نحو تجديد العقد الاستعماري في العالم العربي

2004-11-29:: الجزيرة نت


لم تكن شرعية النظم العربية المنبثقة عن الحقبة الاستقلالية مطروحة للنقاش في أي فترة سابقة كما هي عليه اليوم. فهي تبدو أكثر فأكثر وكأنها خسرت جميع الرهانات: الوطنية المرتبطة بالحفاظ على السيادة والاستقلال ووحدة الأراضي الاقليمية، والاجتماعية المتعلقة بدفع عجلة التنمية الإنسانية وتحقيق الحد الأدنى من التقدم والازدهار والعدالة والمساواة والأمن. 
وأكثر فأكثر تتعرض هذه النظم وسوف تتعرض باستمرار لموجات متصاعدة من الغضب والعداء والاحتجاج. ولم يعد الشك يخامر أحدا اليوم بأن نموذج النظام القائم في العالم العربي آيل إلى زوال، بل هو ينسحب أمام أعيننا كما ينسحب اللص في الظلام. ولا يكرر على مسامعنا شعائر وطقوس القوة والجبروت التي أتقنها في الماضي إلا ليخفي هذا الانسحاب ويغطي على عوامل التفكك والتحلل التي تنخره وتكاد تطيح به. لا ينبع هذا الاقتناع من معاينة الوقائع اليومية فحسب وإنما قبل ذلك من التحليل العقلاني.

فقد أظهر هذا النظام إفلاسا كاملا وتعرض، ولا يزال يتعرض منذ العقد الأخير للإدانة الشاملة كما لم يتعرض لها أي نموذج نظام سابق في العالم، وأصبح يبدو في الداخل والخارج كمثال للعبث والشر والإساءة المادية والمعنوية للشعوب التي تخضع له. 
ومن يراقب عن كثب ما يحصل لهذا النظام لا يحتاج لكثير انتباه حتى يدرك أن التفسخ الذي يصيبه يكاد يقضي على مؤسساته جميعها بالشلل العام. فالدولة لا تكاد توجد خارج أجهزة العنف الأعمى في الوقت الذي تعاني فيه جميع مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية والإدارية والإعلامية والعسكرية من الترهل والخراب. فليس هناك لا قيادة سياسية بمعنى الكلمة ولا برلمان يشرع بشكل مستقل ولا قضاء نزيه ومهني ولا إدارة مختصة ومنظمة ولا إعلام يتمتع بالحد الأدنى من النزاهة والصدقية، ولا قوة عسكرية تشعر بأنها مسؤولة عن حماية المصالح الوطنية.

ليس هناك مؤسسة واحدة لا يعترف أصحاب النظام أنفسهم بأنها فاسدة وتحتاج إلى الإصلاح: من الاقتصاد إلى الإدارة إلى السياسة إلى الإعلام إلى القضاء إلى الجمعيات والمؤسسات والشركات، بل وأحزاب السلطة الحاكمة نفسها. إن النظام يعلن هو نفسه عن أنه وصل إلى نهاية المطاف وهو عاجز عن العمل والإنتاج. 
لكن إذا كان الاعتراف بتفسخ النظام القائم وفساده أصبح عاما وشاملا فإن هناك إدراكا عميقا لا يقل شمولا وعمومية بأن هذا التفسخ لا ينعكس في نمو مواز لقوى التغيير والتجديد التي لا غنى عنها في سبيل تغيير النظام أو حتى إصلاحه. ولذلك فهو يثير التشاؤم والقلق أكثر مما يدفع إلى التفاؤل والاطمئنان. 
فمع انعدام الضغوط الداخلية القوية التي تعيد توجيه السياسة نحو مصالح اجتماعية فعلية لا يجد النظام عقبة تمنعه من السعي إلى إعادة إنتاج نفسه من خلال التفاهم مع القوى الدولية أو الإقليمية، وتكييف دوره بحيث يكون أداة لا يستغنى عنها في خدمة الإستراتيجيات الخارجية. إن التغيير يحصل من دون شك، لكن حسب ميزان القوى الدولي والإقليمي أو استجابة له، ويضمن هذا الميزان لأي نظام مهما كان فساده واضحا إعادة إدراج نفسه في إستراتيجية الهيمنة الدولية.

وربما كان المثال الأبرز هذا العام على هذه السيرورة التاريخية هو النظام الليبي الذي استطاع عن طريق التسليم بجميع اختياراته التقليدية الوطنوية والقوموية والتقدموية أن يخرج نفسه من الطريق المسدودة التي وصل وأوصل البلاد إليها، ويمد في عمره لبعض سنوات في انتظار ما سوف يتمخض عنه المجتمع الليبي والسياق العالمي من تحولات. ومن الواضح أنه لا توجد أمام النظم العربية التي وصلت إلى نهاية الطريق خيارات كثيرة لتبرير وجودها والاحتفاظ بقدرتها على الردع والاستمرار. وليس لديها كي تستعيد قسطا من الشرعية التي تحتاج إليها لتبرير العنف الذي تستخدمه من دون أن تتمكن من احتكاره بعد الآن، حتى لو تعلق الأمر بصبغة سطحية من الشرعية الكاذبة، سوى خيارين: تجديد عقد التبعية والتوكيل الاستعماري أو شبه الاستعماري التقليدي الذي ضمن للعديد منها بقاءه واستقراره خلال العقود الخمسة الماضية وإعادة صياغته على أسس وحسب معايير مختلفة تعكس انهيار حركة التحرر الوطني العالمية وعودة السيطرة الإمبرطورية أو الإمبريالية في العالم، أو بناء عقد وطني واجتماعي جديد يربطها بالمجتمع الذي أخضعته خلال العقود الطويلة المنصرمة باستخدام مزيج من العنف الأعمى والأحكام التعسفية والدعاية الغوغائية الدينية أو الوطنية أو الاشتراكية الفارغة.

وإذا كان الميل قويا نحو الخيار الأول على حساب الخيار ذي المنحى الديمقراطي الذي تحلم به قوى عديدة اجتماعية، فذلك لأن الاختيار أو الاتجاه في هذا المنحى أو ذاك لا يخضع للأسف للرغبات والإرادات الطيبة بقدر ما يستجيب لميزان القوى القائم على الأرض. ولو نظرنا إلى القوى المتصارعة على وراثة النظام لوجدنا أنها لا تتجاوز ثلاثا:
- شبكات المصالح العائلية والجهوية المتولدة في حضن هذا النظام والطامحة إلى السيطرة على الاقتصاد انطلاقا من سيطرة آبائها على السلطة والدولة والقطاع العام. وهي في طريقها لتحقيق مكاسب ومواقع استثنائية في الإعلام والتعليم والحياة السياسية والحزبية والصناعة المعلوماتية والاقتصاد الجديد والتجارة.

- القوى الخارجية الطامحة إلى إعادة توزيع مناطق النفوذ في المنطقة لموضعة نفسها بالنسبة للحقبة القادمة التي ستكون حقبة اقتصاد سوق عالمية مفتوحة وبالتالي حقبة نهاية القومية والوطنية، والدخول في مرحلة التعامل الحر بين الدول العربية المتهافتة على الحمايات الأجنبية والاندماج في السوق من دون مباديء ولا قيم ولا قوانين غير قانون حرية التجارة.

- قوى المعارضة السياسية التي همشت في الحقبة الماضية وتسعى إلى أن تستعيد بعض مواقعها ودورها.

من بين هذه القوى الثلاث تبدو المعارضة الديمقراطية هي الأضعف والأقل قدرة على المبادرة وتمتعا بهامش للمناورة أيضا. وهي تكافح لتحقيق برنامج لا تستفيد منه ولا يتقاطع مع برنامج أي قوة من القوى الأخرى التي ذكرتها، لا تلك المرتبطة بشبكات المصالح الداخلية الجديدة ولا بالقوى الخارجية الطامحة لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها الإقليمية.

هذا ما يفسر أن النظم العربية رغم إفلاسها الواضح لا تزال قائمة وقادرة على المقاومة والاستمرار كما يفسر أن جميعها اكتشفت بصورة أو أخرى طريق الخلاص الواحد، أعني السعي إلى تجديد العقد الاستعماري من أجل تجنب تقديم التنازلات في الداخل وفتح الباب نحو تحولات ديمقراطية تبدو في البداية محدودة لكنها تحمل في طياتها ولو على المدى البعيد بذور تغيير النظام أو تعديل قواعد عمله منذ اللحظة التي تقر فيها بمبدأ سيادة الشعب وحقه في اختيار حكامه وسياساته، أي حالما ترفع الوصاية عنه. ومن المحتمل أكثر أن تنحو الأمور بشكل أكبر في السنوات القادمة في اتجاه التفاهم بين النخب المافيوزية والقوى الكبرى ما لم يطرأ أحد أمرين: تعثر في عملية التفاوض لتوقيع عقود الإذعان الجديدة بين نظم الاستبداد وقوى السيطرة الخارجية أو انقلاب في موازين القوى الداخلية نتيجة ثورات أو انهيارات من داخل النظم.

هل يعني ذلك نهاية الحلم الديمقراطي والاختيارات الوطنية المستقلة؟ بالتأكيد لا. فمهما كانت الحال لا تشبه العقود الاستعمارية الجديدة كثيرا العقود الماضية. فهي اليوم عقود بالوكالة أي تحت الإشراف وبشروط مختلفة عن تلك التي تبعت عهود الاستقلال. وحتى لو نجحت النظم القائمة في الاحتفاظ بوحدتها الداخلية وانسجامها أو في تجديد الحلف الاستعماري الجديد فلن تستطيع تكرار تجربة العقود الأربعة الماضية، لأن العقود الجديدة لن تخلصها من الشلل ولن تمكنها من الخروج من الأزمة الطاحنة التي تتخبط فيها. فمن جهة أولى لن يفتح التفاهم الاستعماري الجديد الذي يقوم أساسا على حساب الكتلة الاجتماعية الكبرى وعبر استبعادها من دائرة القرار أي آفاق تنمية اقتصادية واجتماعية جدية وسريعة، ولن يستطيع أن يزيد من فرص العمل وتحسين شروط الحياة الاجتماعية المتدهورة التي تحتاجها البلاد من أجل امتصاص التوترات الداخلية ووضع حد للتسيب والانفلات والفساد.

ومن جهة ثانية لن يكون للدول الكبرى الراعية للعقد الجديد مصلحة في استمرار الرهان على نخب محلية فقدت الكثير من صدقيتها وأصبحت رمزا للتعسف والعنف والخراب. وسيزداد الدافع لديها، بعد أن تكون قد استفادت من تعاون النخب القائمة في هذه المرحلة الانتقالية، إلى البحث عن نخب جديدة أكثر انسجاما معها وأقرب في تفكيرها وأسلوب إدارتها إلى أطروحاتها وطرق عملها. فهي تدرك أنها لا تستطيع أن تواجه الرأي العام العربي الذي ينظر إليها بكره حقيقي ويحملها مسؤولية الدمار والطغيان اللذين عما البلاد العربية في العقود الماضية، ولا تستطيع أن تجدد بالتالي أسس شرعية نفوذها شبه الاستعماري في المنطقة من دون أن تستجيب ولو بشكل جزئي إلى بعض المطالب الشعبية ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية، أي غير الإستراتيجية. من جهة ثالثة أعتقد أن تجربة العقود الطويلة الماضية السلبية قد زودت المجتمعات بعناصر حصانة ومنعة كافية كي لا تقبل بتكرار تجارب العسف والطغيان الماضية. وإن هذه العناصر وإن بدت نائمة اليوم فإنها سرعان ما ستبرز بقوة في مواجهة استعادة النظم لزمام المبادرة وتراجعها عن الانفتاحات الشكلية التي تعد بها، وفي مقدمها التقليل من مظاهر العسف والاستخدام المفرط للعنف والارهاب اليومي للسكان.

ومن جهة رابعة سيزداد في نظري الانقسام داخل الطبقة السائدة العربية بموازاة تفاقم الفشل والأزمة. ولن يستمر تطابق المصالح ووجهات النظر طويلا بين بيروقراطيات وتكنوقراطيات الدول التي ستقع عليها مهمة إنجاح الإصلاح وشبكات المصالح الفئوية المسيطرة عليها. ومن غير المحتمل أن تستمر هذه الطبقة الإدارية في الخضوع الأعمى لمراكز القوى المافيوزية والأمنية والحزبية التي تستفيد من النظم القائمة بعد أن فقدت النظم التي تمثلها أي رسالة عامة أو صبغة وطنية، وأصبح هدف كل ما تفعله تسخير الدولة لخدمة مصالحها الخاصة. ولا بد لهذه البيروقراطية من أن تعمل لكسب تأييد الرأي العام والحصول على الشرعية هي أيضا بقدر ما ستدرك ذاتها وتكتشف هويتها، على إبراز مقاومة أكبر تجاه مراكز القوى الخارجية والداخلية التي تحاول القبض عليها واستخدامها أداة لتحقيق مآربها. لكن إذا لم تكن الآفاق مسدودة أمام التغيير فلا يعني ذلك أن التقدم في اتجاه الخيارات الاجتماعية الديمقراطية سيحصل من تلقاء نفسه وبصورة آلية. إن حصوله يتوقف على النجاح في بناء رؤية سياسية قوية وواضحة وبلورة إستراتيجيات صحيحة والقبول بتقديم تضحيات فعلية من قبل الجميع. وهذا ما ينبغي أن يدفع إلى الاهتمام في السنوات القادمة بشكل أكبر بقوى المعارضة العربية التي لا تزال عموما مهمشة، وإلى مضاعفة الجهد المطلوب لإعادة بنائها كي تستطيع أن تلعب دورها في عملية التحول الإجبارية الراهنة.