التغيير على الطريقة الامريكية

2003-09-05:: الوطن

 

بالرغم من وجود أسباب معقولة للاعتقاد برغبة الإدارة الأمريكية في إحداث تغييرات إو إصلاحات فعلية في المنطقة إلا أن حظوظ هذا المشروع من النجاح لن تكون أكبر من تلك التي رافقت مشروعات التغيير والتطوير والتحديث العربية. وذلك لأسباب تتعلق بالمجتمعات العربية وأخرى بالسياسات الأمريكية نفسها. فلن ينجح الأمريكيون في التغلب على العقبات التي يواجهها مشروع التغيير العربي الداخلي منذ عقود، وفي مقدمها غياب القوى المنظمة التي يمكن أن يعتمد عليها هذا الاصلاح. وهو ما يعني أيضا غياب رؤية واضحة ومتسقة للاصلاح الشامل تختلف عن تلك الايديولوجيات التقنوقراطية السطحية والسخيفة التي تعتقد أنه يكفي الاسراع بالخصخصة والقضاء على القطاع العام والعودة إلى نظام السوق حتى يتحرر الاقتصاد وتتحرر الدولة والمجتمعات من أعباء وتركات عقود من التدمير المنظم لمؤسسات الدولة ونظم المجتمع معا.  كما يعني غياب نماذج حية وجديدة لتنظيم البشر وتأطيرهم في مناخ تسيطر عليه مشاعر الخوف والشك والحذر واليأس من المستقبل كما يسوده التمزق وانحلال الهويات السياسية وانعدام الرؤية التاريخية. 

لكن نقطة الضعف الرئيسية لمشروع التغيير الأمريكي ناجمة عن تناقضات السياسة الأمريكية الإقليمية ومفارقاتها. وهي تناقضات ومفارقات نابعة من طبيعة تصور الولايات المتحدة لمصالحها الإقليمية وعدم قدرتها على تغيير هذا التصور بما يسمح باستيعاب جزء من مصالح المجتمعات العربية واحترامها. فالحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها النوعي واستيطانها من جهة والسيطرة المباشرة على النفط وما يترتب عليها من تعزيز القواعد العسكرية الأمريكية وتدخلات عسكرية قوية وكثيفة للتحكم بمسار تطور المجتمعات العربية، كما حصل في العراق، يحول واشنطن في نظر العرب، مهما أعلنت عن نواياها الحسنة، إلى عدو مباشر، ولا يترك أي مجال ممكن للتعاون بين القوى الإصلاحية المحلية المعتدلة والضعيفة أصلا والإدارة الأمريكية.  بل إنه يضعف هذه القوى أكثر ويعزلها.

وبالرغم من أن هز العصا الأمريكية في العراق وانطلاقا منه قد غير كثيرا وسوف يغير في أسلوب السيطرة السياسية في المنطقة، إلا أنه لن يقود إلى تحولات دراماتيكية وسريعة. بالتأكيد سوف تتبارى النظم العربية، التي صمت آذانها تماما لنداءات التغيير المنبثقة من قوى المعارضة المحلية منذ عقود، في إطلاق مشاريع التغيير ومبادراته الداخلية والإقليمية، الاقتصادية والسياسية والايديولوجية.  وسوف تجعل من شعار التغيير، الذي رفضته في السابق بوصفه يتعارض مع الاستمرا والاستقرار، عقيدتها الرئيسية بقدر ما ستجعل منه الإدارة الامريكية هدفا وشعارا لسياستها الإقليمية. لكن النتائج لن تكون أفضل من السابق. ولن يكون من الصعب إصلاح النخب الحاكمة الحالية فحسب ولكن أكثر من ذلك وقف التدهور والتقهقر السريع في جميع الأوضاع الاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية للمجتمعات العربية. 

وإذا أردنا تلخيص الموضوع بصورة أبسط سأقول إن الولايات المتحدة، مثلها مثل النظم العربية القائمة، تدرك بالتاكيد الحاجة إلى الاصلاح وتعرف بالتأكيد أن غياب الاصلاح والتغيير سوف يقود إلى كوارث حتمية. لكنها مثلها أيضا لا تريد أن يتحقق هذا الاصلاح على حسابها ولكن على حساب الآخرين، وهي غير مستعدة حتى للتنازل عن جزء من امتيازاتها لتسهيل العملية، انطلاقا من شعورها بأنها الطرف الأقوى وأن الضعيف هو الذي يدفع ثمن التغيير. وهو موقف النخب العربية الحاكمة تماما. فهذه النخب تعتقد أيضا بأنه لا مهرب من التغيير لكنها ترى أن ثمنه ينبغي أن يقع على المواطنين العاديين الذين يستفيدون منه لا عليها هي، بل بالعكس، إن من حقها أن تحصد مقابل تبنيها لمشروع الاصلاح والتغيير امتيازات ومكاسب مادية ومعنوية وسياسية إضافية، أي إطلاق يدها بشكل أكبر في جميع شؤون البلاد الداخلية والخارجية.

 وكما أنني لا أعتقد أن لدى النخب الحاكمة وسائل كثيرة للضغط على الجمهور الواسع لتحميله وحده ثمن الإصلاح، خاصة وأنه لم يعد لديه ما يفقده أصلا ولا ما يمكن أن يتنازل عنه، لا أعتقد أيضا أن لدى واشنطن، إذا استثنينا السلاح، وسائل كثيرة لإكراه النخب الحاكمة على دفع ثمن الاصلاح وحدها. وقد بينت التجربة العراقية حدود ما يمكن أن ينتجه الاستخدام العاري للسلاح والتفوق العسكري. ومن هنا سوف ينتهي شعار الاصلاح والتغيير الأمريكي كما انتهى رديفه العربي الداخلي إلى سياسات انتقائية جزئية تتردد بين التعبير عن الامتعاض والاعتراض على سياسات  بعض النخب والمطالبة بتغييرها أو سحب الاعتماد من هذه النخبة أو تلك وبالتالي تعويمها بحيث يتوجب عليها أن تدافع عن نفسها بنفسها من دون تغطية أمريكية.  وقد يعني أكثر من ذلك تغيير النظام القائم وتحطيم النخبة القيادية الحاكمة واستبدالهما بنظام ونخب جديدة أقل كفاءة من سابقتها، كما هو حال العراق ومن سيأتي بعده في السياق ذاته.  ومن الممكن تلخيص الوضع الراهن ببساطة في أن واشنطن قد أبطلت الاعتماد السابق للنخب العربية، وان على الجميع تقديم أوراق إعتماد جديدة. وسوف تنظر فيه واشنطن وتقرر في ما إذا كان من المفيد قبول إعتماد البعض أو رفض البعض الآخر أو فرض شروط عليه. ويعني هذا أيضا أنه لم يعد هناك ما يستوجب شمل هذه النخبة بالرعاية والحماية، ما لم تثبت من جديد أنها قادرة على تغيير نفسها وسلوكها، والتطابق مع وجهات النظر الأمريكية الجديدة التي بلورتها من مسائل الشرق الأوسط. وبالتالي لم يعد هناك من يملك صكا على بياض من واشنطن للحكم في بلده أو للعمل والتعامل مع غيره في المنطقة.

إنما لا شك في أنه سيكون للصدع العميق الذي أحدثه اجتياح العسكري المدوب للولايات المتحدة للمنطقة أثر كبير على تطور ديناميكيات جديدة في إعادة بناء اللعبة السياسية وأسلوب العمل السياسي أيضا في بعض البلدان العربية. فلا ينبغي أن نتجاهل التغيير الذي يمكن أن يحصل نتيجة وقف العمل بالمبدأ التقليدي الذي كان في أساس فساد الحياة السياسية والإقتصادية في العقود السابقة، أعني إطلاق الولايات المتحدة والغرب عموما يد النخب المحلية في شؤون مجتمعاتها الداخلية ودعمه الضمني والعلني لنمط الحكم التسلطي والاستبدادي باعتباره الصيغة المثلى للاحتفاظ بنفوذه في المنطقة العربية.

فلأول مرة تجد النخب الحاكمة نفسها مضطرة لخوض معركة ثلاثية الأطراف تشكل فيها الولايات المتحدة الطرف الأقوى بعد أن تعودت على خوض معركة ثنائية مضمونة النتائج تماما بالنسبة لها، بسبب احتكارها لوسائل القوة المادية العكسرية والسياسية وسيطرتها على جميع الموارد، في مواجهة شعب مغلوب على امره ويكاد يكون مجردا، رسميا وجماعيا، من حقوقه السياسية والمدنية.  ولن يكون من الممكن أن تستمر النخب الحاكمة في التصرف تجاه مجتمعاتها، كما فعلت حتى الآن بسبب الدعم الخارجي الكبير، بالدرجة نفسها من التسيب وانعدام المسؤولية والاستهتار بأي شكل من أشكال المراقبة أو المساءلة أو تقديم حساب. فسحب الغطاء الأمريكي عنها بما يعنيه من وصاية وحماية ورعاية ودعم في مواجهة شعوبها سوف يجبرها على أن تعود إلى قليل من الرشد السياسي فتترك عقلية البلد المزرعة والإقطاعة العائلية القرسطوية وتفكر قليلا بمعايير ومقاييس السياسة المدنية والعقلية.  وهي ستضطر منذ الآن إلى أن تخضع سلوكها شيئا فشيئا لضوابط قانونية وسياسية وأخلاقية، ستكون بالضرورة شكلية في البداية، لكنها لن تلبث حتى تتحول إلى واقع، مع بناء ثقافة سياسية جديدة وتنامي روح المقاومة المجتمعية عند الجمهور العريض، بعد تحرره من إرهاب وسطوة الدولة التسلطية.  ومهما كان الأمر، لن يكون من الممكن تحقيق أي إصلاح ما لم تقبل النخب الحاكمة القائمة أو الجديدة بالمشاركة في ثمن الإصلاح أو تخرج نهائيا من الساحة.