الحملة الأمريكية على المشرق العربي

2002-08-:: الاتحاد

لماذا تستهين الولايات المتحدة بالبلدان العربية؟

لا ينبغي أن يكون المرء محللا استراتيجيا حتى يدرك أن المنطقة العربية المشرقية التي عانت منذ القرن التاسع عشر من التدخلات الغربية المستمرة وعلى جميع المستويات وفي جميع الميادين الاقتصادية والدينية والعسكرية تعود اليوم لتصبح المنطقة الأولى التي يتركز فيها التدخل الاجنبي ويدعي لنفسه حقا شرعيا في ممارسة مثل هذه التدخلات. فبعد محاولات مخفقة لايجاد تسوية للحرب العربية الاسرائيلية تضمن المصالح الاسرائيلية أطلقت الإدارة الأمريكية القائمة يد اسرائيل في إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني وملحقاته اللبنانية والسورية بما يناسبها ويضمن لها الأمن والسلام والتوسع الجغرافي من دون اتفاق. وبعد أن حطمت قوات التحالف الدولي في التسعينات البنيات التحيتة للدولة وللمجتمع العراقيين تعود اليوم إلى مقدمة جدول الأعمال الأمريكية مسألة تغيير النظام العراقي ووضع نظام بديل يكون منسجما أكثر مع المصالح الأمريكية الاسرائيلية. وإذا لم تنجح واشنطن في القضاء على النظام العراقي من الضربة الأولى فسيعني ذلك فتح باب الحرب الأهلية في العراق بين عراق السلطة المركزية وعراق القوى المتحالفة مع الولايات المتحدة وربما توطين هذه الحرب لحقبة طويلة كما كان عليه الحال في فيتنام وكورية أثناء الحرب الباردة. وبعد أن عبرت الإدارة الامريكية أكثر من مرة عن مطالبها في تغيير البرامج التعليمية الدينية بل إغلاق المدارس الدينية ورفع مستوى التعاون الأمني مع المملكة العربية السعودية بعد أحداث الحادي عشر من ايلول تخطو اليوم خطوة متقدمة أخرى بنشرها أو تسريبها محتوى التقرير الذي استمع إليه البنتاغون حول السعودية والتي يصفها بأنها مصدر الشر الأول في المنطقة الشرق أوسطية ويتهمها بالاستمرار في تغذية الارهاب ودعم حركاته ونشاطاته وعدم التعاون الفعال مع واشنطن في هذا المجال. وفي آخر ما صدر عن الإدارة الأمريكية تخصيص مليار دولار لبرنامج تطوير الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط ولا ندري بعد بأي طريقة إذا كانت هذه الإدارة نفسها هي التي هددت الشعب الفلسطيني بأن انتخابه مجددا عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية سوف يدفع الإدارة إلى التحلل من التزاماتها تجاه الدولة الفلسطينية.
وليست العلاقات الأمريكية المصرية أو لم تكن هذه العلاقات أكثر سوءا منها في أي حقبة مثل ما هي اليوم بسبب ما تعتقده الإدارة الأمريكية من أن القاهرة لا تقوم بالدور المناط بها أو المنتظر منها لإقناع السلطة الفلسطينية بالكف عما تسميه الارهاب, أي العمليات الفدائية, وبالقبول بالمساهمة بشكل أكبر في محاربة الارهاب, أي في وقف الانتفاضة والمقاومة الفلسطينييتين وتسليم الامر لحسن نوايا اسرائيل وحكومة شارون الاستعمارية بامتياز.
من يسمع خطابات المسؤولين الامريكيين وكتابات دعاتهم في الصحافة المكتوبة بعتقد أن البلاد العربية تخوض حرب استقلال مع الولايات المتحدة في الوقت الذي لا تكف فيه بلدان المنطقة العربية عن الكشف عن تعاونها الكامل مع واشنطن في جميع الملفات الأمنية وفي مقدمها ملف حرب الإرهاب. لا بل إن أحد تصريحات الخارجية الأمريكية الأخيرة عبر عن امتنانه للتعاون الكبير الذي شهدته الأشهر الماضية مع الأمن السوري والذي ساهم في انقاذ العديد من الأورواح الأمريكية, وهو ما تؤكد عليه كذلك الدبلوماسية السورية. ومع ذلك لم يتوقف الضغط على الحكومات العربية ولا تزال التيارات اليمينية تقدم للكنغرس كل فترة ملفا أو مشروع قانون لمحاسبة هذه الدولة العربية أو عقاب تلك كما حصل مع قانون محاسبة سورية سيء الذكر والذي لا تزال بعض الأوساط الممالئة لاسرائيل في الإدارة الأمريكية تعمل المستحيل للحصول على أغلبية ضرورية لإقراره.
تضع هذه الضغوط الهائلة على الدول العربية الرئيسية الحكومات في حيرة من أمرها وتدفعها إلى الشك بنفسها. فهي لا تستهدف دولا ولا سلطات تعلن عداءها للولايات المتحدة الأمريكية أو تقف عقبة أمام تحقيق أهدافها مهما كانت ولكنها تتوجه لحكومات وسلطات لا تكف عن تأييد ثقتها بالولايات المتحدة ورغبتها في توثيق العلاقات معها ولا تمل من مناشدتها التدخل للمساهمة في حل مشاكل المنطقة وعلى رأسها مشكلة الصراع العربي الاسرائيلي, وهي تضع جميع امكانياتها السياسية والأمنية والمالية في خدمة الاستراتيجية الأمريكية الاقليمية ولا تخفي استعدادها للتعاون بجيمع الوسائل مع واشنطن لحل الخلافات الجزئية أو تجاوزها إذا وجدت بين الطرفين. باختصار ليس بين هذه الدول دولة واحدة تعترض على سياسة الولايات المتحدة أو ترفض الاعتراف لها بالدور الرئيسي والأوحد احيانا في حل شؤون المنطقة ومعالجتها على هواها وبما يلائمها وليس هناك أي حكومة ترفض الاعتراف لها بمصالحها التي تسميها حيوية أو لا تقبل باحترام هذه المصالح ومداراتها.
ماذا تريد الولايات المتحدة الأمريكية إذن من هذه الضغوط المستمرة التي تمارسها على أقرب المقربين إليها من النظم العربية والتي ترفض كل ما يضمن لهذه النظم الاستقرار أو حتى مراعاة ماء وجهها؟ وما الذي يتوجب على النظم العربية عمله حتى تنال رضى واشنطن وتأييدها؟
تنزع التحليلات العربية إلى التركيز على عنصرين لتفسير هذا الوضع المحير والأليم بل المأساوي بالنسبة لأنظمة وضعت أوراقها جميعا تقريبا في سلة الإدارة الأمريكية واعتبرتها هي الحامية الوحيدة والضامنة الرئيسية لها في وجه خصومها أو بعضها البعض وأمام الكتلة الكبيرة الناقمة من والمعترضة من شعوبها وسكانها. العنصر الأول هو خضوع الإدارة الأمريكية أو قسم كبير منها للضغوط والابتزازات الاسرائيلية وتقارب وجهات النظر والتحليلات الاستراتيجية الامريكية الاسرائيلية عموما بشأن المنطقة ومخاطرها ومصيرها. وليس من مصلحة اسرائيل أن تقوم بين البلاد العربية وأعظم قوة عالمية اليوم علاقات قوية ووثيقة تضعف من إمكانية استغلال التحالف الاستراتيجي الامريكي الاسرائيلي إلى أقصى الحدود وتضيق هامش المناورة الاستراتيجية الاسرائيلية. أما العنصر الثاني فهو انتصار التيار المتطرف اليميني الامريكي الذي يحقد على العرب والمسلمين ويؤمن بالحرب الحضارية ولا يرى مانعا من تدعيم اسرائيل باعتبارها الحليف المباشر والأمين له.
هذا التحليل ليس خاطئا تماما في عنصريه ولكنه ناقص فحسب ينبغي استكماله لفهم الموقف الحقيقي ومصدر التوتر الذي تعاني منه العلاقات العربية الامريكية اليوم. ويتعلق بعض هذا النقص في فهم موقف التيار اليميني المتطرف الحاكم في واشنطن اليوم تجاه الشرق الأوسط عموما وموقف النظم العربية الصديقة لأمريكا في الوقت نفسه. فالتلاقي بين السياسة الامريكية وسياسة شارون ليست صدفة ولكنها مرتبطة بالقيم والأهداف والتصورات التي تملي على الإدارة الأمريكية سياستها الدولية واستراتيجياتها الاقليمية في الشرق الأوسط وغيره أيضا.
فليس الشرق الأوسط في نظر الفريق الأمريكي المسيطر على القرار اليوم هدفا في ذاته ولا منطقة صراع ينبغي عليه الاستثمار فيها لكسبها. إنها بالعكس منطقة مكرسة للسيطرة الأمريكية منذ فترة طويلة وأصبحت مكرسة كليا, بل سقطت بنفسها في الفلك الأمريكي باشتراكييها ورأسمالييها بعد زوال الحرب الباردة وواشنطن تعرف أنه ليس فيها من لا يخطب ودها ويتقرب منها ويحلم أن يقيم معها علاقات وثيقة وكلية. فالنخب العربية التي أخفقت في إقامة أنظمة قائمة على أسس المشروعية والقبول الشعبي لا تجد مناصا للبقاء في الحكم ومواجهة المشاكل الداخلية الاقتصادية والسياسية والتقنية من دون شريك قوي خارجي تتقاسم معه المصالح والمنافع ويقدم لها الحماية المادية والكفالة السياسية.
إن ما يثير قلق التيار الأمريكي المتطرف ويشكل تحديا له أو في نظره ليس الشرق الأوسط ولا أمن إسرائيل وإنما ما يعتقد انه المعركة الكبرى لضمان مستقبل أمريكا وتفوقها وقيادتها العالمية في القرن الواحد والعشرين وبالتالي تحسين شروط قدرتها على مواجهة خصومها الحقيقيين القائمين والمحتملين من أوربا إلى الصين مرورا باليابان وروسيا وغيرها. ومن منظور هذا الطموح والاستراتيجية التي يقتضي تطويرها وبلورتها لا يمكن لهذا الفريق أن يرى في الشرق الأوسط تحديا يذكر, بل لا يمكن أن يراه أصلا ولم يكن يريد أن يراه في الواقع إلا باعتباره بعض ممتلكاته التقليدية والطبيعية. ولكنه أخذ ينظر إليه مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية ثم فيما بعد, على أثر أحداث ايلول 2001, على أنه منطقة قلاقل ومصدر اضطرابات تعيق تقدم مسيرة الولايات المتحدة نحو السيطرة العالمية الشاملة كما أصبح يرى في الأنطمة المحلية القريبة من واشنطن حليفا ضعيفا وربما غير مقنع وغير مفيد لا في مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهها المنطقة والتهديدات التي تتعرض لها من قبل أنظمة مثل العراق ولا في ضبط جمهور يجنح أكثر فاكثر إلى التمرد على السلطات والعمل خارج نطاق سيطرتها كما تدل على ذلك المنظمات الاسلامية النشيطة والمتوسعة. ومنذ اللحظة التي ترسخ فيها هذا التفكير في واشنطن اعتقدت الحكومة الأمريكية اليمينية أن النظم والحكومات ليست جديرة تماما بالاعتماد ونزعت إلى أن تأخذ معالجة شؤون المنطقة وحل مشاكلها, كلما رأت أن هناك مشاكل وفي حدود رؤيتها لمثل هذه المشاكل وتقديرها, على عاتقها. ومن هنا أصبح هناك اعتقاد قوي في البيت الأبيض وعند أصحاب هذا التيار اليميني المسيطر عليه أنه لم يعد مطلوب من الحكومات العربية أن تفكر ولا أن تقرر ولا أن تساهم في تكوين الرؤية الخاصة بالمنطقة ولكن أن تطبق فقط ما تطلبه منها الإدارة الامريكية نفسها. وفيما يتعلق بالنزاع العربي الاسرائيلي الذي جعلت منه الدول العربية في نظر واشنطن قميص عثمان تخفي وراءه عجزها وتقاعسها وعدم كفاءتها وفسادها, ليس على العرب إلا قبول الأمر الواقع والتعاون, فيما وراء قضية الفلسطينيين وبصرف النظر عن حلها الذي سيأخذ وقتا طويلا, مع اسرائيل والولايات المتحدة, في سبيل تحسين أوضاعهم الاقتصادية ورفع مستوى معيشة شعوبهم وما عدا ذلك ليس إلا أوهام وطموحات قرسطوية متخلفة ولا أخلاقية. وفيما يتعلق بمسألة التهديدات الناجمة عن انتشار الأفكار الاسلامية التي تشكل مصدر الارهاب في نظر الإدارة الأمريكية الراهنة ينبغي على الحكومات العربية أن تسلم بشكل أكبر زمام الأمور إلى الولايات المتحدة وتأتمر بأوامرها وتضع تحت تصرفها جميع الوسائل والوثائق والامكانيات التي تساعدها على استئصال جذور الارهاب. وبمعنى آخر أن تتخلى في هذا المجال على الأقل عن سيادتها تماما وتفتح جميع ملفاتها بشكل مباشر ومستمر للأمن الأمريكي.