من التنمية الميركنتيلية إلى التنمية الإنسانية

2010-11-15:: التجديد العربي

أي مواجهة جدية لتدهور الأوضاع العربية الداخلية والاستراتيجية ينبغي أن تبدأ بمراجعة جدية لهذه التنمية، التي تزيد في ثروة الأثرياء وتضاعف عدد الفقراء، ولا تساهم إلا في خلق القليل من فرص العمل والتأهيل والتكوين للأفراد، وتدمر روح المسؤولية، والابتكار عند الشعوب 

عرف العالم العربي في العقود الثلاثة الماضية تحولات عميقة هزت توازناته الداخلية والخارجية وفجرت ـ ولا تزال ـ توترات ونزاعات لم يعرف مثلها من قبل. ولا تكاد هذه التحولات تحظى بأي قسط من التحليل والتفكير، ينما يوجه الباحثون جل اهتمامهم إلى المسائل الدينية والأيديولوجية التي يبدو التعامل معها أسهل وأقدر على تقديم أجوبة سريعة ومبسطة للتحديات التي تواجهها مجتمعات العرب اليوم. وقد طالت هذه التحولات البنيات المجتمعية العميقة جميعا، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

فعلى المستوى الاقتصادي حصلت تحولات عميقة في إطار تحويل الاقتصادات الحكومية أو الدولوية إلى اقتصادات خاصة، أو يسيطر عليها القطاع الخاص.

وعلى الصعيد الاجتماعي، فتح هذا التحويل التخصيصي في المجال الاقتصادي الباب أمام صعود طبقة جديدة من رجال المال والأعمال واحتلالها موقعا متميزا في الهرم الاجتماعي أزاح إلى مؤخرة الصورة الطبقة الوسطى والطبقات البرجوازية الصغيرة التي سيطرت على جو الحقبة السابقة أو التي سبقتها.

وعلى الصعيد السياسي فسح هذا التحول المجال أمام تغيير عميق في طبيعة السلطة السياسية وتوجهاتها وأهدافها، ولو أن وسائل ممارستها الخارجية، من تقييد للحريات ورفض للتعددية وإغلاق لباب التداول والمشاركة الشعبية، لم تتغير. ولعل السمة الأبرز في هذا التحول هو تزايد التطابق بين السلطة والمال، وما نشأ عنه من إرادة سياسية تنزع إلى تكريس السيطرة الشاملة والدائمة على المجتمعات، كما تشير إليه قضية وراثة المناصب في الجمهوريات التي تحولت إلى محور رئيسي في النقاش السياسي العربي الراهن.

وعلى الصعيد الثقافي ومنظومات القيم التي توجه سلوك النخب وتضبطه، تكاد قيم الاستهلاك والتنافس على الإثراء وحب الظهور، التي ارتبطت بصعود الطبقة المالية و"الكمبرادورية" الجديدة من رجال المال والأعمال، وهي غير ثقافة الكدح والجد والتحصيل العلمي التي ميزت الطبقة الوسطى السابقة في سعيها لنيل الحظوة الاجتماعية، تصبح ثقافة النخب السائدة عموما، وتضغط بقوة على منظومات القيم الاجتماعية الشعبية والتقليدية، وتبعث في البلاد ما يشبه الحرب الثقافية أو القيمية الكامنة وأحيانا المشتعلة في أكثر من مكان، بصرف النظر عن سيطرة قيم الحداثة الاستهلاكية على جميع الأوساط.

لم تكن هذه التحولات مرسومة في التاريخ العربي مسبقا ولا هي تعبير عن أي تراث وإنما هي ثمرة اختيارات سياسية واقتصادية تبنتها الحكومات العربية بعد الحقبة الرديكالية وربما انتقاما منها، وكان عنوانها التكيف السريع والانفرادي مع "الثورة" الليبرالية والنيوليبرالية العالمية. وإلى هذه السياسات ينبغي في الواقع رد ما يعيشه العالم العربي اليوم من انقسام وتباعد بين أطرافه، ونزوع بعضها للتحالفات الخارجية، وتحوله إلى مناطق فارغة من القوة الاستراتيجية يتنازع على اقتسامها أصحاب المشاريع الهيمنية الإقليمية والدولية. وهي التي تفسر أيضا حالة الاضطراب والتوتر التي تعيشها المجتمعات العربية سواء بسبب تفاقم التفاوت بين الطبقات، أو القطيعة المتنامية بين النخب والمجتمعات، أو الشعور المتزايد بالحرمان وانسداد الآفاق. وهي كذلك التربة التي تترعرع فيها النزاعات السياسية والإثنية والطائفية والاجتماعية، وتتنامى في ظلها مخاطر الانفجارات وأعمال التمرد والفوضى والعصيان.

وفي اعتقادي أن أي مواجهة جدية لتدهور الأوضاع العربية الداخلية والاستراتيجية ينبغي أن تبدأ بمراجعة جدية لهذه التنمية الميركنتيلية، التي تزيد في ثروة الأثرياء وتضاعف عدد الفقراء، ولا تساهم إلا في خلق القليل من فرص العمل والتأهيل والتكوين للأفراد، وتدمر روح المسؤولية وإرادة الاستثمار وبذل الجهد المنتج وروح الابتكار عند الشعوب، كما تفتقر لأي إطار إنساني وأخلاقي، ولا تستمر إلا في ظل القهر وثقافة النزاع والكراهية. واستبدالها بنمط بناء ومحفز ومنتج من التنمية الإنسانية. وتعني التنمية الإنسانية استخدام الموارد المتاحة بما يحسن من سيطرة الإنسان، أفرادا ومجتمعات، على مصيره، ويوسع من دائرة اختياره، ويزيد من ثقته بنفسه وولائه لوطنه وطاعته لقوانينه، واستثماره لجهده. ففي هذه السيطرة تكمن إمكانية توسيع دائرة وهامش الحرية التي هي أبرز مصلحة في قائمة المنافع العمومية، بما تعنيه من تحرير إرادة المجتمعات وإضعاف ارتهانها لقوى خارجية، من قوى طبيعية أو دول قوية أجنبية أو شركات دولية أو مراكز سلطة ومال. وفي تمثل قيم هذه التنمية وأهدافها يتحقق معنى الإنسان كوعي وإرادة ومقدرة على الاختيار. وبممارستها تولد الثقة بالنفس والأمل بالمستقبل وينشأ الاستقرار ويسود الأمان.

في هذه الحالة، لن يكون مقياس التنمية زيادة الناتج القومي ولا نقل التكنولوجيا ولا حتى ارتفاع مستوى دخل الفرد. كل ذلك ليس إلا وسيلة لتعزيز سيطرة الإنسان على ذاته ومصيره، ولا قيمة له من دون ذلك. فهي تكمن في تنمية قدرات الفرد وتوسيع إطار تفكيره، وفي تعميق الشعور بالأمن والاستقرار المشجع على بذل الجهد والاستثمار والعمل والإبداع، وهذا ما يبعث الرضا في النفس وعن النفس، وينتج الشعور بالسعادة التي هي غاية كل إنسان, والشعور بالسعادة ينمي روح الغيرية والتضحية عند الأفراد ويعمل على تعزيز روح التسامح والسلوك حسب مبادئ العقل والأخلاق.

ومن دون ذلك لا قيمة لتراكم رأس المال ولا لنمو الناتج الوطني ولا لاستيراد التقنيات الحديثة والمتقدمة، ولا لبناء الأسواق الاستهلاكية العملاقة والأبراج الشامخة. بل لن تكون جميعها سوى مصدر إضافي لاستلاب الإنسان وبؤسه.

وهذا هو للأسف انطباع المرء عندما يزور البلاد العربية. فما يسم مشاعر أغلب سكانها اليوم هو الشعور بالبؤس وانعدام الرضا عن النفس وضياع معنى السلوك حسب قواعد أخلاقية، ومن باب أولى معنى المتعة الفنية. وما يطبع حياة شعوبها هو القيود المتزايدة التي تفرضها هي على نفسها، وتلك التي تفرضها عليها القوى الخارجية، دولا كانت أم منظمات أم شركات أو سلطات مفروضة بالإكراه. وما يحرك أبناءها ويقودهم هو غريزة الخوف التي ينميها الشعور بالغربة في العالم وعنه، والجهل بأسرار قوته وبأسه، وشعورهم بانعدام القدرة والإرادة والارتهان للقوى والعوامل الخارجية.