احترام حقوق الناس وحرياتهم هو أساس بعث الوطنية في كل الأقطار العربية

2003-06-08:: الوطن


كل الحكومات العربية تقريبا تعرضت ولا تزال تتعرض في سياق الحرب ثم الاحتلال الأمريكي للعراق لضغوط خارجية متزايدة تهدف إلى الانتقاص من سيادتها تحت ذريعة إجراء إصلاحات ضرورية لنظم الإدارة والحكم القائمة. وكلها تخشى من التأثير السيئ لهذه الضغوط على استقرارها الداخلي وصدقيتها السياسية. بيد أن القليل منها أيضا فكر بـ أو سعى إلى مواجهة هذه الضغوط بالروح الإيجابية، أي بالقيام بمبادرات داخلية جريئة تمكنه من كسب الرأي العام أو قسم مهم من النخبة والطبقات الوسطى لصفه في المعركة التي تبدو قاسية وأليمة مع الوضع الجديد.. بل إن بعض السلطات العربية التي تخشى محاولات محتملة لزعزعة استقرارها وإضعاف موقفها الاستراتيجي والسياسي اتجهت إلى الخيار المعاكس. كما لو أن انعدام الخيارات الخارجية الواضح أمام الهجوم الاستراتيجي المنظم على المنطقة المشرقية بأجمعها قد ضاعف من مخاوف هذه الحكومات تجاه شعوبها ودفعها إلى الانكفاء بشكل أكبر على سياسات التشدد الأمني والعزلة والانغلاق. وهي السياسات ذاتها التي قادت، أكثر من أي شيء آخر، إلى انهيار الوضع الاستراتيجي العربي. وبهذا نستطيع القول إن رد فعل أكثر الحكومات العربية على الأزمة الإقليمية العميقة التي تهدد مستقبل المنطقة برمتها جاء في عكس الاتجاه المطلوب ليضيف إلى الشلل الاستراتيجي على الجبهة الخارجية الارتباك السياسي على الجبهة الداخلية وفي حضرة مجتمعات لم تعش في أي حقبة ما تعيشه اليوم من قلق على مصيرها وخوف على مستقبلها.
إن أي مراقب جدي يدرك، مهما كان موقفه السياسي والعقائدي، أن السنوات القادمة ستكون صعبة جدا على كل الدول والحكومات العربية وأنه لن يكون من الممكن لأي نظام عربي أن يضمن فيها لمجتمعه حدا أدنى من التماسك الوطني والاستقامة المدنية في مواجهة الأخطار الحقيقية القادمة من دون أن ينجح في تحقيق مشاركة سياسية سريعة تضمن المساواة الفعلية أمام القانون. ومثل هذه المشاركة ليست مطلوبة فقط من أجل مجابهة مخاطر خارجية أكيدة وإنما أكثر من ذلك من أجل محو مآسي العقود الطويلة التي تسبب بها ما ينبغي تسميته من دون تردد مسلسل الحروب الأهلية التي شهدتها معظم المجتمعات العربية بصورة أو أخرى. ومن وراء ذلك إلى استعادة الحد الأدنى من الثقة بين الحكومات والشعوب وتطمين الجماعات والأفراد على مستقبلهم وتشجيعهم على قبول التضحيات ومواجهة انهيارات داخلية محتملة بسبب التدهور المتواصل في الأوضاع الاقتصادية والبيئية والتقنية والإدارية والاجتماعية والثقافية والنفسية معا بالإضافة إلى تضاؤل فرص التنمية الإنسانية في مجتمعاتنا.
والمقصود أن هناك مراحل في التاريخ تفرض على الشعوب أن توحد فيها كلمتها وتتجاوز نزاعاتها الداخلية أو على الأقل تجمدها حتى تتمكن من توحيد طاقاتها جميعا وتوجيهها لمقاومة الاعتداءات والضغوطات الخارجية. وربما لم نكن نحن العرب أحوج إلى هذه الوحدة في أي وقت مضى مما نحن عليه الآن لمواجهة نتائج زعزعة الاستقرار الشامل في المنطقة وانفجار بلدين رئيسيين في فلسطين والعراق ونتائج حروب أخرى قادمة تختلط فيها العوامل الداخلية والخارجية ويقود إليها العجز المتواصل لحكومات العالم العربي عن التوصل إلى تنظيم سريع وناجع لشؤون المنطقة الإقليمية.
وللأسف لا ينجم الإحباط والعبث بروح المسؤولية العمومية في أغلب البلدان العربية اليوم عن ممارسة أطراف أهلية ورفضها الخضوع للنظام العام والقانون بقدر ما يأتي، كما أشار إلى ذلك مثال العراق، من رفض الحكومات، حتى اللحظة الأخيرة، التخلي عن سياسات الإقصاء والنفي والاستبعاد، واستسهال بعضها اللجوء إلى تهم التعامل أو العمالة للأجنبي لإدانة وتجريم كل من لا يقبل بأفكارها واختياراتها.
وفي اعتقادي أن إعادة بناء الثقة في البلدان العربية وتوفير شروط التعاون والتفاهم الوطنيين اللذين لا غنى عنهما لمواجهة الأخطار المحدقة من أي مصدر جاءت وتجنب الانقسام والتناحر والانتحار الذاتي تستدعي تحقيق شروط خمسة أساسية:
الشرط الأول هو الاعتراف لجميع السكان بحقوق المواطنية الفعلية، أي بحقوق وواجبات متساوية، وهو ما يجعل كل فرد يشعر أنه في بلده وأن مصيره مرتبط لا محالة بمصير الوطن الذي يتمتع فيه بحقوق وحريات ومنافع لا يمكن أن يتمتع بها في أي بلد آخر.
والثاني أن يشعر جميع أفراد الشعب بأن النخبة الحاكمة لديها بالفعل مفهوم للمصلحة العامة وهي تعمل حسب هذا المفهوم وتقبل هي أيضا أن تضحي بجزء من امتيازاتها المادية والسياسية والمعنوية حتى لا نقول من مصالحها الخاصة في سبيل هذه المصلحة العامة.
والثالث هو أن يكون هناك حد أدنى من العدالة في اقتسام التضحيات والجهود المبذولة بين جميع طبقات الشعب وأبنائه بحيث لا يكون هناك شعور بأن المصلحة العامة قانون ينطبق على الفقراء ومعدومي السلطة ولا ينطبق على الطبقات الغنية الجامعة بيد واحدة للثروة والقوة والمجد.
والشرط الرابع أن يشعر الرأي العام أن هناك فعلا إنجازات على طريق تعزيز المكاسب الاجتماعية أو تطبيق القانون أو دعم الدفاعات الوطنية الاستراتيجية والسياسية تجاه الضغوط الخارجية. مما يجعله يشعر أن أتعابه وتضحياته لا تضيع سدى ولا تذهب لخدمة أغراض ليس لها علاقة بالمصلحة العامة أو بالقضية الوطنية.
والشرط الخامس الذي لا بديل عنه لكسب ثقة الجمهور وضمان التفاهم والولاء والاستقامة المدنية التي هي اليوم جوهر الوطنية هو أن تكون التضحيات المطلوبة منطقية من منظور تحقيق الأهداف المضحى من أجلها. فمن المنطقي مثلا أن يشد الشعب الحزام في حالات التهديدات الخارجية حتى يمكن توفير الموارد الضرورية لتنظيم العديد وتأمين العتاد لكن ليس من المنطقي أن تربط مواجهة التهديدات الخارجية بحرمان الناس من الأمن الداخلي والضمانات القانونية والحقوق والحريات الأساسية. ومن الصعب إقناع الرأي العام بضرورة الاستمرار في التضحية وبذل الجهد والكف عن رفع المطالب الاقتصادية أو الاجتماعية بانتظار حل المسألة العامة عندما يسود الفساد ولا تظهر السلطة القائمة أي جدية في محاربته أو أي قدرة على حماية المال العام بينما تتداول الصحف يوميا الأخبار الصحيحة أو الكاذبة، لا فرق، عن هدر الموارد دون حساب. ولا يختلف عن ذلك النظر إلى ثمرة أتعاب البشر وتضحياتهم. وتقديرها حق قدرها. فحتى يقبل الرأي العام التضحية بجزء من الحرية والعدالة والمساواة في الإنسانية وفي الكرامة البشرية ينبغي أن يتكون لديه اقتناع حقيقي بأن هذه التضحية ضرورية لتحقيق هدف أكبر وأسمى وأن تظهر له القيادة أيضا بالملموس أن هناك نتائج فعلية لتضحياته تقربه من الهدف وأن الأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية ليست أدوات للحكم والحفاظ على المغانم الاقتصادية. والقصد أن أي حكومة لن تستطيع منذ الآن أن تفرض تضحيات على المواطنين من دون أن تبرهن على أن المخاطر والتهديدات المنظورة تحتاج بالفعل إلى كل ما يطلب من المواطنين من تنازلات وأن مواجهتها لا تستقيم بالفعل إلا بها. ولن يمكن لأي حكومة بعد اليوم أن تستخدم ذريعة الوقوف في وجه إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي عدو آخر قائم أو محتمل للتمديد التلقائي الأبدي للأحكام العرفية أو لمنع المفكرين والسياسيين من التعبير عن آرائهم الشخصية.
إن الثمن المباشر لإضعاف مفهوم المواطنية وما يعنيه من مساواة في الحقوق والواجبات ومن احترام للأفراد لم يكن شيئا آخر سوى تضاؤل الشعور المدني والوطني عند جميع أفراد الشعب من حاكمين ومحكومين وغياب الانتماء والولاء الجماعيين. وهذا التضاؤل هو الذي يجعل أي جهد مبذول أو يمكن أن يبذل في سبيل استقرار البلاد وازدهارها يبدو في نظر الجميع أيضا كما لو كان جهدا ضائعا ولا معنى له. وهكذا يزداد الانسحاب من الحياة العمومية وتسود الاستقالة الجماعية ويعم الفساد أو يصبح أمرا عاديا ومقبولا من الفاسدين وضحايا الفساد معا. ولا تفيد مناشدة النخبة المواطنين الالتحام حولها لمكافحة الفساد ومواجهة العدوان الخارجي في مثل هذه الظروف إلا في إفقاد القضية المزيد من الصدقية، ذلك لأن الرأي العام سيرى في هذه المناشدة وسيلة أو ذريعة لا تستخدم إلا في سبيل الحفاظ على المصالح الخاصة بل وتعظيمها أيضا.
إن العامل الذي ساهم بشكل أكبر في إضعاف المشاعر الوطنية عند الجمهور العربي هو استمرار الإجراءات الاستثنائية في معظم البلدان وبأشكال مختلفة لفترة طويلة ومن دون التمييز بين فترات تستدعي التعبئة القوية وفترات يستطيع فيها المواطنون أن يتمتعوا بحد أدنى من حرياتهم وحقوقهم الأساسية. فلو أن النظم العربية خففت قليلا من فترة لأخرى من تطبيق القوانين الاستثنائية أو التي في حكمها لكانت طروحات الضرورة الوطنية لتقييد الحريات كسبت بعض الصدقية ولما تزايدت الشكوك عند الرأي العام بأن هذا التقييد قد أصبح وسيلة لنمط من الحكم لا يريد أن يتعرض لأي منافسة أو مساءلة أو محاسبة سياسية ويقيم قوته على امتلاك حرية المبادرة الداخلية الكاملة تجاه المجتمع وفئات مصالحه الأخرى انطلاقا من توسيع دائرة السلطة التنفيذية وصلاحياتها من دون حدود ولا رقابة قانونية أو سياسية.
باختصار إن من حق الجمهور العريض أن يعتقد بأن من يتجاهل حقوق شعبه في الداخل ليس لديه أي سبب للدفاع عنها في الخارج خاصة عندما يتطلب هذا الدفاع تضحيات كبيرة. فمن يريد أن يكسب التفاف شعبه حوله ويعزز بالتالي دفاعاته ودفاعات نظامه ضد الضغوط والاعتداءات الخارجية المتزايدة ينبغي أن يبرهن على أنه حريص على أن لا يفرط بها في الداخل أصلا. فلا يمكن أن يساعد تحويل الناس إلى مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم وحرمانهم من حقهم في قضاء نزيه وعادل ومساواة في المعاملة أمام القانون على تعزيز الصمود بشكل أفضل أمام العدوان الخارجي وميول الفساد الداخلي. إن المنطق يقول، بالعكس من ذلك تماما، إن العمل الجاد لمقاومة الضغوط الخارجية وأسباب الفساد الداخلية يحتاج إلى تلاحم أكبر بين صفوف الشعب وبالتالي إلى مزيد من الاحترام والحرية والعدالة والمساواة بين أبنائه جميعا. ولهذا السبب جرت العادة في جميع النظم السياسية القديمة والحديثة على أن تكون الحروب مناسبة لإعلان العفو العام عن جميع المعتقلين السياسيين ولم يحصل في أي حقبة وفي أي نظام أن عمدت حكومة إلى تشديد قبضتها على الناس والقسوة عليهم في وقت الحروب أو المواجهات الوطنية وألغت عمليا الاحتكام إلى القانون في الوقت الذي تدعي فيه محاربة الفساد. ذلك أن مثل هذا السلوك يعني أن الحكومات التي تحتاج إلى تكاتف كل أبناء الشعب حولها لتوحيد الجهود في مواجهة مخاطر الاعتداءات الخارجية ومصادر الخراب الداخلية تقوم هي نفسها بتقسيمهم وتشتيت قواهم وإضعاف إيمانهم بوطنهم وأنفسهم معا.