نحو ابرتايد عالمي ٢من٢

2017-06-03:: العربي الجديد

 

 

٢- كيف خسر الغرب سيطرته : الحرب بدل التنمية 

مع تخلف الجزء الأكبر من البشرية عن اللحاق بركب المدنية، وتفاقم الأزمات الداخلية في كل المناطق، وصعود التوترات والنزوع المتزايد للحرب والقتال، تحولت الدول الغنية المتقدمة إلى واحة رخاء في صحراء قاحلة، وسوف تصبح "الهجرة" نحو هذه الواحة المحاصرة هي المشكلة الرئيسية لهذه الدول خلال العقود القادمة، ولن يكون أمامها وسيلة للرد عليها سوى رفع الجدران العالية، النفسية والمادية، وتطوير تقنيات الابادة الجماعية لردع القادمين البرابرة، ودحر موجات المهاجرين. لكنها لن تستطيع، مهما حصنت نفسها، أن تقف أمام تسرب موجات وجيوش من المرشحين لركوب كل مخاطر الموت للخلاص بأنفسهم، والتغلب على الموت المعنوي والجسدي الذي صار مصيرهم الوحيد ومستقبلهم نتيجة استبعادهم من الحضارة. لن يتوقف الضغط على هذه الواحات الصغيرة. ولن تفلح مهما أقامت من أسوار وتحصينات في رد المهاجمين الذين لن يأتوا هذه المرة محاربين، ولكن عاشقين، ولن يزيد رفع جدران العنصرية والعزل إلا في تعزيز إرادة الوصول إلى بر الأمان والتوغل الى جنة الخلد الموعودة.

خسرت الدول الصناعية والمتقدمة معركتها منذ الآن لأنها نظرت إلى العالم وتعاملت معه كغابة وحقل صيد، تنهب منه ما تشاء وتقتل ما تشاء وتدمر البيئة وشروط حياة الشعوب والأجناس من دون تفكير في المستقبل ولا تأمل في النتائج. في الوقت الذي كانت تملك فيه من الموارد والخبرات والقيم الانسانية التي مكنتها من بناء نفسها كدول وأمم متمدنة، ما لو استخدمت جزءا يسيرا منه لفتحت أمامها وأمام الانسانية طريقا آخر للأمن والسلام والازدهار الجماعي. كل ما كان عليها ان تفعله هو التخلي عن الأنانية القومية والحد من شره السلطة والنفوذ والحرص على موارد الشعوب التي هي جزء من موارد الانسانية بأكملها بدل هدرها على مذبح المنافسة الربحية ومراكمة الثروة ورؤوس الاموال. ولو تم ضبط آلية ومنطق الربح السريع والمفتوح لصالح التفكير في المستقبل، مستقبل الدول المتقدمة ومجتمعاتها وشعوب العالم ككل، لكان من الممكن صياغة سياسات اقتصادية للكوكب بأكمله تؤمن الحياة لجميع أبنائه، وفي الوقت نفسه تحافظ على الطبيعة والبيئة وتغير من انماط الهدر والإدارة الوحشية للموارد البشرية والطبيعية التي اتبعتها راسمالية منفلتة.

ما كانت الدول الصناعية بحاجة إلى أن تصرف من جيبها قرشا واحدا كما فعلت الولايات المتحدة عندما أعلنت مشروع مارشال لانقاذ اوروبة التي اجتاحتها الحرب ودمرتها. بالعكس، لو انها وفرت ١٠ بالمئة من الموارد التي كرستها للحروب الاستعمارية التي شنتها الدول المتقدمة على بعضها منذ القرن التاسع عشر لتوسيع دائرة نفوذها والسيطرة على الموارد الطبيعية العالمية على حساب الشعوب التابعة، ولو عملت على توجيه جزء من نفقات التسلح التي تنفقها البلاد التابعة نفسها، حماية للطغم الحاكمة من  شعوبها ومن  منازعاتها في ما بينها، ووجهت ريوع المناجم النفطية وغير النفطية في الدول المنتجة لأهداف غير شراء الأسلحة وتعزيز موقف صناعات السلاح، لكان وجه الأرض قد تغير تماما وعمت الخضرة الكرة الأرضية والسعادة البشرية بأكملها. كل ما كان يحتاجه الأمر هو مشروع مارشال على مستوى القارات ورؤية شاملة لعموم الانسانية، أي خروج من أفق القومية الانانية والربحية الرأسمالية البليدة والميكانيكية. نظرت الولايات المتحدة لأوروبا كحليف بينما نظر الغرب بأكمله للعالم النامي، أي لثلاث أرباع البشرية كحقل صيد وقنص ونهب مفتوح لجميع الرأسماليين والمغامرين. هذه هي الحقيقة.

هل ضاعت الفرصة لمراجعة سياسات الدول المتقدمة الصناعية؟ للأسف نعم، ليس لأن هذه السياسات لا يمكن التراجع عنها أو تغييرها بعد الآن، فمن الممكن في كل لحظة العودة نحو سياسة دولية أكثر شمولية ورؤية مستقبلية، إنما لأن الطغم والنخب الحاكمة في هذه الدول اصبحت حبيسة حسابات انتخابية واجندات شخصية وسياسية ضيقة الأفق وقصيرة المدى لا تسمح لها بالتفكير في المستقبل البعيد بل ربما القريب، ولأنها فقدت الروح النقدية التي تمكنها من اعادة النظر بسياساتها وادراك أن ما كان صالحا من هذه السياسات منذ قرن لم يعد يمكن المراهنة عليه اليوم مع تزايد مشاكل الفقر والتهميش الجماعية والحروب وتدمير البيئة  الطبيعية والأهم النفسية والاجتماعية عند الانسان، ولأنها أصبحت رهينة محبسيها: الانانية القومية والحسابات الضيقة التي تتحكم بالسياسة في كل دولة، وحاكمية الريح والتراكم الرأسمالي، التي حللها ماركس بدقة، وأولويتهما في تحديد سياسة إدارة الموارد البشرية والنزاع الوحشي عليها، فهي لا ترى أمامها أكثر فأكثر إلا الظلام والسواد والخطر. ولا تجد طريقا للخلاص إلا بالعودة إلى ردود فعل الخائف والمرتعب والخاسر سلفا، أو الذي يشعر بأن القدر ينقلب عليه، وهو ينقلب بالفعل، وهو ما يفسر نزوع السياسيين الطموحين، والفاقدين، أكثر فأكثر، لثقتهم بالسير الطبيعي والناجع للآليات القومية والرأسمالية معا، إلى تبني ايديولوجيات غصب التاريخ والنكوص على مبادئهم نفسها، واستبدالها بقيم العصر البربري الجديد، عصر الكراهية والعنصرية والعداء للأجنبي، أي أجنبة المختلف، والانكفاء بشكل أكبر على الأجندات القومية التي تشكل هي نفسها  اليوم السبب الرئيسي لتدهور البيئة الدولية الفكرية والسياسية والاقتصادية . 

 

٣- مكر التاريخ

بمقدار ما كانت سياسات هؤلاء وراء انتاج ما يعيشه العالم من تفجر النماذج والاشكال الجديدة للبربرية فهم يشعرون اليوم بأنهم ربما اقتربوا من أن يدفعوا ثمنها ويتحولوا إلى ضحية لسياساتهم الانانية ذاتها. وربما كان بركان الشرق الأوسط الذي شهد أفظع نموذج للاستهتار بمصير الشعوب وهدر أرواح ابنائها ومواردها، ومن تهميشها واحتقار نخبها ومستقبل أجيالها هو الذي يمثل اليوم، بما يقذفه من حمم على نفسه وعلى العالم المحيط به، النموذج الأول لما سيتحول إلى محرقة عالمية خلال القرن القادم، ما لم تحدث بالفعل ثورة فكرية عند النخب الحاكمة والطبقات السياسية السائدة في الدول المتقدمة، وجزءا كبيرا من النخب الفاسدة والجانحة في البلدان الفقيرة والتابعة. وأكثر فأكثر ستشكل تكاليف الامن حاجزا قويا امام توسع دائرة الاستثمار الرأسمالي، ما لم تتحول الحرب نفسها إلى القطاع القائد في رأسمالية حروب القرن الواحد والعشرين.

ليس دونالد ترامب وعقيدته الرثة التي مكنته من الفوز، ولن يكون الوحيد بين أبناء جلدته من السياسيين الطامحين إلى قيادة مرحلة الردة الجديدة على قيم ومثل وآمال وأوهام العصر الذهبي الآفل للدولة القومية وللرأسمالية المنتجة والخلاقة. إنه يجسد في ثورته الرثة ذاتها وجمهوره من الضائعين والمتذمرين من دون وجهة ولا يقين، خيار الهرب نحو الهاوية الذي لم يعد لدى نظام العالم القائم بديلا له، إن لم تراجع النخب والطبقات السياسية الحاكمة خياراتها البالية والبائدة والفاسدة، وتتخلى عن معاييرها القومية المغلقة ورأسماليتها الريعية والطفيلية المتفاقمة.

ومن الواضح أن الترامبية سوف تقود الغرب، بمعناه الجيوسياسي والاقتصادي، الخائف على موقعه ومكانه وازدهار مجتمعاته واقتصاداته، نحو التطرف والتشدد والانغلاق، تماما كما كان عليه الحال عندما قادت التاتشرية، وما مثلته من سياسات نيوليبرالية، الدول الصناعية بعد عقود من النمو المتسارع الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي أوروبا هناك مرشحون كثر ينتظرون دورهم ويمتشقون سيف ترامب الفكري والسياسي لكسب انتخابات الرئاسات القادمة، تماما كما يعزز هذا المسار من تيارات الشمولية الراسخة في دول المحيط والاطراف، في آسيا وايران وأفريقيا والعالم العربي. ألمانيا ميركيل وحدها هي التي لا تزال تقاوم سحر نموذج جديد من سياسات الابرتايد الذي اتبعته في الماضي النخبة البيضاء في جنوب افريقيا، لكن هذه المرة على عموم المعمورة. ومقاومة ألمانيا نابعة من تجربتها المريرة مع أشرس نسخة للعنصرية المريضة ولدت في التاريخ الحديث وراحت ضحيتها شعوب كثيرة، وأولهم الجماعات اليهودية، لكن أيضا أجيال كاملة من الشبيبة الألمانية التي ضحي بها على أعتاب وهم سيطرة قارية مجنونة.

لكن بموازاة تحول العالم بأكمله إلى ابرتايد من دون ضفاف ولا حدود، تتحكم فيه نخبة بيضاء، وأشباهها ومريدوها في الأمصار، بمصير المجتمعات، وتحكم عليها بالموت والفقر والتهميش والحروب والنزاعات الدائمة، تولد أيضا في كل دولة ومجتمع، وأولها دولة الهجرة بامتياز، الولايات المتحدة، "ابرتايدات" داخلية تخلق بين النخب الحاكمة والشعوب شرخا لا يمكن ترميمه، وتهم بأن تطلق هي أيضا حركة تطويق الشعوب، كما فعلت اسرائيل في الضفة الغربية وغزة، بالجدران العازلة، إن لم يكن بفرض حياة الغيتو وشروطه على النخب الحاكمة والمالكة، في ما يسمى اليوم بالمربعات الخضراء، وتحويل الدولة إلى قلعة محاصرة ومحاصرة في الوقت نفسه.

لا يبشر القضاء على  الطبقة الوسطى، الحاضنة التاريخية لقيم التفتح والتسامح والتحرر، بمستقبل زاهر للديمقراطية وقيم التضامن الانسانية واحترام حقوق الانسان. بالعكس يشكل ذوبانها المادي والثقافي معا تربة خصبة لنشوء الفاشية التي تتغذى من اليأس والتي لا تستمد شعبيتها مما تعد به جماهير المهمشين بالتحرر والازدهار وإنما من تهديدها بإدخال كل من لا يزال خارج عنها في دائرة البؤس والاحتقار.

ترامب لم ينجح في أن يكون الممثل الشرعي لجمهور متزايد من الجماهير الضائعة، إلا بمقدار ما برهن في سلوكه وفكره على أنه الوريث الشرعي للحضارة القومية والرأسمالية الرثة التي فقدت روحها ووصلت في آخر عهودها إلى طريق مسدودة أفقدتها ثقتها بالعالم وبالمستقبل. إنه رمز لحقبة شعاراتها السياسية الرئيسية الكراهية و العنصرية، ورائد جيل من القادة والنخب السياسية التي تحضر نفسها للحكم في أكثر من دولة ومنطقة في العقود القليلة القادمة.