أسباب الشلل العربي أمام الوضع الفلسطيني

2002-04-08:: الجزيرة نت


لم يكن الوضع العربي الإقليمي مشتعلا وقابلا للتفجر كما هو عليه اليوم منذ عقود طويلة. فعلى ما تبديه القيادات السياسية العليا من شلل نتيجة الانقسامات وانعدام التفاهم والتطلعات والمصالح الانتهازية والخاصة المختلفة والمتناقضة يرد الجمهور العربي المحترق بالشعور بالإهانة والغضب لعدم قدرته على القيام بشيء يخفف من آلام الشعب الفلسطيني بحركات احتجاج موجهة نحو قياداته وطافحة بالاتهامات بالخيانة والعمالة والتآمر والتورط. ولا تجد الحكومات العربية المرعوبة من وسيلة أخرى للرد على حركة الاحتجاج والتنديد المتوسعة التي تتعرض لها ولم تتوقعها إلا القمع واستخدام الوسائل التقليدية من اعتقالات وسجن وضرب.

والواقع أن النظم الحاكمة التي احتمت حتى الآن وراء تقارير المخابرات التي تؤكد لها السيطرة الكاملة على الشارع وغياب التنظيمات السياسية القادرة على العمل ضدها بدأت تخشى ألا تستطيع استيعاب حركة الجمهور الناقم. وليس لديها بعد ورقة مبادرة السلام التي أخرجتها على أمل أن تحد من جموح الحملة العسكرية الإسرائيلية أي خيار آخر. فالحرب خيار أعلنت الدول العربية أكثر من مرة ولا تزال تعلن بمناسبة ومن دون مناسبة تخليها النهائي عنه ورفضها حتى التفكير بإمكانية العودة إليه. وحتى لو أرادت العودة إليه فستجد نفسها مفتقرة لكل مقومات النجاح والنصر فيه. ذلك أن الحروب لا تخاض على عجل ولا يمكن الدخول فيها بين ساعة وأخرى ولكنها تحتاج إلى إعداد مسبق كبير ومديد يشمل تحقيق جاهزية المعدات وتأهيل الأفراد وتدريبهم وتهيئة الاقتصاد والشعب معا. ويحتاج مثل هذا الإعداد للتعبئة السياسية والاقتصادية والنفسية العامة في الوقت نفسه.
أما خيار استخدام الأسلحة الاقتصادية مثل قطع صادرات النفط العربي عن الولايات المتحدة فهو لا يمكن أن يكون مجديا إلا إذا كان عملا جماعيا وإجماعيا يجعل منه تهديدا حقيقيا لسوق النفط ومن ورائه للأسواق الاقتصادية العالمية ويحث جميع الدول الصناعية على تحمل مسؤولياتها تجاه الوضع المتفجر في الشرق الأوسط. والحال أن دولا كثيرة تجد نفسها في وضع اقتصادي أكثر هشاشة من أن يتحمل هو نفسه مثل هذه الصدمة. كما أن الكثير من النظم النفطية تعيش على الحماية الأميركية ذاتها وتعتبر هذه الحماية هي القاعدة الرئيسية لاستقرارها بل لوجود دولها ذاتها.
لا بل إن النظم العربية لا تبدو مستعدة لبذل أقل من ذلك من الجهد. فلم تقم الحكومات العربية في الثمانية عشر شهرا الماضية من الحرب المعلنة على الشعب الفلسطيني بعد انهيار مفاوضات السلام بأي نشاط دولي أو إقليمي يمكنها من أن تكسب بعض المواقع في مواجهة الهجمة الإسرائيلية الدبلوماسية أو الأميركية. ولا تكاد لجان دعم القضية الفلسطينية الوزارية تنجح هي ذاتها في عقد اجتماعاتها الطبيعية, بل يمكن القول إنها لم تجتمع قط أو أن ذلك حصل سرا من دون أن يعلم أحد, وبالأحرى أن تقوم بنشاط فعال على الساحة الدبلوماسية الدولية لعزل الحكومة الإسرائيلية أو إحراجها أو إضعاف موقفها على الأقل.

إن شلل السياسة والإستراتيجية العربية, حتى على المستوى الدبلوماسي, أمر مثير للتساؤل بالفعل. فما نعيشه من أحداث اليوم لم يكن لا جديدا ولا بعيد الاحتمال. فقد كان احتمال فشل مفاوضات السلام مذهبا من مذاهب بعض النظم العربية نفسها بينما كانت العديد من النظم الأخرى لا تكف عن ترداد شجبها لتقاعس إسرائيل وسوء نيتها وسعيها للالتفاف على استحقاقات السلام. ومن الصعب أن نقول إن الحملة الإسرائيلية الشرسة على الشعب الفلسطيني كانت مفاجأة لأحد. لقد كانت منتظرة ومتوقعة, وهي مستمرة على أي حال منذ ما يقارب السنتين من دون انقطاع. فكيف نفسر إذن هذا الشلل العربي وانعدام المبادرة وفقدان الاختيار وما سر هذا التهذيب المريب في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة والدول الكبرى ذات المسؤولية الحقيقية عما يجري في فلسطين وللشعب الفلسطيني لأنظمة تعامل بعضها بعضا بشراسة قل نظيرها عندما تختلف في ما بينها؟.

يعكس الوضع الذي تجد الأنظمة العربية نفسها فيه اليوم حقائق ثلاثا:

الحقيقة الأولى أن المصالح الوطنية وفي مقدمتها المصلحة القائمة في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية واسترجاع القدس لا تشكل أي أولوية في السياسات العربية على الأقل منذ عقدين.
والحقيقة الثانية أن الدول العربية التي قررت رسميا الانسحاب من المواجهة عندما أقرت بالتخلي عن خيار اللجوء إلى القوة وتبني سياسة المفاوضات تراهن على الولايات المتحدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه من إسرائيل ولا تزال تراهن عليها اليوم ولن تراهن على غيرها في المستقبل بل ليس لديها, وهي على ما هي عليه, أي خيار آخر سوى هذا الرهان الذي يعني أيضا أنها تخلت عن انتزاع حقوقها بنفسها أو أعلنت عجزها عن ذلك.
والحقيقة الثالثة أن إسرائيل, بالرغم من كل التهديدات والمخاطر التي تمثلها, ليس للشعب الفلسطيني فحسب ولكن للشعوب العربية جميعا, لم تعد الجبهة الرئيسية في أولويات المواجهة عند النظم العربية. بل ربما لم تعد جبهة مواجهة على الإطلاق, ولا تستحق لذلك أن يرصد لها استثمارات وتوظيفات مهمة مادية ومعنوية ولم تعد أيضا مصدر القلق والخطر الرئيسي في نظر النخب العربية الرسمية.
إن جبهة المواجهة الحقيقية التي تجذب الاستثمارات المالية والسياسية والدبلوماسية والنفسية هي القائمة في وجه المجتمعات العربية ومن أجل حصار الرأي العام وتقييد حركة الجمهور وإجهاض مشاريع التغيير بل حركات الاحتجاج والمعارضة على أي مستوى كانت وفي أي ميدان ظهرت. ولذلك وفي الوقت الذي تظهر فيه شللا لا حدود له على جبهة المواجهة الإسرائيلية وتكاد تستجدي, عن طريق واشنطن أو بصورة مباشرة, أرييل شارون الرحمة بالسكان الذين يعدهم بالقتل, تبدي النخب العربية الرسمية نشاطا لا حدود ولا مثيل له على جبهة الحرب الداخلية. فهي لا توفر فرصة للتعبئة النفسية والأيديولوجية ولا لملاحقة الأفراد والجماعات على أي كلمة يمكن أن تصدر عنهم ويشتم منها رائحة الاحتجاج أو المعارضة أو عدم التسليم والإيمان بشرعية القيادات القائمة. وجميع قوى الأمن والدفاع مجندة لإخراس مئات الأصوات التي يشك بولائها المطلق. وجميع موارد الدولة موضوعة في خدمة أولئك الذين يعلنون استعدادهم لتقديم الولاء للحاكم والمساهمة في قطع رقاب العناصر "المارقة" المنتمية هي أيضا إلى محور الشر, أعني محور "التخريب" والمعارضة والمطالبة باحترام الإنسان وعدم الاعتداء على حقوقه وحرياته وحرماته الشخصية.

لا يعكس شلل النخب العربية الرسمية إذن سوء تقدير للمخاطر والتهديدات الخارجية ولكنه يعبر عن اختيارات سياسية تجعل من الحفاظ على الوضع القائم بما يعنيه من توزيع للثروة وللامتيازات لصالح فئة قليلة جدا من السكان لا تكاد تتجاوز مئات الأسر أولوية استثنائية بل الأولوية فحسب, ويضع الجمهور الواسع بل المجتمع بأكمله في مواجهة النخب الرسمية. وهذه النخب لا تخطئ عندما تقف مكتوفة الأيدي أمام إسرائيل ومشاريعها التوسعية وإنما هي تطبق القاعدة الإستراتيجية الصحيحة والعقلانية التي تقول إن من الخطأ فتح جبهتين في الوقت نفسه, وهنا الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية.

وهكذا استقرت قاعدة تقسيم العمل الجديدة لتحقيق الاستقرار، للنظم المحلية مهمة تقييد حركة المجتمعات العربية وإخضاعها وشل إرادتها وللولايات المتحدة أمر حل مشكلتنا مع إسرائيل. المشكلة الوحيدة في هذه المعادلة التي نعيش تطوراتها هي أن هناك شعبا اسمه الشعب الفلسطيني يريد أن يعيش بكرامة على أرضه ويرفض الاستسلام.