اسرائيل في الطريق المسدود ، العنف الاسرائيلي لن ينتج الخنوع الفلسطيني

2002-06:: الجزيرة نت

من الواصح لكل من يتابع تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون انه لم يتعلم شيئا مما حصل في السنتين لماضيتين في فلسطين ولم ينس شيئا أيضا من سلوك المستعمرين التقليدي. فبالرغم من كل التفاهمات العربية الامريكية والامريكية الاسرائيلية التي تفترض توقف عمليات التوغل العسكرية في المدن والقرى الفلسطينية والسعي لخلق مناخ يسمح باستعادة المفاوضات السياسية التي تهدف كما عبر عن ذلك الامريكيون والاوربيون والروس والامم المتحدة معا الى اقامة دولة فلسطينية, لا تزال قوات الاحتلال تتصرف بمطلق الحرية في جميع أراضي الضفة الغربية وغزة ولا يزال رئيس الوزراء الاسرائيلي يطلق التصريحات كما لو كان المقرر الاول لمصير الشعب الفلسطيني, هذا إذا اعترف  بأن من يتعامل معه هو شعب اصلا  وأن لهذا الشعب مصير ومصالح وأحلام وآمال وعقائد.  وما إن نجح الوسطاء بايجاد حل للحصار الذي كان الجيش الاسرائيلي قد فرضه على كنيسة المهد وعلى الرئيس عرفات والذي كان يؤجج مشاعر الرأي العام الدولي ويدفع الدبلوماسية المتعددة الاطراف للحركة والنشاط حتى غير شارون من شروطه للدخول في مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين. وبعد ان كان يطالب في سبيل البدء بهذه المفاوضات بوقف اطلاق النار والادانة العلنية العربية والفلسطينية للعنف, وهو ما قدمه له العرب على سبيل الخروج من المأزق, حتى بدأ يفرض مطالب جديدة. فهو لا يقبل اليوم بالبدء بمثل هذه المفاوضات قبل ان تقوم السلطة الفلسطينية باصلاحات جذرية بل بتنحية رئيسها ياسر عرفات. وهو يفرض شروطا لا تقل إهانة عن ذلك على مشاركة الحكومة السورية.

والواقع ان الفلسطينيين والعرب قد تعودوا منذ فترة طويلة على العقلية التي تحكم قيادات دولة اسرائيل من أي فريق كانوا ولأي عقيدة سياسية انتموا. فما ان يقبل العرب بالقيام بالتنازلات التي تفرضها عليهم الدبلوماسية العالمية الوسيطة لتشديع اسرائيل على التقدم خطوة الى الامام في اتجاه التسوية حتى ترفع القيادة الاسرائيلة من مستوى طلباتها وطموحاتها, أي حتى ترد على التنازلات العربية بتصعيد سريع عسكري او سياسي. وفي الاشهر القليلة الماضية وحدها من الأمثلة ما يعكس تماما هذه العقلية. فقد ردت الحكومة الاسرائيلية على مبادرة قمة بيروت العربية للسلام باجتياح مدن وقرى الضفة الغربية عسكريا وارتكاب مجازر أكد وجودها رفض تل أبيب القاطع مشروع الامين العام للامم المتحدة لاسرائيل لجنة تقصي حقائق الى منطقة المذابح جنين. وهي ترد الان على قبول الفلسطينيين بوقف العمليات الفدائية واعلان العرب ادانتهم الكلية للعنف بفرض ارادتها على الفلسطينيين وإملاء نموذج الاصلاحات السياسية التي ينبغي عليهم القيام بها بدل ان تسحب جيوشها من الاراضي الفلسطينية.

ومن الواضح ان ما يريده آرييل شارون من سياسة الاملاء الفجة هذه هو تغذية الوهم لدى الرأي العام الاسرائيلي بالانتصار على الفلسطينيين وبالتالي الايحاء للرأي العام العربي والفلسطيني بتكبد هزيمة عسكرية وسياسية في المقابل. وينسجم هذا مع مخططات رئيس الوزراء الاسرائيلي التي ترمي الى كسب الوقت للتمكن من ابتلاع الارض الفلسطينية وتوسيع رقعة المستوطنات وليس التوصل الى تسوية سياسية او تحقيق الامن والسلام لاسرائيل ذاتها ومن باب اولى للشعب الفلسطيني.

لكن الحكومة الاسرائيلية ليست وحدها التي تبدي مثل هذا التحول عن الاتجاه الاصلي وانما الولايات المتحدة ايضا.  وهكذا فإن السلطة الفلسطينية التي قبلت مع المنظمات الفدائية التابعة لمنظمة التحرير, ولو على مضض, بتجمثد العمليات مؤقتا في سبيل المساهمة في الخروج من الازمة الاخيرة التي اثارها الهجوم العسكري الاسرائيلي بناءا على التأكيد على ان اقامة الدولة الفلسطينية  التي أقرت بها الادارة الامريكية ذاتها وصوتت على قرار مجلس الامن المتعلق بها قد اصبح البند الاول في جدول الاعمال الاقليمي اكتشفت بسرعة عبر التصريحات الاسرائيلية والامريكية ترتيبا جديدا لجدول الاعمال يتصدره بند اصلاح الوضع الفلسطيني الداخلي. وصار من الواضح أكثر فأكثر بعد المباحثات الامريكية الاوربية والتصريحات الجديدة للرئيس الأمريكي جورج بوش أن مضمون هذه الاصلاحات هو إعادة بناء قوة السلطة الفلسطينية الأمنية بهدف توجيه سلاحها للمنظمات الفدائية وبالتالي نقل الحرب الى داخل الصف الفلسطيني نفسه. أما مؤتمر السلام الموعود فلن يكون من الممكن عقده حتى تلبي السلطة المطالب الأمريكية والاسرائيلية. والمقصود من ذلك كله ضرب الانتفاضة واعطاء اسرائيل فرصة جديدة للمماطلة وذريعة استثنائية لتأجيل الدخول في مفاوضات سياسية جدية تقود الى قيام الدولة الفلسطينية بأسرع وقت. ومما يعزز هذا الخوف تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي حول حل تدريجي وجزئي يعود بذاكرتنا الى المفاوضات المأساوية التي عرفناها في اطار مؤتمر مدريد. 

يخلف هذا السلوك الاسرائيلي شعورا عميقا بالمرارة وخيبة الأمل لدى العرب جميعا والفلسطينيين بشكل خاص. فهو يوحي بأن الجهود والتضحيات الهائلة التي يقدمها العرب, وبصرف النظر عن الوسائل التي يستخدمونها والاساليب السلمية او العسكرية التي يلجؤون اليها, تظل غير قادرة على احداث تغيير ذي معنى في الواقع الجيوسياسي والاستراتيجي الفظ, وأنه كلما اعتقدنا اننا قد اقتربنا من الهدف الرئيسي, وهو التخلص من الاحتلال ونيل الاستقلال والحرية نجد انفسنا في الواقع أكثر بعدا عنه من أي فترة اخرى.  ويكاد يخامر الرأي العام العربي الشك في أن هناك جدوى لأي عمل سياسي او دبلوماسي وأنه ليس من الممكن التوصل الى أي تفاهم مع ااسرائيل,  وأن الحل الوحيد الذي ينفع معها هو توفير ما ينبغي من القوة وروح التضحية والاستشهاد حتى يتم القضاء عليها أو التخلص من بطشها وديكتاتوريتها.  فإذا أخفقت المجموعة الدولية هذه المرة ايضا في استثمار الازمة الراهنة من أجل بناء دولة فلسطينية حرة ومستقلة والاستجابة للحد الادنى من المطالب العربية, لاينبغي ان يخامرنا أي شك في أن نمط العمليات الاستشهادية الذي طورته انتفاضة الاقصى في السنة الماضية والذي زعزع ارادة البقاء, بالرغم من كل المظاهر الاسرائيلية الخادعة الاخرى, عند المجتمع الاسرائيلي وأرعب المجتمعات الصناعية سوف يعود من جديد بأقوى وأكثر شدة مما عرفناه هذه المرة. ولن تقتصر ممارسته على الفلسطينيين ولكنه سيدفع قسما كبيرا من الشباب العربي اليائس الى الانخراط الطوعي فيه ليجعل من الكفاح لازالة اسرائيل القضية الاساسية الجامعة والمثيرة للحماسة, بل المشروع التاريخي لجيل ساهم استمرار النزاع العربي الاسرائيلي خلال نصف القرن الماضي  بقسط كبير في اذلاله  وتهميشه السياسي ودماره النفسي وافقاره المادي.

ليس هناك أي داع للشعور باليأس ولا للتشكيك بالانتصار المعنوي والسياسي الذي حققته الانتفاضة في الاشهر الماضية. فالبرعم من كل الانتكاسات اكتشف العرب خلال الانتفاضة الاخيرة, والفلسطينيون في مقدمهم, الوسيلة التي يستطيعون بها ارعاب اسرائيل في المستقبل والقيمة التكتيكية الاستثنائية للعمليات الاستشهادية, ولن يكون بإمكان احد ان ينسيهم تلك التجربة الحماسية حتى لو اضطرتهم الضغوط السياسية الدولية الراهنة ومتطلبات المناورة السياسية الفلسطينية الى ادانة العنف او التجميد المؤقت لهذه العلميات. فلا تمحو القرارات, مهما كانت الجهة التي اصدرتها, عمق التجربة الانسانية. وبالرغم من كل التصريحات العنجهية واستعراضات القوة وسياسة الاملاء التي تمارسها الحكومة الاسرائيلية اليمينية لم تحقق اسرائيل أي انتصار عسكري ومن باب اولى سياسي. لقد قضت بالفعل على البنية التحيتة واهدرت ارواح مئات بل ألاف الاشخاص واعتقلت الاف الشباب لكنها لم تحل بذلك مشكلتها الاساسية التي ارادت ان تكون امنية ولا غيرت من نظرة الشعوب العربية اليها والى مغزى وجودها ولكنها بالعكس أساءت إساءة عميقة لسمعتها الدولية وضحت بقسط كبير من رصيدها الاستثنائي الذي لا تزال تستخدمه للتغطية على انتهاكاتها الصارخة لحقوق الانسان  وتجنيبها الخضوع للقانون والاخلاق الدولية, أعني كونها الممثل التاريخي للشعب المضهد والمنكوب, فصارت اليوم دولة مثلها مثل الدول الاخرى قادرة في ذهن الرأي العام الدولي على ارتكاب جرائم وممارسة اعمال عنف وارهاب وقتل ربما تفوق في وحشيتها ممارسة الدول الاخرى. وبالرغم من استمرارها في التوغل في الاراضي الفلسطينية واعتداءاتها المتكررة على المواطنين الفلسطينيين فهي لم  تنجح في منع العمليات الفدائية. بل يمكن القول ان الحرب التي دارت في الاشهر القليلة الماضية  بين المناضلين الفلسطينيين المفتقرين للسلاح ولكل وسائل القوة العسكرية والمادية قد كسرت وهم القوة العسكرية الاسرائيلية واعطت للعرب لأول مرة الشعور بأن التفوق العسكري الاسرائيلي لا يشكل بأي شكل حائلا امام مواجهة اسرائيل وتكبيدها خسائر كبيرة بل الانتصار عليها سواء امتلكت القنبلة النووية او لم تمتلكها. ان اسرائيل لم تكن ضعيفة استراتيجيا في أي حقبة ماضية كما هي ضعيفة الان. ولم تبد صغيرة وضيئلة وعاجزة كما بدت بعد خروجها من المواجهة مع شباب الضفة الغربية. وهذا هو الذي يفسر التعبئة الشاملة التي تقوم بها المنظمات الصهيونية في العالم والتي تبنيها على شعار تصاعد العداء للسامية والتهديد المصيري لدولة اسرائيل. ان سياسات شارون العدوانية تقود لا محالة الى عكس ما تهدف اليه او تدعي خدمته من أهداف.

بالتأكيد لا يعني هذا ان المقاومة الفلسطينية كانت في احسن حالة ولا أن جميع اختياراتها كانت صائبة ولا ينبغي ان يمنعنا ادراك ما حققناه من مكاسب من وجهة نظر الحرب الطويلة التي هي مصيرنا مع هذا النوع من الدول الاستثنائية والمدعومة بهالة من القداسة في اوروبة وعند اكبر قوة عالمية اليوم, اعني الولايات المتحدة الامريكية, ان نشير الى الاخطاء ونصحح مسيرة النضال التاريخي الفسطيني والعربي. ولكن المقصود هو أن هذه الاخطاء والمثالب الموجودة بالفعل والتي ينبغي مناقشتها بصراحة وحرية وتغييرها لا ينبغي ايضا ان تنسينا النتائج المهمة التي حققها الكفاح البطولي ولا يزال يحققها لأبناء الانتفاضة الفلسطينية ولا ان يمنعنا من ان نتمثل الدروس الايجابية والمهمة التي هي ثروتنا الحقيقية او يجب ان تكون ثروتنا الحقيقية في هذه المواجهة الطويلة مع قوة العدوان الاسرائيلية.

ينبغي ان نعمل على دفع عجلة الاصلاح وأن نحقق البرنامج الاصلاحي الذي تقود الى بلورته النقاشات الفلسطينية الفلسطينية والعربية الحرة والموضوعية برمته, لكن يبنغي ان نقوم بذلك من منطلق وتحت تأثير روح الشعور بالانجاز ان لم يكن بالانتصار. الانجاز أولا لأننا تجرأنا على مواجهة العدو الغاشم وقبلنا بالتضحيات الاكثر قدسية لدفعه عن مواقعه واكراهه على ان يكشف عن حقيقته. والانجاز ثانيا بسبب ما حققناه من الانتصار على النفس والتغلب على الخوف والشك أي بسبب استعادة الثقة التي تفسر وحدها وتبرر قيامنا من دون خوف بنقدنا الذاتي واستعدادنا للاعتراف بأخطائنا وإصلاح اسلوب عملنا. ولا يتجرأ على ذلك الا المجتمع الذي يشعر ان لديه من القوة السياسية والمعنوية  ما يمكنه من ان يعيد النظر في سلوكه من دون ان يتعرض لخطر اليأس أو النزاع الداخلي او الانقسام.  والانجاز ثالثا بإعادة امل الاجيال الفلسطينية والعربية بالمستقبل, حتى لو كان هذا الامل لا يلغي الاعتقاد الصحيح بأن بناء هذا المستقبل لا يزال يحتاج الى جهود طويلة ومتواصلة.

اسرائيل هي التي توجد اليوم في الطريق المسدود وتدرك في الوقت نفسه محدودية خياراتها بينما تتقدم المسيرة الفلسطينية خطوات, ولو كانت خطوات صغيرة لكنها مهمة على طريق فرض عدالة قضيتها على العالم, بما في ذلك على العالم اليهودي ذاته في اسرائيل وخارجها. ولا يغير في هذه الحقيقة التصريحات الطنانة والفطرسة الجوفاء لقيادة اسرائيلية امتهنت الكذب والغش والخديعة منذ قيامها. لا تعرف سوى انكار الاخر ولا تستمر الا من خلال الكذب على شعبها.