محنة الديمقراطية العربية بين حلم الإمبراطورية ووهم الاستقلال

2005-04-12:: الاتحاد

 بالرغم مما أخذ يشوب خطاب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وبقية أعضاء الإدارة الأميركية بخصوص مسألة دفع الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير والعالم العربي بشكل خاص من نبرة رسالية، بل ربما بسبب هذه النبرة المتصاعدة بالذات تطرح المسألة الديمقراطية عند الرأي العام العربي أسئلة كبيرة وعديدة لم تتبلور أي إجابة عنها بعد. من هذه الأسئلة وأكبرها ما يتعلق بموقف الدول الأطلسية الأوروبية والأميركية العميق وحقيقة التزامها بالتحولات الديمقراطية العربية. فما الذي يبرر مثلا الاعتقاد بأن بث الديمقراطية في البلاد العربية يشكل خيارا نهائيا للولايات المتحدة لا تعبيرا سطحيا عن التقاء ظرفي للمصالح نابع من رغبة واشنطن في تحسين صورتها كقوة هيمنية جديدة طامحة إلى خلافة المنظومة الإقليمية العربية والعروبية معا؟... أو من شعور عميق عند الأميركيين والأوروبيين عموما بأن ما حققوه من نفوذ في هذه المنطقة الاستراتيجية الحساسة من العالم عن طريق فرض أنظمة أمنية تحكم بالقوة المجردة والتنكر للقانون لن يستطيعوا الحفاظ عليه من دون تغيير سياساتهم والرهان منذ الآن، حتى لا تغرق سفينتهم مع النظم الاستبدادية المنهارة، على شعار الديمقراطية والقوى التي تنضوي تحت رايتها؟ وكيف سيتصرف الأطلسيون والأميركيون على رأسهم في المستقبل إذا حصل أن أتت نتائج الاقتراع الديمقراطي لتعزز السير في طريق لا يخدم المصالح الأطلسية؟ وإلى أي حد يمكن أن تشكل النظم الديمقراطية إطارا مناسبا يتفق مع هذه المصالح أو يساعد على التوفيق بينها وبين المصالح الوطنية للعرب عامة؟ ثم إلى أي حد يمكن تصور نشوء ديمقراطية عربية مستقلة وربما متناقضة في توجهاتها العامة مع متطلبات نفوذ القوى الأطلسية في المنطقة؟ ومن جهة أخرى، وفي ما يتعلق بوجهة النظر العربية، هل ينبغي لنا أن نرفض التحولات الديمقراطية لأنها قد تؤدي إلى تراجع مواقعنا الاستراتيجية وزيادة فرص تدخل الدول الأجنبية؟ ثم أليس من مصلحتنا أن نتعاون مع الدول الكبرى الطامحة إلى الهيمنة على المنطقة العربية ونيل قسط أكبر من الحريات الفردية وربما من الفرص لتحقيق التنمية الاقتصادية والتحكم بشكل أفضل بمصير أوطاننا القطرية بدلا من الوقوف ضدها وربما خسارة جميع الرهانات العربية؟ وهل لا يزال من المشروع بل من الممكن الدفاع عن النظم الاستبدادية أو تبرير التعاون معها تأكيدا لاستمرار روح المقاومة حتى لو كان ذلك على مستوى الخطاب والحفاظ على قيم الوطنية العربية الأساسية؟ هذه هي الأسئلة التي يتوجب علينا اليوم جميعا الإجابة عنها في المعركة الدائرة اليوم حول إعادة بناء الشرق الأوسط ومستقبل التحولات التي سيشهدها في السنوات القادمة.

ما حصل ولا يزال يحصل في لبنان ما بعد اغتيال الحريري، وما حصل ولا يزال يحصل أيضا في العراق قبل انتخابات 31 فبراير وبعدها يقدم صورة واضحة عن الانقسام العميق الذي يعيشه الوعي والمجتمع العربيان في مواجهة هذه الاختيارات الصعبة والمؤلمة معا. وهو من النوع الذي لم يطرح ربما في أي منطقة في العالم تعيش كما تعيش مجتمعاتنا العربية مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية. مما يجعل من غير المفيد بالفعل مقارنة ما يجري في بلادنا مع ما عاشته أو تعيشه بعض بلدان أوروبا الشرقية الطامحة إلى ملاقاة الدول الغربية على طريق الديمقراطية والاندماج السياسي والتوجهات الثقافية معا.
ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن السمات الخاصة التي تميز هذه المنطقة وتجعل منها منطقة استراتيجية من الدرجة الأولى، تقضي بأن لا تأتي الديمقراطية هنا إلا في مناخ القطيعة والشك والتمزق، فهي تأتي بالفعل على أنقاض نظام الحركة القومية العربية الذي ولد من صراعات نهاية الحرب الثانية وتبلور حلم الاستقلالات العربية. وهذا ما يجعل من معركة الديمقراطية في البلاد العربية معركة طويلة ومعقدة معا. لا ينبغي أن نأمل بتحقيق أي تقدم راسخ وثابت على صعيد تحقيق برنامج التحولات الديمقراطية من دون أن ننجح مسبقا في الدمج الخلاق بين قيم الديمقراطية وقيم الوطنية، وهو التحدي الرئيسي الذي يتوقف على مواجهته نجاح مشروع إعادة بناء أو تأسيس الوطنية العربية التي دمرتها سنوات طويلة من الاستبداد وضياع الأحلام القومية والاحتراب بين قوى المجتمعات وقيمها الأساسية.من هنا من المفيد أن نسمع أصوات الموالاة وهي تشير إلى السياق الجيوسياسي الدولي والإقليمي الذي يفسر ولادة الوضع الجديد. فهو يساعدنا على ألا نعيش في الأوهام ولا أن نتجاهل حدود الإنجازات التي حققتها الحركة الشعبية الديمقراطية مهما كانت قوة هذه الحركة وأصالتها واستقلالها. لكن هذا لا يقلل من قيمة التحولات الجارية ولا يلغي مضمونها الديمقراطي. بل أكثر من ذلك إنه لا يشكل بأي شكل مصدرا لإعادة الشرعية لنظام القهر القائم أو يبرر استمرار تقديم الدعم له.
فالمسؤول الأول عن وضع مسألة الديمقراطية في المأزق الذي تعرفه الآن هو النظم الاستبدادية نفسها التي قطعت على المجتمعات طرق التحول السلمي والمستقبل وحرمتها من جميع الوسائل السياسية التي تسمح لها بالتعبير عن إرادتها بحرية. ينبغي أن يدفع ذلك بالعكس إلى إدانة هذه النظم.
لكن مهما كان الحال، لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يطلب من شعب أن يقبل الخضوع إلى ما لا نهاية، باسم أي قضية كانت، بما في ذلك قضيته الوطنية، في حال كان من الممكن تصور ارتباط ضروري بين الوطنية والقهر في ظرف ما. ومهما فعلنا فلن يمكننا تأخير الانفجار والخروج على أنظمة قمعية فقدت مبرر وجودها بالدرجة الأولى لأنها أظهرت عجزا متزايدا عن الرد على متطلبات المقاومة الناجعة والتصدي للاحتلال والاستعمار والهيمنة الأجنبية معا. وبقدر ما أصبحت هذه الأنظمة تساوم، هي نفسها، على برنامجها الوطني وتقوم بتقديم التنازلات الواحدة بعد الأخرى للحفاظ على مواقعها أو للبقاء في السلطة فستفقد بشكل أكبر مشروعيتها وتحول خطابها الوطني إلى عملية ابتزاز بالوطنية تتناقض مع حقيقة الممارسة اليومية. وعندما يصبح الخيار بين خضوع للسيطرة الأجنبية في إطار نظام قهري يعمل لحساب أقلية اجتماعية ضئيلة وخضوع للسيطرة ذاتها في إطار نظام تعددي يفتح أفق التحولات السياسية والاجتماعية الداخلية هو الخيار الوحيد القائم فسيكون من الأسهل على المجتمعات الاتجاه نحو الخيار الثاني. ولا يعني ذلك ولا يمكن أن يعني التفاهم أو القبول بالسيطرة الأجنبية ولكن استخدام ثغراتها من أجل الإطاحة بها واستعادة السيادة الوطنية.