تحرير الإنسان هو الأصل

2002-01-13:: الجزيرة نت

عدت لتوي من رحلة إلى المنطقة العربية واكتشفت أن قضية الحريات الفكرية والسياسية لاتزال -رغم كل التحولات الدولية وتغير البيئة العالمية وانهيار النظم الشمولية- هي المحور الرئيسي للصراع القائم بين النشطاء الاجتماعيين من مثقفين وسياسيين وأعضاء المجتمع المدني من جهة، ونظم الحكم التي تقودها في هذا الميدان أجهزة الأمن من جهة أخرى. ولاتزال عمليات التشهير وتشويه سمعة النشطاء الاجتماعيين وعزلهم عن الرأي العام وإخضاعهم بجميع الوسائل أو إيداعهم السجن لأتفه الأسباب سائدة في أكثر من بلد عربي.
وتعكس هذه السياسات التي تسير عكس مجرى التاريخ ولا تأخذ بالاعتبار التحولات العميقة التي تعيشها المجتمعات في كل مكان وتدفعها إلى رفض كل أشكال الوصاية، اضطراب الحياة السياسية في البلاد العربية، وتشير إلى الأساليب الشاذة التي لاتزال تعيق تنمية هذه الحياة وتنظيمها.. وهي تثير مسائل عديدة لا يمكن أن تستقيم حياة المجتمعات ويتحقق ازدهارها من دون حلها بصورة ايجابية وصحيحة، فهي تطرح:
• أولا مسألة العلاقة الصعبة بين السلطة والمجتمع، فمن الواضح أن أصل المشكلة وراء التهم الشكلية الموجهة للناشطين هو رفض أغلب النظم القائمة إشراك المجتمع عبر فئاته المختلفة -بما في ذلك أكثر الفئات ليبرالية واعتدالا وتفهما- في مناقشة الشؤون العمومية، مما يعني أنها لاتزال مصرة على استبعاد أي حياة سياسية ورفض القبول بأي شكل من أشكال الحوار في الموضوعات المتعلقة بالشأن العام انطلاقا من القاعدة التي سنتها لنفسها وهي احتكار القيادة الاجتماعية والسياسية، فالحكم عبر الحزب أو الأجهزة البيرقراطية يصوغ ويبلور ويقرر ويملي عبر مسؤوليه والمجتمع يتلقى وينفذ ويخضع من دون اعتراض ولا تردد ولا حق في النقاش، وكل ما يتجاوز هذه القاعدة الذهبية يمثل إثارة للحرب الأهلية وتهديدا لأمن الدولة واعتداء على الدستور.
• وتطرح هذه السياسات ثانيا مسألة العلاقة بين السلطة والقانون، فلا يبدو أن هناك أي اعتبار لحرمة القانون واستقلاله، فقد كان ولايزال في نظر النظم القائمة أداة سياسية من أدوات تثبيت الحكم والدفاع عنه ضد كل منتقديه أو بالأحرى غير المناصرين له، ولا يتردد الحاكم في استخدامه حسب ما تقتضيه الحاجة ليحبط إرادة خصومه السياسيين أو الفكريين ويخرجهم نهائيا من الساحة العمومية، ولا يضيره في ذلك أن تكون التهم غير حقيقية أو أن يفقد القانون أي صدقية.
• وتطرح هذه السياسات ثالثا مسألة تداول السلطة في هذه المجتمعات، فإذا كان أي حديث عن ضرورة أو احتمال التغيير أو توطين التعددية السياسية أو الدعوة إلى الديمقراطية واحترام الحريات الأساسية يشكل جرما سياسيا يقع تحت طائلة الاتهام بالاعتداء على الدولة وتهديد الاستقرار، وإذا كانت الانتخابات معدة بشكل لا يمكن أن ينجم عنه سوى إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة والتمديد للحكم ورجاله عقودا بعد عقود، وإذا كان أي حديث من خارج صفوف الحكم عن الإصلاح أو تداول السلطة يبدو عند بعض الأنظمة أنه تعبير عن إرادة انقلابية وعدوانية تهدف إلى تغيير السلطة بوسائل غير شرعية ويستحق بالتالي أقسى أنواع العقاب، فهذا يعني بكل بساطة أن النظام لا يدافع عن احتكار السلطة المطلق فحسب ولكنه يطالب أيضا بالتسليم له بالشرعية والقيادة بصورة مطلقة وأبدية.
لكن فيما وراء ذلك وأبعد منه تطرح هذه السياسات المسألة الأكثر خطورة التي تمثل اليوم موضوع النقاش العالمي الأول والأكبر، أعني مشكلة العنف السياسي. فإذا كانت السلطة العمومية لا تسمح لأي فئة من فئات المجتمع بالدفاع عن مصالحها أو التذكير البسيط بهذه المصالح أو التعبير عما يثير قلقها ومخاوفها بأي وسيلة من وسائل العمل السياسي، أي إذا كان من غير المسموح استخدام التظاهر أو الاعتصام أو الإضراب أو النشر أو التنظيم السياسي أو التنظيم النقابي بل حتى اللقاء الفكري أو الحديث في الصالونات (المنتديات) للتعبير عن نفسها والتذكير بمصالحها، فماذا يبقى أمام الأطراف التي تشعر بالإجحاف أو التي تريد أن تزيل ظلما وقع عليها غير اللجوء إلى الإرهاب والعنف الأعمى، وما الفرق بين سيطرة الدولة الشمولية التي تفرض سياساتها بالقوة على المجتمع والهيمنة الدولية القائمة على الاحتكار والاستفراد بالقرار الدولي واستخدام التفوق العسكري والاعتماد على الردع الأمني؟
إن ابتداع السياسة لم يكن يهدف إلى شيء آخر سوى تكوين حيز للتوسط بين السلطة التي تخضع لمنطق خاص بها هو منطق الحفاظ على الوحدة والسيادة والشوكة، والمجتمع الذي يتكون من فئات ومصالح وتيارات واعتقادات مختلفة بالضرورة ومتنافسة إن لم تكن متنازعة، بحيث يساعد هذا الحيز على إيجاد التسويات الاجتماعية وينفس التوترات والاحتقانات الناجمة عن التنافس والتنازع الطبيعيين، ويعمل بالتالي على تجنيب المجتمعات السقوط في محنة علاقات القوة المحضة التي تعني أن الأقوى عسكريا هو الذي يفرض رأيه ومصالحه على الآخرين، ويخلد من ثم الحرب الأهلية.
وهكذا نشأ حقل من العلاقات تدعمه مجموعة من وسائل الضغط والتعبير السلمية يقع في تلك المنطقة الوسطى بين الفكرة والقوة، ويمكّن جميع الأطراف من أن تضمن حدا أدنى من إمكانية التأثير بوسائل سلمية في الأطراف الأخرى وفي القرار العمومي يقيها خطر الدمار والموت والانسحاق ولا يضطرها في الوقت نفسه إلى اللجوء إلى العنف والقوة.
فإذا قرر أحد الأنظمة إلغاء هذا الصعيد الوسيط أو التوسطي الذي يسمح لجميع الأطراف بالدفاع عن نفسها ومصالحها بوسائل سلمية، أي من دون أن تهدد استقرار النظام العام، فهو لا يحرم المجتمع من أي فرص مبادرة وحوار وتفاهم ويفرض على النظام السياسي الجمود المطلق فحسب، ولكنه يدفع حتما إلى جعل القوة المجردة مبدأ القيادة وقاعدة الحكم.
وبقدر ما يدين النظام نفسه بالحكم عن طريق القوة فإنه يفرض بأن لا يكون هناك أي تغيير أو تعديل أو إصلاح إلا بالقوة، وهو يخلق من دون أن يشعر ربما شروط نمو التنظيمات السرية والباطنية التي تعتمد القوة وتنتظر الفرصة التي تسمح لها بالانقضاض عليه والحلول محله. وإدراكا لذلك، وحتى لا يترك النظام لهذه القوى مثل هذه الفرصة لا يجد له بديلا عن تضخيم أجهزة الأمن حتى تستطيع أن تطبق على المجتمع من كل الجهات، وكي ما تنجح هذه الأجهزة في سد كل الثغرات لا تجد مهربا من خنق كل شكل من أشكال الاستقلالية والحرية والمبادرة والحرمة الفردية والجماعية، وهكذا يتحول المجتمع -من دون إرادة واعية لأحد- إلى معتقل كبير لا تستقيم فيه حياة اجتماعية ولا ثقافية ولا اقتصادية ولا أسرية.
ليس هناك إصلاح مهما بلغت درجته من الاعتدال والشكلية من دون قبول النظام بحد أدنى من حرية الضغوط الاجتماعية السلمية، فإذا أصبح من غير الممكن والمشروع استخدام أي وسيلة من الوسائل السياسية السلمية للتأثير في الأوضاع والسياسات المتبعة بما في ذلك الكلام والخطاب والمقال، أي إذا نجح النظام في أن يقفل الباب تماما أمام أي نمو لأي شكل من أشكال التعبير عن الاحتجاج أو النقمة أو النقد أو المعارضة ورفض القبول بأي مخاطرة مهما كانت ضئيلة باسم الأمن أو الوحدة الوطنية أو المصالح الشعبية أو لأي سبب آخر، فلن تكون النتيجة ما يشاع من استقرار هو أقرب إلى صمت المقابر، أي دفن الشعب كوعي وإرادات فردية ومدنية حيا فحسب، ولكن أكثر من ذلك فرض العنف والتمرد والخروج على النظام وتحديه كأساس وحيد لتأكيد الوجود والاستقلال الفردي والمساواة والحرية. وعندما يكون ميزان القوى بين الدولة والمجتمع شبيها في اختلاله بميزان القوى الدولي، فهذا يعني أنه لن يكون هناك مجال لتأكيد الذاتية حتى بالعنف إلا بطريقة إرهابية انتحارية، عندئذ سيكون من الصعب الحديث عن وطن أو وطنية أو مواطنية أو حتى عن مجتمعات إنسانية.
حان الوقت كي ندرك جميعا أن السياسة والعمل السياسي والرغبة في المشاركة في مناقشة القرارات التي تمس المصير العام -أي مصير جميع الأفراد- ليست مسألة ثانوية، ولا ينبغي بأي شكل أن تكون مجال اتهام أو حكرا على شخص دون غيره وليس هناك بابوات سياسية، أي وكلاء سياسيون عموميون وأبديون معتمدون لتفسير آيات السياسة الوطنية ونصوصها.
وإن التحدي الكبير الذي تواجهه الشعوب والمجتمعات في القرن الواحد والعشرين هو -بالعكس تماما مما هو شائع عندنا- ليس منع الناس من الحديث في الشأن العام ولكن تحفيزهم على الالتزام والمشاركة السياسية لأن هذه المشاركة هي القاعدة الوحيدة لدفع الأفراد إلى تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية والعمومية، وتحمل هذه المسؤولية هو اليوم شرط قبول التضحية وبذل الجهد الخلاق المطلوب في كل المجتمعات لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين والخروج من طرق البيرقراطية المسدودة.
ليست السياسة مصدر الخطر أو مجاله في المجتمعات الإنسانية، ولكن -بالعكس تماما من ذلك- غيابها وتغييب إرادة الأفراد وإنكار مصالحهم وآرائهم والقضاء على استقلالهم الفكري والسياسي، أي اغتيال إنسانيتهم. ومن يراجع تاريخ الشعوب الغربية المعاصرة يدرك أن مسيرة التقدم الحضاري الحديث كانت مرتبطة ارتباطا جدليا في كل حقبة وعصر بتقدم شروط الحرية، أي بنجاح المجتمعات في انتزاع وتكريس المزيد من المبادرة والاستقلالية الفكرية والسياسية الفردية والجماعية، أي كانت تتقدم مواكبة لعملية بناء الإنسان والحقيقة الإنسانية، وبالعكس إن جميع المكاسب والإنجازات المادية والتقنية والعلمية مهما بلغت عظمتها ودرجة تراكمها لا تستطيع أن تقاوم طويلا انحطاط الإنسان وانهيار قيمه المدنية والسياسية.