لثورة في عصر الردة!

2009-11-08:: الاتحاد

 في الرابع من شهر أكتوبر المنصرم، غيب الموت محمد السيد سعيد، الباحث البارز وأحد أنشط المشاركين في النقاش السياسي والاجتماعي الدائر في المجتمعات العربية حالياً. وبعكس كثير من المثقفين الذين تخلوا بشكل أو بآخر، وعلى طريقتهم الخاصة،عن أحلام التغيير ومشاريعه، وأيضاً بعكس الذين تمسكوا بأفكارهم ومواقفهم دون أن يأبهوا لتغير الواقع وتبدل الظروف… صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة التي سلكت الطريق نفسه، في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقته للرد على التحدي الكبير الذي يطرحه السؤال: كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الإنساني حية في ظروف الردة الدينية الواسعة من دون الخروج على المجتمع والالتحاق بالاستراتيجيات الدولية؟ وسؤال ما زال يشكل محور تفكير وعمل كثير من المثقفين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع هزيمة مشروع الحداثة العربية، كما لو كان أمراً حتمياً ونهائياً.

وفي سياق هذا الرد، انصبت جهود أولئك المثقفين، وفي مقدمهم السيد سعيد، على محورين:
الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه، وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهرياً فيه ومرتبطاً بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانوياً أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجوداً ولا راهناً ولا مهماً. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك أن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة من أفكارنا المسبقة ومن العقديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها وتقديسها خلال حقبة طويلة. كما يتطلب مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها. فمثلاً لا يمكن مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال، من دون إبراز فكرة الأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي دون الاسترشاد بالمواطنة كقيمة سياسية وأخلاقية معاً. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج الاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والسياسية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل، ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية، كما تبلورت في الخمسينيات، من دون إعادة بناء فكرة العروبة في ارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي جعلت منها محوراً لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس جغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في الوطن العربي، وتجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية.
وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوافر إلا لأصحاب المبادئ، طريقاً لإعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير، منطلقاً لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته، الشرط الأول لإعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.
في هذا النقد المزدوج، النظري والعملي، للوضع القائم، كان محمد السيد سعيد، ومن دون أدنى شك، رائداً وصاحب سبق. وقد كانت صحيفة “البديل” التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير “البديل” هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب، ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضاً.
فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة، أعاد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموماً، وربطها بالديمقراطية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية، أعاد النظر أيضاً في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية.
وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في نزعة العداء للهوية والافتتان بالليبرالية الاستعمارية، دافع سعيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس كثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع “الدمقرطة” التي أطلقتها الإدارة الأميركية السابقة، وأيدتها الدول الأوروبية، لم يتزعزع إيمان محمد السيد سعيد باستقلالية حركة التغيير العربية، وبالارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى سعيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضاً، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والاشتراكيين… وأن يبني لنفسه موقعاً في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معاً، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير أجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية.
بهذا المعنى كان سعيد، كما ذكر عن نفسه، يسارياً بين الليبراليين وليبرالياً بين اليساريين، قومياً بين القطريين ومصرياً بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم جميعاً. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.
وهذا التغيير هو الذي جعل السيد سعيد يكتشف أيضاً الحركة المدنية وينخرط فيها. لقد كان مفكراً عملياً وثورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، إلا واستثمرها. لهذا كان حاضراً في كل المناسبات النضالية، واثقاً من عمله، متفائل العقل، رغم صعوبات العمل وتحديات الواقع وعوائقه.