المبادرة السياسية مظلة المقاومة الوطنية 

2001-03:: الوطن

عندما أغلقت الحكومة الاسرائيلية باب مفاوضات التسوية السياسية الذي فتحه مؤتمر مدريد للسلام منذ أكثر من عشر سنوات كانت تعتقد أنها تستطيع بذلك أن تضغط على الشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية لتكرههما على قبول التنازلات الكبيرة التي تريد منهم أن يتقدموا بها مقابل الاعتراف بما يشبه الكيان السياسي الفلسطيني المستقل، وهذه التنازلات ليست شيئا آخر غير القدس ووقف المستوطنات وعودة اللاجئين. وكان الرد الفلسطيني على ذلك هو انتفاضة جديدة بدأت منذ ما يقارب السنتين للتعبير عن تأييد الشعب الفلسطيني برمته لموقف قيادته الرافض للمساومة على المقدسات والسيادة وحقوق الأفراد اللاجئين التي لا يمكن لأحد ولا يحق له أن يسقطها عنهم أو بدلا منهم، واستعداده للمقاومة مهما كلفته من تضحيات إلى أن تقبل سلطات الاحتلال الاعتراف بالطابع غير الشرعي لاحتلالها وتوافق على المطالب الفلسطينية، التي هي مطالب الحد الأدنى بالمقارنة مع ما يعنيه الاعتراف باسرائيل والقبول بانتزاع الاسرائيليين القسم الأكبر من فلسطين لإقامة دولة غريبة وجديدة عليه.

ومنذ ذلك الوقت كان من الواضح آن المواجهة دخلت هذه المرة في منطق الحسم. فعليها يتوقف مضمون المفاوضات التي ستبدأ يوما ما لوقف النزاع. فإما أن تكون مفاوضات تكريس هزيمة الاحتلال الاسرائيلي ومشاريعه الاستيطانية وبالتالي تأكيد الحقوق الوطنية الدنيا للشعب الفلسطيني وإقامة دولة مستقلة على الضفة وغزة مع القدس كعاصمة لها، وإما أن تكون مفاوضات تفرض فيها اسرائيل شروطها على عيش الفلسطينيين داخل أراض سوف تصبح أراضيها وبالتالي معاملتهم الفلسطينيين كجالية أجنبية في وطنهم. وقد أدرك الشعب الفلسطيني منذ بداية الانتفاضة أن نتائج المواجهة العنيفة الراهنة ستقرر مصيره : إما الحياة في دولة مستقلة فعلا مرتبطة بمحيطها العربي كجزء لا يتجزأ منه أو الموت في معازل عنصرية ونظام تمييز اسرائيلي يتيح للفلسطيني الحياة بقدر ما يقبل أن يتحول إلى أجنبي وخادم على أرضه. ومن هنا فهو يدرك أن التراجع أمام العدوان الاسرائيلي الراهن يعني الخسارة الأكيدة للرهان بأكمله. وهكذا رمى بنفسه كلية في المعركة وأعد نفسه لحرب طويلة. وقد تطول كثيرا بالفعل قبل أن يدرك الرأي العام الاسرائيلي الطريق المسدودة التي وضع نفسه فيها عندما راهن على القوة العسكرية وحدها ورفض التفاوض على أسس قانونية ومنطقية. بيد أن ملامح هذا التراجع في موقف الرأي العام الاسرائيلي واكتشاف المأزق الذي قادت إليه سياسة القوة التي مثلها رئيس الوزراء شارون قد بدأت بالفعل مع تصاعد أصوات المعارضة للحرب في اسرائيل نفسها واستعادة بعض قطاعات السلام الاسرائيلية انفاسها ونزول بعضها إلى الشارع للتعبير عن رأيها. كما زاد إدراك الرأي العام العالمي، الأوروبي والأمريكي خاصة، الذي وقف متفرجا ومنتظرا نتائج المواجهة حتى وقت قريب، بخطورة التدهور الحاصل في الأوضاع في فلسطين على المنطقة بأسرها.

وهكذا جاءت مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبد الله في وقت بدا فيه وكأن جميع الأطراف أدركت طريق المواجهة المسدودة وحتمية العودة إلى طريق المفاوضات. وهذا يفسر الصدى الكبير الذي لاقته والتأييد الذي حصلت عليه من جميع الأطراف المعنية، بما فيها الفلسطينيون الذين  وجدوا فيها عودة العالم العربي الرسمي الذي بدا ساهما خلال الأشهر الماضية وبعيدا بهمومه عن معركة فلسطين للانخراط مجددا في الصراع، ولو في الشق السياسي منه. لكن المبادرة السعودية لم تثر حماسا وتأييدا عند الكثير من الأطراف فحسب ولكنها آثارت أيضا بعض الشكوك والاعتراضات خارج الصف العربي وداخله أيضا. وقد أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي رسميا رفضه المبادرة وقال في الكلمة ذاتها التي عبر فيها عن هذا الرفض أنه لن يبدأ المفاوضات إلا بعد تكبيد الفلسطينيين خسائر بشرية جسيمة وعندما يأتون إليه زاحفين يطلبون السلام. لقد كشف شارون في كلمته هذه في الرابع من مارس آذار أن هدف الحرب التي يشتها منذ أكثر من عام هو فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني لا أكثر ولا أقل. أما الولايات المتحدة فقد أعلنت تأييدها على مضض لأنها في اعتقادي لم تقتنع بعد بضرورة التدخل من جديد وتريد أن تعطي لليمين الاسرائيلي المتطرف أقصى ما يمكن من الفرص ليحقق أهدافه. فإن لم يستطع ذلك تكون في موقف أقوى لفرض وجهة نظرها الخاصة على العرب والاسرائيليين معا في المستقبل، وإلا فتكون اسرائيل قد حلت أمورها بنفسها.

أما داخل الصف العربي، فبالرغم من شبه الاجماع الذي نالته، وجعل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى يطالب بتحويلها إلى مبادرة عربية، ظهرت بعض التحفظات هنا وهناك لأسباب متعددة لكنها ليست حاسمة. فالقيادة الليبية أرادت أن تكون هي نفسها في مقدمة الصورة فيما امتعضت مصر من أن تبدو خارج الصورة أما سورية التي ترددت في التعبير عن موقفها خشية أن ينتقل الاهتمام إلى المسألة الفلسطينية وتبقى قضية الجولان ثانوية فقد غيرت رأيها كما يبدو بعد اطمأنت إلى أن العرض السعودي لا يختلف في مضمونه عن ذاك الذي قبلت به من قبل في إطار مؤتمر مدريد والذي قامت عليه مفاوضات السلام، أعني الانسحاب من الأرض العربية في حدود الرابع من حزيران مقابل الاعتراف والتطبيع الكاملين أيضا للعلاقات العربية الاسرائيلية.

لكن، فيما وراء المواقف العربية الرسمية، لا بد من الاشارة إلى الرأي العام العربي الواسع الذي فقد الثقة تماما بالقيادات الاسرائيلية بسبب مناوراتها العديدة وعدم التزامها حتى بالاتفاقات التي وقعتها، وبالتالي فقد أصبح ينظر بعين الشك إلى أي مبادرة سياسية عربية سلمية ويعتبرها نوعا من التغطية على موقف الضعف والعجز العربي لا غير. فهو يريد تأييدا أكبر وأوضح لمقاومة الشعب الفلسطيني التي يراهن عليها لتغيير الموقف الاسرائيلي. وهو يدرك أن عشر سنين من المفاوضات السياسية لم توصل إلى أي نتيجة. وعلى هذا التشكيك العربي الشعبي بجدوى المفاوضات ذاتها، على أي أسس قامت ومهما كانت هذه الأسس عادلة، ينبغي أن يجيب الموقف العربي الرسمي عندما يقوم بهذه المبادرة أو تلك. ولا شك أن رفض  آرييل شارون الرسمي للمبادرة يعزز هذا الشعور عند الرأي العام العربي ويجعله يقتنع بأن جميع مبادرات السلام ليست إلا وسائل لشغل الوقت الضائع، ولا يمكنها المساعدة في تحقيق أهداف عملية حقيقية.

ومع أنه لا ينبغي التقليل من صدق مشاعر الرأي العام لا ينبغي أن نجعل من هذه المشاعر معيار الحساب السياسي الوحيد أو الأول. ولا ينبغي ليأس هذا الرأي العام المبرر من المفاوضات السياسية أن يمنعنا من إدراك أن كل حرب تنتهي لا محالة بمفاوضات سياسية، ولا يمكن أن تنتهي بغيرها. ومن هنا فإن وضع الأرضية والاعداد للمفاوضات، كما تسعى إلى ذلك المبادرة السعودية، يعكس شعور العرب والعديد من الأطراف الأجنبية الأخرى، خاصة الأوروبية بأن وقت المفاوضات قد حان وأن المواجهة الراهنة قد أظهرت حقائق واستنتاجات واضحة ينبغي الاعتراف بها وأن الاستمرار في القتال لن يأتي بنتائج جديدة لأحد تغير من الاستنتاجات. لكن هذه المفاوضات التي تختم أي حرب أو مواجهة لا تعني شيئا آخر سوى قطف ثمار الحرب من قبل الطرف الذي حقق فيها نتائج أفضل. ومن المؤكد أن هناك شعورا قويا لدى العرب والفلسطينيين بأن نتائج المواجهة في الأشهر الماضية قد جاءت لصالحهم لأنها أظهرت أولا استعداد الشعب الفلسطيني اللامحدود للتضحية ورفضه الاستسلام وقدرته على الاستمرار كما أظهرت مأزق السياسة الاسرائيلية القائمة على القوة واستخدام العنف لكسر الارادة الفلسطينية وتحقيق السلام والأمن للشعب الاسرائيلي. بيد أن هذا الشعور لم ينتقل بعد إلى الجانب الاسرائيلي الذي لا يزال يراهن على مزيد من العنف لتحقيق أهدافه ولا يعتقد لذلك أن الوقت قد حان لبدء المفاوضات.

ومن هنا يمكن القول إن شروط بدء أو استعادة مفاوضات التسوية لم تبدأ بعد في فلسطين والمشرق. وربما كان لا يزال من الضروري للحكومات العربية التي تشعر على صواب بأن من الضروري عدم ترك الموقف يتعفن أكثر في فلسطين والخروج بأسرع ما يمكن من المواجهة الراهنة قبل أن يتفجر الوضع كله في الشرق الأوسط، الاستمرار بموازاة بلورة مبادرة عربية انطلاقا من مبادرة الأمير عبدالله، وضع ثقلها كله إلى جانب الانتفاضة حتى تستطيع أن تحسم الحلقة الأخيرة والأعنف من الحرب التي أعلنها شارون منذ يومين حرب فرض الاستسلام والخنوع على الفلسطينييين. فلن تكون هناك مفاوضات ولا سلام ولا أمل في السلام ولا استقرار في البلدان العربية ولا مصداقية لأي بلد عربي إذا ترك العرب آرييل شارون يحقق هدفه ويفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني.

بالتأكيد سينجح العرب في مؤتمر القمة العربية في معالجة التحفظات البسيطة أو الجزئية التي يبديها بعضهم على المبادرة السعودية الراهنة ويتوصلوا إلى صيغة مرضية للجميع تكون الانجاز الرئيسي لهذا المؤتمر. وسيكون من المهم أن يقدم العرب للعالم رؤية متزنة وواقعية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط تعمل كمظلة سياسية للمقاومة الفلسطينية البطولية، وتحرج الحكومة الاسرائيلية التي جعلت من العنف والعدوان سياستها الوحيدة في مواجهة الحقوق الفلسطينية. بيد أن تمكين العرب الشعب الفلسطيني من كسب الجولة الأخيرة والخطيرة من المواجهة الحالية يبقى وحده العامل الذي يحسم المفاوضات ويقرر نجاحها. فمن دون اقتناع الاسرائيليين النهائي بأنه لاحل للقضية الفلسطينية عن طريق الاخضاع والارهاب والعنف لن يقبلوا بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التي ينظرون إليها على أنها تنازلات كبيرة من حسابهم. إن بدء مفاوضات جديدة من دون حصول هذه الاقتناع أو قبله سوف يعيدنا إلى مفاوضات العقد الماضي، أي إلى مواجهة منطق الحانوتي الذي يساوم على كل صغيرة وكبيرة ويطلب لقاء أي تراجع عن موقع احتلال موقع آخر أهم منه، أي الذي يطلب في النهاية مقابل التنازل للفلسطينيين استعباد العرب أجمعين. ومثل هذه المفاوضات لن تكون لا في صالح العرب ولا في صالح الفلسطينيين.

والنتيجة التي نريد أن نصل إليها في مواجهة النقاشات التقليدية التي تبرز في كل مرة تسعى الحكومات العربية إلى بلورة مبادرة سياسية قد تكون جزءا من المناورة الاستراتيجية الضرورية هي أن أسوأ ما يمكن أن يصيب موقف العرب هو وضع المقاومة في مواجهة المبادرة أو العكس.. فالسياسة والحرب ليسا عالمين منفصلين ومستقلين ولكن متكاملين ومتفاعلين. فكما أنه لا يمكن تحقيق مكاسب سياسة من دون تغيير موازين القوة لا يمكن كذلك تحقيق انتصارات عسكرية من دون قدرة على المبادرة السياسية وتقليص هامش مناورة الخصم.