انهيار الثقة بالادارة الامريكية لا يعفي العرب من المسؤولية

2002-06:: الجزيرة نت

كما حصل بعد حرب الخليج الثانية.ينتظر العرب الآن الاقتراحات الامريكية بشأن الجولة الجديدة المقبلة لمحادثات السلام. وما تسرب عبر الصحافة من الأفكار الأمريكية الجديدة يبدو محبطا بجميع المقاييس بالمقارنة مع ما كان العرب يتوقعونه منذ إعلان الرئيس بوش عن اعتراف واشنطن بضرورة إقامة دولة فلسطينية على أثر بناء التحالف الدولي الجديد ضد الارهاب. ومرة أخرى يكتشف العرب, رأيا عاما وحكومات, بعد الأوان, خيبة الأمل بالوعود الدولية المقطوعة. فليس هناك شك أن الدول العربية التي قبلت الانخراط في الحرب الجديدة والتعاون من دون حدود مع الاستخبارات الأمريكية للمساعدة على مواجهة القوى المتهمة بالارهاب قد اعتقدت بقوة في ذلك الوقت, وربما لا يزال فيها من يعتقد حقا, بأن الادارة اليمينية الأمريكية تجد نفسها مضطرة, كي لا تضر بمصالحها الحيوية في الشرق الاوسط, الى تقديم مبادرة جدية وريما السعي لاقامة دولة فلسطينية حقيقية هذه المرة, كما عاد الرئيس بوش نفسه فذكر بذلك في ذروة الهجوم الاسرائيلي على جنين والضفة الغربية عامة. وكان العرب قد اعتقدوا خطأ, منذ ما يقارب العقد من الزمان, بأن وقوف العالم العربي مع قوى التحالف الدولي لضرب العراق ومشاركتها في اضفاء المشروعية على تدمير البنى التحتية العسكرية والمدنية العراقية تماما كما تفعل اسرائيل اليوم في الاراضي الفلسطينية سوف يكافأ من قبل الولايات المتحدة بالسعي الجدي لانهاء النزاع العربي الاسرائيلي واقامة الدولة الفلسطينية. ودخل العرب مؤتمر السلام في مدريد ثم وقع الفلسطينيون على اتفاق مباديء اوسلو انطلاقا من قناعة ثابتة بأن الولايات المتحدة تسعى جديا لتحقيق تسوية عادلة في الشرق الاوسط وهو الذي جعل منها الراعية الرئيسية لعملية السلام. ولم يكن الهدف من تلك المفاوضات مختلفا عن الهدف الراهن ولا المرجعية وهمية. فلا يعني مبدأ الانسحاب من الأرض مقابل السلام على أساس قرارات الأمم المتحدة 242 و 358 شيئا آخر سوى إقامة الدولة الفلسطينية التي كان يمثلها وجود الوفد الفلسطيني المفاوض في المؤتمر جنبا الى جنب مع الأطراف الأخرى منذ الأشهر الأولى للمفاوضات.
لكن حتى بعد ما عاينه العرب من تعثر الجهود الأمريكية من أجل السلام بالرغم من دعمهم الحرب الأمريكية الدولية ضد العراق عاد العرب وتبنوا جميعا اطروحات واشنطن حول ضرورة العمل المشترك في التحالف الدولي ضد الارهاب على اثر عمليات 11 سبتمبر وسلموا للسلطات الامريكية العديد من الملفات التي تخص مواطنين تابعين لهم وقام بعضهم بضرب الحركات التي تعتبرها الولايات المتحدة ارهابية بمشاركة خبراء وعسكريين ورجال امن امريكيين وكلهم ثقة بأن الولايات المتحدة لن تخيب هذه المرة ظنهم خاصة وأن الرئيس الامريكي نفسه قد اعلن ضرورة قيام دولة فلسطينية. بل لقد كاد العرب يعتقدون, في الأشهر القليلة الماضية بان مجرد قدوم كاتب الدولة الامريكي للشؤون الخارجية الى المنطقة سيكون كافيا لوضع حد للعدوان الاسرائيلي وفرض الانسحاب على تل أبيب وخلق شروط جديدة تمهد لافتتاح جولة المفاوضات السياسية التي يمكنها وحدها ان تخرج الوضع من حالته الماساوية. وفي جميع الحالات لم تخطء الادارة الامريكية في تخييب امال العرب والعودة السريعة ان لم يكن في اليوم نفسه عن المواقف المعلنة او تبني مواقف اسرائيل عمليا واحيانا الدفاع الصريح عنها. فقد بقي الجيش الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية يدمر المنازل ويعتقل آلاف الشباب ويقتل المناضلين والأبرياء معا يوميا بالعشرات ولا يزال يتابع ممارساته اللاإنسانية هذه منذ أشهر عديدة من دون أن يصدر عن الادارة الأمريكية أي رد فعل يردع اسرائيل عن استمرارها في شن الغارات اليومية أو يبرر للعرب على الأقل السبب الذي يجعل من المستحيل عليها تبني موقف حازم من هذه الغارات اللإانسانية.
واليوم لم يختلف الوضع كثيرا وربما لن يختلف ابدا. صحيح ان ضغوط الدول العربية وعلى رأسها هذه المرة العربية السعودية قد حركت الافكار الامريكية وفرضت على واشنطن الخروج عن صمتها وتأييدها الفاضح لسياسة العدوان الاسرائيلية وإرسال مبعوثيها الى المنطقة لسماع مسؤوليها والتعرف على مواقفهم الجديدة وآرائهم. وصحيح ان شارون الذي اعتبره الرئيس الأمريكي في ذروة هجومه على الاراضي الفلسطينية رجل سلام قد أصبح أكثر حرصا على مراعاة التقاليد الدبلوماسية في تعامله مع الأمريكيين وعلى إظهار رغبة أوضح في التعاون مع واشنطن لامتصاص النقمة العربية الشعبية والرسمية. لكن من الصحيح ايضا ان الولايات المتحدة لم تقم بأي بادرة قوية تبرهن على انها ستكون جادة هذه المرة اكثر من المرات الماضية او انها ستتمسك بالتزاماتها بشكل اكبر من السابق مما يسمح بإعادة بناء ثقة العرب المفقودة كليا بها. ومن الممكن تماما ان لا يكون التغيير البسيط الذي طرأ على الموقف الامريكي إلا مجرد عملية ارضاء بسيطة للدول العربية الصديقة وأن لا تكون هناك أي نية حقيقية في الانتقال به من نطاق الاقوال الى نطاق الافعال.
لقد كان من الصعب بالتأكيد على الادارة الامريكية ان تقنع الزعماء العرب ان رفض شارون الانصياع لقرارات الامم المتحدة وللنداءات المتعددة التي وجهها له الرئيس بوش وبعض المسؤولين الامريكيين الاخرين قد حصل ولا يزال ضد الارادة الامريكية وفي تحد سافر لها. كما كان من الصعب ان يظهر الرئيس الامريكي عدم اكتراث كلي بقضية الشرق الاوسط امام ضيوفه العرب ولا يسعى بشكل او اخر إلى طمأنتهم واظهار القبول بجزء من افكارهم ومقترحاتهم. وقد سهل عليه الامر ان الحكومة الاسرائيلية قد بدأت هي نفسها بعض الانسحابات الشكلية التي لم تكن في غنى عنها منذ اللحظة التي حققت فيها اهدافها الرئيسية في المدن والقرى التي احتلتها, اعني تدمير البني التحيتية للمجتمع الفلسطيني للقضاء على اكبر عدد ممكن من رجال المقاومة واطرها واعتقال الالاف من الشباب الذين يشكلون احتياطي الانتفاضة ودرعها.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحا والذي ينبغي ان نطرحه على انفسنا في هذه المرحلة الدقيقة هو التالي: ماالذي يجبر الادارة الامريكية بعد هدوء الأوضاع النسبي أو تراجع وتيرة العمليات الفدائية من العودة الى المواقف ذاتها التي عرفت بها منذ اكثر من عقد من عمر عملية المفاوضات؟ وما ذا سيكون بوسع العرب ان يفعلوا اذا لم تصدق واشنطن للمرة الالف بوعدها ولم تحترم التزاماتها؟ بل ماذا كان بامكانهم ان يفعلوا عندما وضع الرئيس الامريكي المقاومة الفلسطينية او أكثر فصائلها على قائمة المنظمات الارهابية واطلق يد شارون للقضاء عليها في الوقت الذي كان الزعماء العرب لا يكفون عن ترداد تمسكهم بالتمييز بين الارهاب والمقاومة الوطنية؟ وماذا اثر هذا الترداد على سياسة بوش او شارون في مواجهتهما للمقاومة ومعاملتها بالفعل كحركة ارهابية وفرض التراجع عليها من هذا المنطلق كشرط لدخول أي مفاوضات سياسية؟
بالعكس من ذلك, يكاد كل محلل سياسي جدي يجزم بأن واشنطن ستخل بالتزاماتها, هذا اذا كانت قد اخذت على نفسها بالفعل بعض الالتزامات ولم تبعنا كلاما لتطييب خاطرنا وتساعدنا على لعق جراحنا الفاغرة التي خلفتها الحرب الشارونية. وسبب هذا الجزم هو الاعتقاد بأنه لا يمكن بناء سياسة وبالاحرى استراتيجيِة جدية في حالة مثل حالة الصراع المصيري الذي نخوضه وتخوضه اسرائيل ايضا من خلال المباحثات والوعود والكلمات الودية المتبادلة. فحتى لو اقتنع الرئيس الامريكي وبعض حاشيته بوجهة النظر العربية او ببعض منها وهذا بعيد جدا من ان يكون قد تحقق, فإنه سرعان ما سيبدل رأيه ويعود عن هذه الافكار منذ اللحظة التي يغيب فيها الزعماء العرب عن البيت الابيض ليحل محلهم عناصر اللوبي الصهيوني ومعه العديد من مراكز الضغط الامريكية المعادية للعرب او الممالئة لاسرائيل. فالسياسة لا تقوم على القناعات ولا على المباديء السامية ولكنها تخضع لتحولات علاقات القوة وحدها. وما لم يكن الطرف الذي يطالب بتغيير السياسات قادرا على دعم مطالبته بما يجعلها اجبارية او بما يجعل من الصعب التجاوز عنها من دون كلفة او دفع ثمن كبير لهذا التجاوز فلن يكون لدى الخصم أي مصلحة في الاندفاع بنفسه لاحداث التغيير. وقد اظهرت التجارب العربية مع الادارة الامريكية في العقود الاخيرة, بصرف النظر عن الرئيس المنتخب, جمهوريا كان أم ديمقراطيا, متدينا أم أقل تدينا, الى أي حد لا يمكن الثقة بالمواقف الامريكية التي تزداد تطابقا مع المواقف الاسرائيلية بمرور الوقت.
وسبب امتناع الحكومات الامريكية عن العمل على قاعدة الحد الادنى من العدالة بل الاعتدال هو ان هناك ثمنا في السياسة لكل قرار. واتخاذ قرار في صالح العرب يعني لا محالة دفع ثمنه باهظا امام القوة الصهيونية او المؤيدة لاسرائيل. وما لم يكن الثمن الذي يدفعه الرئيس بوش للعرب بتنكره لمصالحهم وحقوقهم اكبر من ذاك الذي يدفعه للمؤيدين لاسرائيل في الكونغرس وغيره من الهيئات الرسمية والمدنية الامريكية فسيكون من غير مصلحة الرئيس الامريكي السياسية ان يعدل من موقفه الراهن. فالرؤساء, خاصة الصغار منهم, لا ينطلقون في مواقفهم من منطلقات مبدئية ولا يعملون حتى من منطلق المصلحة الوطنية العليا والمستقبلية بقدر ما يخضعون في قراراتهم لحسابات سياسية صغيرة واحيانا انتخابية محضة. ومن الصعب ان ننتظر من الرئيس الامريكي أن يتخذ قرارات تضعف من مركزه وقوته السياسية الداخلية في الوقت الذي لا تظهر فيه أي قوة تهديد او ازعاج لادارته في الجانب العربي.
وقد أشاع العرب بسلوكهم الماضي انهم لا يستطيعون عمل شيء ضد الرئيس الامريكي في الاوضاع الراهنة حتى لو تشدد بشكل اكبر وتبنى مواقف اسرائيل بينما يستطيع الاسرائيليون الذين يملكون ورقة الدعم اللامشروط لهم في الكونغرس والتأييد الشعبي الواسع لهم لدى الرأي العام الامريكي معاقبته مباشرة وخلق العديد من المشاكل أمام ادارته. فالسياسة في النهاية حسابات للمصالح والمخاطر. ومن مصلحة الرئيس الامريكي ممالأة اسرائيل لكسب الدعم وتحييد اللوبي الصهيوني اكثر من ارضاء الصديق العربي, خاصة اذا عرف ان هذا الصديق لا يملك في مواجهته أو لا يريد ان يستخدم ضده أي وسيلة من وسائل الضغط والتهديد. أما التهديد العربي الدائم بان عدم تحرك الولايات المتحدة يمكن ان يؤثر على استقرار الانظمة المعتدلة المؤيدة للولايات المتحدة في المنطقة او الحامية لاسرائيل فلا يمكن ان يشكل مصدر ضغط بأي حال بقدر ما هو التجسيد الافصح للعجز وغياب الضغوط العربية. ولذلك يردد الامريكيون باستمرار انه لا يوجد خطر كبير على بقاء هذه الانظمة, بل ان بعضهم يعتقد ان زعزعة استقرارها سوف يجعلها اكثر خنوعا للارادة الامريكية وتبعية لها.
والقصد ان السياسة هي, في المقام الأول, ثمرة تغيير في موازين القوى وتوازن القوى لا ثمرة الاقناع والقانون والاخلاق. وما لم ننجح في وضع خطة لتغيير موازين القوة بحيث تتردد الولايات المتحدة قليلا قبل أن تفكر في تأييد الخطط الاسرائيلية والاستسلام لها ولقواها الضاغطة فلا ينبغي ان نعتقد بأننا ضمنا شيئا على الاطلاق. وليس هناك محلل استراتيجي واحد يعتقد بالفعل أن المظاهرات والاعتراضات والاحتجاجات العربية الشعبية والرسمية قد غيرت ميزان القوة هذا خاصة معا ما برز للعلن في هذه المناسبة من انقسام الموقف العربي بين ال الرأي العام الشعبي والحكومات وفيما بين الحكومات العربي نفسها.
ان التحيز الامريكي المطلق والمهين لاسرائيل لا يعكس بالضرورة قناعات امريكية عقائدية او أخلاقية بقدر ما يترجم ميزان قوى سياسي داخل الساحة الامريكية والشرق اوسطية معا. وما لم نرفق نقدنا لتحيز واشنطن بتنمية قوى مادية ومعنوية تشير إلى احتمال تغير الوضع الاستراتيجي في المستقبل فسوف نظل نتخبط في المعادلة المؤلمة ذاتها: يبيعوننا كلاما ونبيعهم افعالا. هم يستولون على الارض ونحن نربح الوعود بالسلا. ومن المستحيل أن تكون الصداقة العربية الامريكية, في حال وجودها بالفعل وامكانية التحدث عنها, بديلا لاستراتيجية قوة عربية حقيقية تحث واشنطن وتل أبيب أ]ضا على تبني خيار العمل الجدي من أجل السلام. هذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجه المجموعة العربية المنشغلة بمسألة السلام والمراهنة على الولايات المتحدة وصدق نياتها من أجل الوصول اليه.
بالتأكيد لقد تحدث العرب منذ عقود عن ضرورة إنشاء لوبي عربي في واشنطن لتعديل كفة السياسة الأمريكية الشرق أوسطية. بيد أن تكوين مركز ضغط يستطيع التأثير بالفعل في المؤسسات السياسية الأمريكية المختلفة وفي الرأي العام لا يمكن أن يحصل بقرار. وهو يحتاج أكثر من ذلك لحضور عربي قوي في مؤسسات اتخاذ القرار الأمريكي. وهو شيء لم يصبح متوفرا للعرب بعد. هذا لا يعني أن نتخلى عن الفكرة أو نشيح بالنظر عنها
لكنه يهدف الى الابتعاد عن الأفكار الرغبوية والتركيز على أهمية بلورة ردود عملية وواقعية يمكن تطبيقها اليوم على الواقع لا انتظار ثمراتها بعد عقود. وليس هناك في نظري ما يمكن ان يفعله العرب سوى المراهنة على قوة الضغط الذي يمثلها اتحادهم وتعاونهم الفعلي. إن الرد على الاستهانة الأمريكية بالعرب ومصالحهم ومصيرهم لا تكون بالمبالغة في تقديم التنازلات لواشنطن والخنوع لها ولا في استفزازها المجاني أيضا, بالتأكيد. ولكن في التوجه الحقيقي نحو ما يجعل من الصعب لأحد الاستخفاف بهم والاستهتار بمصيرهم, وهو ما يستدعي تحويل العرب المقسمين والمشتتين والتابعين والمتنابذين الى قوة فعلية على الأرض ولاعب سياسي وجيوسياسي دولي. ولا أعتقد أن هناك إطارا يمكن أن يعزز من مكانة العرب ويزيد من احترام الدول الأخرى والرأي العام العالمي لهم غير السعي بصمت وأناة ومن دون إثارة أحد في فتح حساب مشترك أو بناء رصيد جديد يختلف عن رصيد كل دولة على حدة ويشكل استثمارا مشتركا للجميع. إن بناء هذا الرصيد أو الحساب العربي المشترك والتشبث به والمراكمة فيه أكثر فأكثر كلما تعرض العرب للضغط أو للتحدي الخارجي أو حتى الداخلي وكرد على هذا التحدي ينبغي أن يكون وسيلتنا الرئيسية للرد والدفاع عن مصالحنا ودفع الآخرين إلى الاعتراف بهذه المصالح واحترامها. وهذا هو مصدر القوة الوحيد الذي يستطيع أن يعوض العرب عن القوة التي تمثلها العمليات الاستشهادية والتي تثير حفيظة العالم وتجر المزيد من الضغوط على الدول العربية في الوقت الذي لا يوجد بديل لها في تحقيق الحد الأدنى من توازن القوة في المنطقة والعالم.