تجديد الأمل في التغيير

2003-08-13:: الاتحاد


منذ انهيار النظم الشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية إثر أزمة عام 1989 بدأ سؤال التغيير يطرح نفسه بإلحاح على الرأي العام العربي· وراهنية التغيير في السياسات العالمية التي عبر عنها بعض المفكرين الغربيين من خلال نظريات نهاية التاريخ أو انتصار الليبرالية أو حرب الحضارات وتصادم الثقافات لم تفت على الرأي العام في البلدان النامية الفقيرة التي عانت لعقود طويلة من النظم التسلطية ولو أنها اتخذت أشكالا أخرى أقل ادعاء واحتفاء بانتصار الليبرالية أو تصاعد مركز الغرب· فلم يؤخذ الرأي العام في هذا العالم الفقير بما كانت تردده الدعايات الغربية ولا بالآمال الكاذبة التي كانت تطلقها نظريات المفكرين الأيديولوجيين الجدد ولكنه أدرك ببساطة أن النظم التسلطية التي خضع لها قد استنفدت أغراضها ولم تعد قادرة على البقاء·
ومع ذلك، وعلى رغم أنها شهدت أيضا تحولات لا مثيل لها نقلت أكثر من مئة وعشرين بلدا من الشمولية أو ما شابهها إلى نظم تعددية، خيبت السنوات القليلة التي أعقبت سقوط جدار برلين وزوال الحرب الباردة آمال شعوب ومجتمعات عديدة وفي مقدمتها المجتمعات العربية التي استمرت تعيش على المنوال نفسه وتخضع للنظم الشمولية أو شبه الشمولية البيروقراطية والأبوية نفسها· بل أكثر من ذلك، لم تزد الضربة القوية والموجعة التي وجهها التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 من الأثر الذي أحدثه انهيار النظم الشيوعية على سلوك النخب العربية الحاكمة على رغم ما مثلته بالعمق من تقويض لأحد أهم النظم التسلطية العربية وأكثرها قسوة وعنفا· فقد نجح النظام العربي، محليا وإقليميا، في احتوائها وتجاوز الصدمة سواء أكان ذلك من خلال الاصطفاف وراء التحالف الدولي او من خلال تعزيز نظم القمع الداخلية وتحصينها ضد أية أصوات معارضة سياسية واجتماعية· وقد أعطى الحصار الطويل الذي خضع له العراق لأكثر من احد عشر عاما شعورا عميقا بوقف التنفيذ واعتقدت النظم العربية أنها نجحت بالفعل من خلال اصطفافها وراء قوات التحالف الدولي في عبور الأزمة ولم تعد هناك حاجة للقيام بأي إصلاح أو تغيير· فكما انتهت غالبية الرأي العام العربي الذي وضع أمام الاختيار المر بين الاستعمار والاستبداد إلى اليأس من إمكانية تحقيق أي تغيير لم يعد يبدو أن لمطلب التغيير الداخلي، حتى لو وجد، من حافز أو ضامن خارجي·
لكن الأمر قد تغير تماما بعد حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق في أبريل ·2003 فقد أعاد سقوط النظام العراقي، على رغم كل ما رافقه من ظروف مثيرة للاحتجاج والاستغراب لدى الرأي العام العربي، سؤال التغيير إلى مكانه الأول، بل جعل منه السؤال الوحيد المطروح اليوم في العالم العربي بأكمله· ففي معظم البلاد العربية لا يوجد لدى الرأي العام العربي اليوم سؤال آخر سوى ذلك المتعلق بالتغيير· ولا أكاد أمر بعاصمة عربية أو ألتقي عربا، مسؤولين كانوا أم أفرادا من المجتمع المدني من دون أن يكون موضوع الحديث هذا التغيير: التغيير الديمقراطي في العديد من البلاد العربية الرئيسية والتغيير في فلسطين والتغيير في العراق نفسه الذي عاش أكثر من أي بلد عربي آخر زلزال التغيير العربي المؤجل ولا يزال يعاني من آثاره في حياته اليومية احتلالا أجنبيا وانحلالا للدولة وغيابا للقانون وانفلاتا للعنف الأعمى وتدهورا خطيرا في شروط معيشة شعبه وتفكك عرى مجتمعه·
لا ينطلق السؤال أو بالأحرى هم التغيير هذا عند الرأي العام العربي من أي وهم أو تصور خاطئ لدور التحالف الغربي أو لما تعلنه واشنطن من رغبة في دعم التحول السياسي أو الاقتصادي في البلاد العربية· بل ليس من المبالغة القول إن الولايات المتحدة قد فقدت في الأشهر الأربعة لاحتلال العراق كل ما كان من الممكن لها أن تحصل عليه من ثقة أو توقع ايجابي عند الرأي العام العربي· فهي تبدو اليوم أكثر من أي حقبة سابقة دولة استعمارية لا تبحث إلا عن مصالحها الخاصة ولا يهمها مصير الشعب العراقي ولا مصير دولته بقدر ما يوجهها البحث عن السيطرة الإقليمية والعالمية ووضع اليد على الموارد الدولية بصرف النظر عن الثمن الانساني الذي يمكن أن يكلفه تحقيق مثل هذه الأهداف·
إن الاهتمام الشامل الذي يبدو اليوم على الرأي العام العربي بمسألة التغيير نابع من الشعور العميق المتنامي لدى الصغير والكبير بأن النظام المجتمعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في كل بلد وفي المنطقة ككل، معطل تماما وأنه لم يعد قادرا على ضمان أية مصلحة وطنية أو فردية باستثناء مصالح فئة ضئيلة جدا من الذين نجحوا في إخضاع موارد البلاد ومجتمعاتها معا لتحقيق سيطرتهم الخاصة وحدها· وهذا يعني أن هناك شعورا متزايدا لدى الشعوب بأن مصيرها قد أصبح معلقا في الفراغ· ويزيد هذا الوضع من حالة القلق وانعدام الأمن والخوف من المستقبل لدى قطاعات متزايدة من الجمهور الفاقد لأي أمل· ويساهم مصير العراق كما تساهم الأخبار المأساوية التي ترافق حقبة ما بعد صدام البعثية في تعزيز هذا الشعور بالقلق والخوف وتجعل الرأي العام حساسا بصورة استثنائية لكل ما له علاقة بالتغيير ومستهلكا نهما لكلماته وشاراته ورموزه·
لكن ليس من الصعب على أي مراقب سياسي ألا يلاحظ أن هذا التعلق المصيري بالتغيير لا يزال يفتقر إلى أي مسعى عملي وايجابي من قبل الجمهور في اتجاه التغيير· فباستثناء بعض الهبات المؤقتة التي تأتي كرد فعل على الأحداث الجسام، لا تزال السمة الغالبة على الجمهور العربي هي السلبية والانسحاب من العمل العام· فالجمهور الذي خدع باستمرار ولدغ أكثر من مرة ومن أكثر من جحر واحد لم يفقد الثقة بالنخب الحاكمة فحسب ولكنه فقد الثقة أكثر من ذلك بالدول الكبرى، وفي طليعتها الدول الأوروبية والأميركية التي أظهرت في العقود الماضية استخفافا كبيرا بوعيه وامتهنت كرامته وأذلته في أكثر من مناسبة أو مكان·
وكأي مراقب أو محلل سياسي، لا يمكن عدم الاعتراف لهذا الرأي العام بحقه في القلق والخوف والشك· فلا يزال السؤال الذي طرح من قبل يفرض نفسه اليوم أيضا على العالم السياسي كما هو الحال على الرجل العادي، أعني: هل سيكون بوسع النخب الحاكمة أن تحتوي مسألة التغيير التي أعيد طرحها على جدول أعمال العالم العربي للمرة الثالثة على الأقل خلال العقدين الماضيين أم أن الأوضاع الجديدة الوطنية والإقليمية والدولية تمنع الآن مثل هذا الاحتواء وتضغط بالأحرى في اتجاه حصول تغيير فعلي وجدي، سواء أكان هذا التغيير جذريا أو محدودا؟ باختصار هل أصبح التغيير اليوم حتميا بالفعل أم أنه لا تزال هناك لدى الطرفين الرئيسيين المسؤولين عن تركيب السلطة وإحكامها وممارستها في البلاد العربية، أعني النخب الاجتماعية والتكتل الغربي الأوروبي الأميركي، فرصة للتفاهم والوصول إلى تسوية تضمن للتكتل الغربي مصالحه في السيطرة على المنطقة ذات الأهمية النفطية والاستراتيجية والسياسية الخاصة وتسمح للنخب الحاكمة، ولو لقاء بعض التغييرات الشكلية في أسلوب حكمها ووسائل قهرها، في البقاء والاستمرار؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى جواب وهو ما سنحاول الاجابة عليه في مقال لاحق·