من المسألة الشرقية إلى مشكلة الطوائف والأقليات

2014-7-14:: العربي الجديد

بأُطلق اسم المسألة الشرقية على عقيدة التدخل، باسم حماية الأقليات الدينية، الدول الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا وروسيا، والتي انخرطت فيها، فيما بعد، النمسا وإيطاليا وألمانيا، في شؤون السلطنة العثمانية. بدأت هذه السياسة باتفاقية كارلوفيتز عام ١٦٩٩ التي تخلت بموجبها السلطنة عن مناطق واسعة في أوروبا الوسطى، ولم تنته إلا بعد إعلان الجمهورية التركية عام ١٩٢٣، مروراً باتفاقية كوتشوك كينارجي لعام ١٧٧٤ التي قبلت فيها اسطنبول بتقديم تنازلات، أو امتيازات سياسية واقتصادية كبيرة، لروسيا. لكن، حتى بعد ذلك الوقت، استمرت السياسات الأوروبية تنظر إلى الدول الجديدة الناشئة، بما في ذلك تركيا نفسها، من منظار التعدد الأقوامي والمذهبي، وترفض أن تتعامل معها كشعوب تجمع بينها، على الرغم من تمايزاتها الداخلية، الرابطة السياسية، أي رابطة الوطنية التي بدأت تتقدم عند جمهور النخب العثمانية، بشكل كبير، على العصبيات الطائفية والأقوامية، وكانت أكبر مثال على ذلك حرب الاستقلال الوطنية العثمانية ضد التدخلات الأوروبية الرامية إلى تقسيم البلاد.

وعندما استقلت الأقاليم العربية الآسيوية عن السلطنة العثمانية، بدءا من 1919، لم تغير الدول الأوروبية من نظرتها إليها، بوصفها خليطاً غير متجانس من الطوائف والعشائر والأقوام التي لا يجمع بينها شيء، في وقت كانت النخب السورية والعربية الاستقلالية تركز فيه على الانتماء العربي والوطني الجامع، وتعتبر الطائفية والعشائرية والقبلية من مخلفات الماضي المتسم بالجهل، وتعلن حربها ضدها من منظور توحيد الصف الوطني وتأكيد وحدة الشعب والبلاد.

فبعدما قسمت فرنسا سورية، التي كانت هي نفسها ثمرة تقسيم المشرق، حسب اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة، إلى خمس دول، اضطرت إلى التراجع عن مشروعها تحت ضغط النخبة الوطنية في عموم مناطق سورية وتمسكها، على مختلف طوائفها، بمشروع الدولة الوطنية الحديثة التي لا تفرق بين مواطنيها بسبب الطائفة والأصل، وتراهن على بناء وعي وطنيٍ وانتماء سوري وعربي يتجاوز أي انتماءات جزئيةٍ، دينية أو مذهبية. وفي هذا السياق، تبنت الشعار الذي كان في أساس تصور الدولة الوطنية أيضاً في مصر "الدين لله والوطن للجميع" الذي يعني أسبقية الانتماء الوطني في السياسة، بما يتضمنه من الاعتراف بالمساواة التامة في جميع الحقوق والواجبات بين جميع الأفراد. وهكذا، ساد مفهوم المواطنة على حساب مفهوم الانتماء للطائفة أو الأصل، من دون أن يعني ذلك لأحد أن ذلك كان على حساب الإيمان الديني، والتمسك بالعقائد الدينية الاسلامية أو المسيحية.  كان هذا أحد أركان مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي سترى النور في كل البلاد العربية، في حقبة ما بين الحربين العالميتين.

ذكّرني بتلك اللحظة التأسيسية في التاريخ السياسي العربي الحديث أمران: 

الأول ما شهدته من التركيز المفرط للدول الغربية التي وقفت إلى جانب الثورة السورية الراهنة، إلى هذا الحد أو ذاك، على مشكلة الأقليات، وهي الاسم الجديد للمسألة الشرقية، بعد زوال السلطنة العثمانية، ونشوء الدول الوطنية في الفضاء العربي، وسرعة تبنيها مفهوم الشعب المكون من فسيفساء من الطوائف والأقليات. في وقت كانت الثورة فيه لا تكف عن تأكيد وحدة الشعب والدولة وهدفها في الإصلاح السياسي.

والثاني، وهو الأخطر، ما برز بالفعل، في سياق ثورات الربيع العربي، من تبن متزايد من قطاعات واسعة من الرأي العام، ومن النخب السياسية والاجتماعية العربية، لهذا التصور والتخلي عن المفهوم الوطني المؤسس للدولة، لصالح ما يسمى، اليوم، الفيدرالية والفصل الطائفي، وسيلة لمقاومة الاقصاء والتهميش، والوصول إلى مزيد من العدالة وحل للنزاعات الأهلية، المشتعلة في أكثر من دولة عربيةٍ، بشأن مستقبل النظام السياسي. ومع مرور الوقت واستفحال الأزمة، وسقوط آلاف الشهداء والجرحى، من دون أمل بالخلاص القريب من جهة، وتماسك النظم الطائفية القائمة من جهة ثانية، يزداد خيار الفصل الطائفي شعبيةً داخل صفوف عموم الناس الملوعين بالعنف والقتل العشوائي والدمار، ويضغط بقوة متزايدة، أيضاً، على خيارات النخب التي تجد نفسها أكثر فأكثر، أمام باب المصالحة الوطنية المسدود، وتفتقر لأي جوابٍ، يرد على استمرار الحرب والقتال.

بعد عقودٍ من التجربة اللبنانية التي قامت على أساس توزيعٍ طائفي للوظائف السياسية والإدارية، أي لمناصب الدولة، الذي لم يصل إلى درجة توزيع المناطق الجغرافية، وحوالي عقد على التجربة العراقية التي حاولت فيها سلطة، اعتبرت أن من الشرعية أن تفرض الأكثرية المذهبية نفسها وطابعها على السلطة، أعتقد أن الوقت حان لكي نطرح على أنفسنا أسئلة رئيسية، قد تساعد الإجابة عنها والتفاهم حولها عنصراً مساعداً على التوصل إلى حل، واستعادة المقدرة على إطلاق مبادرة وطنية توقف الحرب، وتفتح الطريق أمام إعادة بناء الدولة، ورسم الخطوط العريضة لمستقبل مختلف للشعب والبلاد. فكيف أصبحت قاعدة التفريق الطائفي التي كنا ننظر إليها بوصفها استراتيجية استعمارية، بديلاً مقبولاً للفكرة والسياسة، القائمتين على أسس وطنية، تساوي بين الجميع، وترفض التمييز بين المواطنين؟ وما أسباب هذا التحول وأهدافه؟ وهل تنجح الدول، أو الدول الطائفية، في تحقيق ما عجزت عنه الدولة الوطنية من العدالة والمساواة والاستقرار والحرية والكرامة؟ وما هو حظ مثل هذه المشاريع الطائفية من التحقيق والبقاء؟ هذا ما سوف نسعى إلى تناوله في المقال المقبل.