مؤتمر القمة العربي

2002:: الجزيرة نت

ربما كانت المنطقة العربية من المناطق العالمية القليلة التي لا تزال تفتقر للتنظيم الاقليمي الناجع. وربما يبدو هذا الوضع وضعا مفارقا اذا اخذنا بالاعتبار الاستثمارات المعنوية والسياسية الهائلة التي وظفها العرب في مسألة الوحدة العربية منذ اكثر من قرن ووشائج القربى الفعلية العديدة التي تربطهم بعضهم بالبعض الاخر وتجعل التضامن فيما بينهم تلقائيا في معظم الاحيان, حتى لو حالت ظروف كثيرة, في مقدمها الخوف وانعدام التنظيم وضياع الرؤية, عن ترجمة هذا التعاطف ترجمة عملية وفاعلة.
ولا شك ان الخشية من الانفراط النهائي للمنطقة وانفتاح الافاق نحو صراعات لانهائية ودامية بين البلدان العربية هو الذي يفسر تمسك العرب, رسميين واهلين, بالجامعة العربية, وذلك بالرغم من الاجماع على لافاعليتها في صورتها الحالية وانعدام أي تأثير لها في الحياة العربية الوطنية والجمعية. فاذا لم يمكن تحويل الجامعة الى اطار للعمل الجماعي المشترك واداة لحل المشاكل بين الدول العربية ووسيلة لبث الاتساق والانسجام بين مصالح الدول العضوة فيها امرا ممكنا, ربما كان من المفيد الابقاء عليها من حيث هي قيمة رمزية. فيقاؤها الشكلي يضفي الشعور بوجود كتلة عربية واحدة او على الاقل احتمال تطور الاوضاع في هذا الاتجاه, وذلك عند الرأي العام العربي والرأي العام العالمي على حد سواء.
ونستطيع ان نقول انه منذ السابع والعشرين من شهر اذار مارس الحالي, بعد تكريس طابعها المؤسسي وتحويلها الى دورية, اصبحت القمة العربية اطارا مؤسسيا اضافيا لتنشيط العمل العربي الجماعي وتنظيم الشؤون الاقليمية المشتركة بين الدول العربية. ويلقي هذا التغيير الذي يحول القمة الى المؤسسة الرئيسية للعمل العربي المزيد من المسؤوليات على الرؤساء العرب ويضعهم في خط المواجهة الأول ويزيد من توقعات الجمهور العربي تجاههم ويعرضهم بالتالي لضغوط اشد مما كان عليه الامر في السابق. ومن المؤكد أن العديد منهم كان في غنى عن ذلك وكان يفضل البقاء بعيدا عن واجهة الاحداث واحتمال المحاسبة الاكبر. لكن توالي العديد من الاحداث الصعبة وفي مقدمها الحرب الاسرائيلية الفلسطينية قد اكره الكثير منهم على الانصياع لما بدا في ذلك الوقت التنازل الادنى المقبول من قبل رأي عام يهدد باستخدام سلاح الاتهام ويطالب بالتدخل العملي الفوري.
ومن الواضح لكل مراقب متابع ان الزعماء العرب لا يحبون القمة التي تجمعهم ولا يهضمونها ويأتون اليها مرغمين ويعيشونها كما لو كانت اشغالا شاقة. ومنذ وفاة الرئيس عبد الناصر الذي كان وحده يعرف كيف يستفيد منها ويستخدمها في عملياته الاستراتيجية الكبرى لا تكاد تنعقد قمة بصورة طبيعية او حماسية. وانما يجر لها الزعماء جرا. فقسم يتردد وقسم لا يعلن عن موافقته الا متاخرا وقسم يطلب التأجيل وقسم ثالث يفرض شروطه مسبقا على نظرائه حتى يقي نفسه ربما احتمالات الضغط عليه او حتى ينجح في ابتزازهم لتحقيق مصالح خصوصية. وقليل جدا من القمم تأكد انعقادها منذ الاعلان عنها. فالعادة ان يبقى الرأي العام يشك في انعقاد القمة حتى اللحظة الاخيرة.
ومنذ سنوات عديدة لم يعد الرأي العام ينتظر من القمة شيئا اخر غير اعلان موقف سياسي من الاحداث الخطيرة التي يشهدها ويخشى ان يكون ضحيتها. وقد ادرك الزعماء ذلك فاصبح موضوع القمة الحقيقي والوحيد هو التصديق على البيان السياسي الختامي الذي يكون وزراء الخارجية قد اعدوه مسبقا بالتفاهم مع رؤوسائهم. واصبح التوصل الى بيان مشترك يعتبر نجاحا للقمة, ذلك ان الجميع يعيش فكرة الانقسام الذي لا حل له. وبالفعل يعتبر التوصل الى بيان يرضي الجميع مسألة اشكالية من الطراز الأول. ومن هنا يعتبر اصدار البيان حسما للمعركة الرئيسية والحقيقية التي شغلت اطراف القمة. وباستثناء بعض المصالحات التي تحصل بين الزعماء المتنابذين باستمرار لا تكاد القمم العربية تدرس أي مشاريع عمل او خطط او تسويات للمشاكل القائمة اللهم الا عندما يستدعي ذلك صوغ البيان الختامي. ولم يعد الرأي العام يطالب القمة بدراسة مثل هذه المشاريع لأنه يئس من تطبيق الاتفاقات السابقة التي لا تحصى وصار قانعا بالحد الادنى الرمزي للعمل العربي.
والسؤال هل من الممكن ونحن على ابواب دورة جديدة للقمة العربية ان نحلم بارساء تقاليد واصول عمل جديدة وان نطرح اذن بجد مسألة اسلوب عمل الاطر العربية الجمعية والقمة الدورية بشكل خاص ونتساءل عن السبب الذي يجعل العرب عاجزين عن الاستفادة كما يفعل غيرهم من فرص العمل الجمعي والاقليمي الكثيرة والمجزية؟
يشير الكثير من المراقبين الى ان السبب الرئيسي لغياب الاهتمام بالعمل الجماعي وعدم الالتزام بالاتفاقات المعقودة وغياب الجدية هو غياب الارادة السياسية عند الكثير من الدول. ويعتقد معظم المحللين الغربيين الذين لم يهضموا يوما فكرة التكتل العربي التي تهدد باقامة قوة اقتصادية واستراتيجية وازنة جنوب المتوسط انه ليس هناك بالفعل ما يجمع بين العرب لان مصالحهم متناقضة او متباينة. ومن الواضح ان ما يقصده المحللون الغربيون هو تباين مصالح الانظمة والنخب الحاكمة. وهم على حق في ذلك طالما ان السياسات داخل الدول العربية لا تزال تصاغ بعيدا عن مشاركة الجمهور ومن خارج أي أطر تمثيلية حقيقية. لكن غياب الارادة السياسية مثلها مثل سيطرة النزاعات والحساسيات الشخصية بين الزعماء ليس مستقلا عن غياب المصالح المشتركة بل هو يعكس هذا الغياب ويعبر عنه. ومن هنا نستطيع ان نقول بالفعل انه بالرغم من المصالح الكبرى والبدهية التي تجمع بين الشعوب العربية وتغذي عند الرأي العام نزوعا قويا الى التضامن والوحدة وتدفعه الى الضغط على الحكومات العربية للتعبير عن هذا التضامن بقوة في كل مرة يتعرض فيها شعب عربي للأذى فليس هناك جدول اعمال عربي واحد لأي قمة عربية. هناك في احسن الاحوال اربع أو خمس جداول عمل لكل قمة ان لم تأتي كل دولة بجدول اعمالها الخاص لفرضه على الاخرين.
والحال ان تباين المصالح بين الانظمة ليس مستقلا هو نفسه عن طبيعة هذه الانظمة. فالانظمة الديمقراطية تعمل الى دفع نخب مستندة على القبول الشعبي الى الحكم. ولا تشعر هذه النخب ان الدولة ملكية خاصة لها ولاولادها من بعدها وتعمل بما يمكنها من البقاء الابدي في السلطة. ولذلك فليس لديها مانع من أن تتعاون مع غيرها لتحسين شروط حياة السكان وخدمة المصلحة الوطنية العامة. بل ان نجاحها في تحسين شروط حياة السكان هو ورقتها الوحيدة الرابحة في التنافس على الحكم. وبالعكس ان النخب التي لا تقوم على اساس الاقتراع العام ولا تستند في بقائها على موافقة الشعب وقبوله لا يحركها شيء اخر سوى توسيع سلطاتها وزيادة احكام قبضتها على المجتمع والدولة. بل ان عزلهما عن المحيط الخارجي والحد من التأثيرات الاجنبية هما شرط استمرارها في السلطة وامتلاكها للدولة ومواردها.
ولعل هذا ما يفسر ان تصورات الزعماء نادرا ما تتجاوز في أي قمة ما يرتبط بدائرة المصالح المباشرة الفورية ودائرة المصالح القطرية او الخاصة فحسب. ولعل ما ينقص القمة العربية ويمنعها من ان تتحول الى اطار سياسي وقانوني فعال وناجع للتعاون المتعدد الاطراف كما هو سائد في مناطق اخرى هو وجود قيادة ذات رؤية تاريخية قادرة على توحيد جداول الاعمال المتناقضة والمتباينة العديدة وبلورة أهداف مشتركة ووسائل عملية لتحقيقها. ومثل هذه القيادة لا يمكن ان توجد من دون تحولات ديمقراطية حقيقية تدفع الى الحكم مجموعات حساسة لما تعيشه شعوبها وراغبة فعلا في العمل من اجل مساعدتها على التحرر والانعتاق, أي مجموعات لا تعتبر الفقر والجهل والبؤس قدرا وانما ثمرة للهرب من المسؤولية وسوء السياسات الوطنية.