتقد أن ما يحصل اليوم في العراق هو أمر عراقي بحت. ففي غياب الحلول الفعلية لمشكلات المجتمعات ومع استمرار تنكر النخب الحاكمة لمتطلبات الإصلاح السياسية والاجتماعية والاقتصادية ليس هناك ما يمنع أي مجتمع، عربيا كان أم غير عربي، من السير في الطريق الخطرة نفسها ومن الانقسام كما حصل في العراق بين فريق لا يجد بأسا في التعامل مع الشيطان للخلاص من الطغيان والعسف وحكم الإهانة والإذلال وأغلبية ساكنة ومسالمة منسحبة من السياسة وكل ما يتعلق بالشأن العام.

بالتأكيد، لن يقدم الاستعمار الأميركي الجديد في المنطقة للنخب الجديدة المتعلقة بأذياله شيئا غير المهانة. ولن يفيد في شيء أيضا تلك الأنظمة التي تسعى لتجنب أشكاله الفظة بالانخراط في الإستراتيجية الأميركية. ولن يحسن من وضع الطبقات الوسطى المنهار، وبالتالي لن يكون مقدمة لأي حقبة استقرار وازدهار كما يعتقد البعض. إنه سيكون بالأحرى فاتحة حقبة طويلة من الخيبة، ومنطلقا لعصر إضافي من الاضطراب والفوضى وانعدام الأمن والسلام.