قضية المثقفين المعتقلين في سورية

2002-04:: الوطن

 

هل يمكن لصوت العقل ان يتغلب على مشاعر الخوف والشك والتردد؟

لا يزال الاضراب المفتوح عن الطعام الذي اعلنه ستة من المثقفين السوريين المعتقلين احتجاجا على بقائهم في السجن منذ ستة اشهر من دون توجيه تهمة لهم وبالتالي من دون محاكمة ومع منع السلطات محاميهم من الاتصال بهم مستمرا منذ مايقارب الاسابيع الثلاث من دون ان يكون بمقدور احد زيارتهم او معرفة ما يجري لهم بما في ذلك عائلاتهم التي اعلنت هي نفسها الاعتصام من أجل دعم معتقليها السياسيين.

وفي الوقت نفسه حكمت محكمة الجنايات الثانية على نائب دمشق رياض سيف بالسجن خمس سنوات بتهمة الاعتداء على الدستور وخرقه وكانت قد حكمت قبل اسبوعين على النائب الدمشقي مأمون الحمصي بالعقوبة ذاتها وبتهمة استهداف تغيير الدستور بطرق غير مشروعة ومحاولة منع السلطات من ممارسة وظائفها المنصوص عنها في القانون ومحاولة النيل من الوحدة الوطنية والتشهير بالدولة ومقاومة أعمال مؤسساتها وذم وقدح السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

 وكان الحمصي نفسه قد  أعلن قبل اعتقاله إضرابا عن الطعام يهدف إلى لفت نظر السلطات، حسب نص البيان الذي نشره، إلى احترام <قدسية الدستور والحد من حالات الطواريء والغاء الأوامر العرفية، وسيادة القانون وتعزيز سلطة القضاء واصلاحه وضمان استقلاله> وإلى <ملاحقة الفساد والهدر بكل أشكاله، ورفع أيدي بعض المسؤولين وأبنائهم عن خيرات هذا الوطن>، و<الحد من تدخلات الأجهزة الأمنية في الحياة اليومية>، و<تشكيل لجنة برلمانية لحماية حقوق الانسان، وتفعيل دور مجلس الشعب وعدم المساس والتعرض للناشطين فيه وعدم قمعهم، وتغيير الأسلوب المتبع بالضغط عليهم داخل المجلس وخارجه والالتزام بالمادة 66 من الدستور المتعلقة بحصانة النواب، وأن يلتزم رئيس مجلس الشعب بتطبيق النظام الداخلي بالشكل الأمثل>· وقد تم رفع الحصانة النيابية عن مأمون الحمصي بإذن من رئيس مجلس الشعب الذي اعتبر نفسه ممثلا للمجلس أثناء عدم انعقاده، ونظرا لخطورة القضية وعاجليتها·

وقد أثارت الطريقة التي استخدمها القضاء السوري في تجريم نواب دمشق والاضراب المفتوح الذي أعلنه المثقفون السوريون المعتقلون احتجاجا على انعدام العناية الطبية والبقاء في السجن منذ ستة اشهر من دون توجيه تهمة ولا محاكمة ولا مقابلة المحامين استياءا وقلقا كبيرين في الاوساط السياسية السورية والدولية معا. فأصدرت جميع منظمات حقوق الانسان المعنية بالمنطقة بيانات احتجاج وادانة عنيفة، بينما نشرت خارجية فرنسا، الدولة الراعية للوضع السوري الراهن والمدافعة عنه في الاوساط الاوربية، الى التعبير عن استغرابها لشدة العقوبة والاعراب عن قلقها على مصير بقية المعتقلين. وجميع المعنيين بمستقبل سورية يستغربون اقدام السسلطات على مثل هذه الممارسات التي تسيء بشكل كبير لسمعة الحكم والنظام في الوقت الذي لا توجد فيه أي مخاطر واضحة تبرر دفع هذا الثمن الغالي جدا بالمعايير السياسية والاقتصادية معا بالنسبة لبلد يبحث عن الخروج من عزلته والاستفادة من الانفراجات الدولية.

بيد ان قلق الراي العام السوري يتجاوز بكثير ما تشعر به المنظمات الانسانية والدبلوماسيات الحريصة على مساعدة الحكومة السورية، ليس بسبب ملابسات الحكم نفسه ولا خشية على صحة المعتقلين المضربين فحسب ولكن اكثر من ذلك بسبب الخوف من ان تكون مسالة الاعتقالات التي ارادت الحكومة  لها ان تكون درسا للمثقفين والمعارضين تقي نفسها به شرهم لسنوات وتردعهم عن النشاط وتلزمهم بالصمت بمثابة رصاصة الرحمة بالنسبة لمشروع أو حلم التهدئة العامة والعودة الى الوضع الطبيعي والخطوة الاولى لانزلاق البلاد نحو دورة جديدة من العنف والاقتتال والمواجهات الدامية التي أراد الرأي العام الخروج منها وراهن على الرئيس الشاب وتحمس له من أجل توفير شروط الابتعاد عنها بأسرع وقت.

والواقع أن الطريقة التي عالجت فيها الحكومة السورية مسألة المعتقلين تشير الى درجة التباعد بين ما يفكر فيه المجتمع وما تفكر فيه السلطة ومدى انعدام التواصل النفسي والسياسي بين أصحاب القرار والرأي العام.

فقد أرادت الحكومة كما يبدو أن تراعي في تحديد العقوبة على النائبين الدمشقيين معيارين مهمين من وجهة نظرها هما معيار ان تكون رادعة للجميع ومعيار ان لا تغلق باب الحوار مع الرأي العام العالمي الذي يراقب تطور الأوضاع في سورية من خلال متابعة قضية المعتقلين وهو ما يعبر عنه الحضور الكثيف للدبلوماسيين في جلسات المحاكمة.  فعقوبة الخمس سنوات تبدو في نظرها معتدلة جدا بالمقارنة مع ما كانت توعدت به النائبين في بداية الجلسات، أي الحبس من 15 الى 20 عاما كحد ادنى على الاعتداء على الدستور والدولة. وهي تريد لها أن تحمل باعتدالها هذا رسالة الى الرأي العام العالمي بأن الحكومة السورية لم تتخل عن مشروع الانفتاح والتحديث والتطوير. ولو كانت تريد ذلك بالفعل لحكمت النائبين بالاعدام. لكن بالمقابل تظل عقوبة خمس سنوات سجن بسبب بيان لنائبين لم يكفا عن إعلان ولائهما للرِئيس حتى في احلك ظروف محاكمتهما, تبدو ايضا شديدة بما فيه الكفاية حتى تظهر للرأي العام السوري الذي بدأ يستيقظ تحت تأثير صراع المثقفين بأن موقفها السياسي لم يضعف كما تدعي المعارضة لدرجة يمنعها من ايقاع العقويات القاسية بمن يتعرض لها بالنقد.

ومن وجهة نظر سياسية محضة هناك اكثر من سبب للاعتقاد بأن حسابات السلطة السورية هذه قد تكون بعيدة كثيرا عن الصواب وأن نتائجها من المحتمل أن تكون معكوسة تماما. فأولا بصرف النظر عن تفكير الحكومة وحساباتها السياسية الخاصة يعتقد ابن الشعب العادي ان النائببين، مثل بقية المعتقلين جميعا، لم يقوما بأي خطإ أو جريمة يستحقا عليها العقاب وأن ما حصل لهما ولجميع المعتقلين نابع من تصميم السلطة على وقف حركة النقد والانفتاح التي بدأها المثقفون وتبعتهم فيها فئات صغيرة اخرى. وهو، اقصد الرأي العام، وإن كان غير مهتم بالمعارضة ولا واثق من امكانية التغيير أو حتى قادر على التفكير فيه فإنه اعتبر اعتقال السلطة للمثقفين والنائبين وسيلة من وسائل الضغط على خصومها لا غير. وكان يتوقع ان تنتهي القصة ب <فركة اذن> بسيطة للمشاغبين أو ما يعتبرهم كذلك, لكن عقوبة خمس سنوات ستبدو عقوبة ظالمة وقاسية بصورة غير معقولة وبالتالي غير مبررة تعكس روح الانتقام وعقلية التجبر والاعتداد بالقوة أكثر مما تعبر عن الرغبة في العقلنة والاعتدال. ولا شك أن مثل هذا الحكم القاسي يغذي تعاطف الرأي العام مع المعتقلين والناشطين المظلومين ويثير الشك برغبة الحكومة في الاصلاح والتغيير وذلك بقدر ما يساعد على تبديد سراب الانفتاح والانفراج والتسامح مع الآخرين المختلفبن في الرأي الذي بنى عليه العهد الجديد شعبيته.

قد يعتقد المسؤولون الذين صمموا العقوبة وفصلوها ان حالة الحمصي تحتمل الشدة في العقوبة أكثر من غيرها فتكون بذلك مثالا يوفر انزال عقويات شديدة بالآخرين. فالحمصي بحسب ما نشرت الصحافة السورية مرارا ليس معارضا سياسيا ولكنه مهرب ومتهم باختلاس أموال الدولة بالدرجة الأولى. ولا يمكن لأحد أن يتعاطف مع رجل مثله. بيد أن أصحاب القرار في تشديد العقوبة نسوا أنه ما دام النائب لم يعتقل بتهمة التهريب ولا حوكم عليها ولكن حوكم على ما سمي الاعتداء على الدستور والدولة، فسوف تكون النتائج هنا معاكسة تماما. وسوف ينظر الرأي العام الى هذه التهم الاضافية حتى لو افترضنا ان لها قسطا من الصحة على انها اتهامات باطلة، وسوف يعزز هذا من الشعور بقسوة العقوبة الظالمة التي أوقعت بالحمصي.

وثانيا عبرت الهيئة ذاتها التي حددت سنوات السجن الخمس للحمصي ورياض سيف مع مصادرة أموال الأول وممتلكاته وقررت دفن المعتقلين الآخرين أحياء في زنازينهم من دون توجيه حتى تهمة محددة لهم، عن جهلها الكامل بالمزاج الذي يسود أوساط الرأي العام السوري اليوم وجاءت أحكامها بمثابة استفزاز له. فبعد أربعة عقود من العنف المدمر، معنويا ونفسيا وماديا، وانهيار مستويات المعيشة وخسارة جميع الرهانات الوطنية والاقتصادية التنموية والقومية والاجتماعية والعقائدية، ينزع السوري العادي، بعكس ما تعتقد أوساط الحزب والدولة - التي تبدي قلقا كبيرا على الأمن سيصبح من دون شك مبررا بسبب سلوكها المبالغ فيه بعد فترة - الى السلام ويريد المصالحة مع ذاته الجمعية ونسيان الماضي والخروج نفسيا ومعنويا وسياسيا منه، ويبحث عن مرفإ خلاص وعن أمل ورجاء. إن مزاجه الحقيقي هو التسامح والصفح عما جرى والعودة الى رحم التضامن والتفاهم والتعايش بين ابناء شعب واحد بصرف النظر عن الانتماءات العقائدية والدينية والسياسية وحتى الاجتماعية. وهو مستعد للتضحية بالكثير من أجل هذا السلام والسلم الاهلي. وقد سمعت معتقلبن قضوا اكثر من خمسة عشر عاما في السجون السورية المختلفة، من دون تهمة موجهة اليهم ولا محاكمة، يعلنون عن املهم في نسيان تلك الفترة وينتقدون بعض زملائهم في المعارضة لتشددهم أو للغتهم الاستفزازية أحيانا، ويؤكدون على أنهم يريدون الصفح عن جلاديهم  ولا يبحثون إلا عن أن يعيشوا في هدوء وسلام  في وطنهم ويشعرون أن لديهم وطنا يأويهم ويحميهم. أمام هذا المزاج الشعبي النازع بقوة للتسامح والصفح تبدو العقوبة التي انزلها النظام بنائب من نوابه خدمه خلال ثلاثة ولايات وكأنها برهان على أن الحاكمين يظهرون صعوبة كبيرة في الخروج من عقلية الماضي ونزاعاته اللانهائية وانهم لا يزالون يتصرفون تجاه خصومهم وكأن إرادة السيطرة بالقوة والعنف هي التي تملي عليهم سلوكهم وجدول أعمالهم. ولا يمكن لمثل هذا التصور إلا أن يعمق الشعور بالقطيعة بين المجتمع والنظام ويعمل على إضعاف الثقة بالاصلاح وقطع الأمل بإمكانية الخلاص والمصالحة مع الذات وضمان فرصة اعداد البلاد لتحديات الحاضر والمستقبل الكبيرة.

وثالثا،  ليس من المؤكد أن يترجم الحكم القاسي على النائبين، مثله مثل المعاملة التي يتعرض لها المثقفون المعتقلون، وجميعهم من كوادر البلاد، في نظر الجمهور تصميم السلطة وعزيمتها كما اراد لهما ذلك مصمموهما، ولكنه ربما غذى أكثر الاعتقاد بتخبطها وارتباكها في احتواء ظاهرة يمكن لأضعف النظم في العالم ان يستوعبها، أعني ظاهرة انتقاد النخبة المثقفة للسياسات القائمة والمطالبة بتحسينها وإصلاح قواعد وأساليب عمل الدولة. فسورية لم تعد اليوم اقطاعة معزولة تماما ولكن رأيها العام يكتشف من حوله دولا بعيدة كثيرا عن أن تحلم بما تملكه سورية من موارد مادية وبشرية وعلمية وتنعم مع ذلك بدرجة أو أخرى من التعددية وتتعامل مع رأيها العام ومثقفيها، ما لم يتعلق الأمر بتهديد مباشر للأمن، تعاملا ان لم يكن ديمقراطيا فهو على درجة كبيرة من الاحترام والتسامح والروح الحوارية. ولا يوجد اليوم في أي بلد في العالم، بما في ذلك كوريا الشمالية، مثقفون معتقلون بسبب افصاحهم عن آرائهم السياسية.

كان من الممكن أن يكون للحكم القاسي وللمعاملة اللاانسانية للمثقفين أن ينتجا ما أراد ويريد لهما أصحاب القرار بالفعل، أي تخويف الرأي العام وردع الجمهور الناشط فيه عن المطالبة بحياة سياسية فعلية في البلاد وايقاف تيارات النقد الصاعدة من قبل الشباب والأقل شبابا بسبب تدهور الأوضاع النفسية والاجتماعية والاقتصادية، كان من الممكن للقسوة أن تؤدي الى نتيجة وتردع الناس لو جاءت في سياق نجاح النظام في تحقيق انجازات كبيرة فعلا في مجال أو أكثر من مجالات الحياة السورية. لكن لا يمكنها الا أن تثير رد فعل معاكس في الظروف الراهنة والاوضاع الاقتصادية والوطنية والقومية كما نعلم. فالرأي العام ينتظر من الحكومة التي لم تنجح في تأمين الخبز ووقف تدهور مستوى المعيشة أن تميل الى التواضع وضبط النفس وتعوض غياب الخبز وتدهور مستوى المعيشة باعتدال اكبر في مسألة الحريات. وهكذا لا يمكن للعودة الى استخدام القبضة الحديدية إلا أن تظهر التطرف غير المبرر للحكم امام مجتمع مسالم لا يطالب بشيء سوى الأمن والسلام الأهلي.

للأسف لا يدرك الكثير من المسؤولين أو من هم في منصب المسؤولية أن العقوبات القاسية التي ينزلونها بالمثقفين السوريين وبقية المنتقدين لا تخدم الحكم ولا تساعد على تكريس  الاستقرار ولا تضمن لسورية الحد الأدنى من التصالح مع الذات ولكنها، في الظروف الصعبة الراهنة التي تمر بها البلاد، وفي حالة عدم احتمال تحقيق انجاز في السنوات القليلة القادمة - حتى لو حصلت معجزة وزادت حركة الاستثمار بسبب الانفتاح الاقتصادي - سوف تزيد الاحباط واليأس من المستقبل وتفقد السوريين الأمل الوليد الضعيف الذي مثله بالنسبة اليهم كلام العهد الجديد عن الاصلاح والتغيير والتطوير والتحديث. فهي تفاقم من أسباب التوتر الداخلي وتسمم علاقات سورية الخارجية التي لا تستطيع الدولة السورية أن تتجاهلها إذا كان رهانها في التنمية على التعامل مع الخارج والانفتاح على السوق الدولية. فقد جاءت الاحكام القاسية على المثقفين لتؤكد للفاعلين الخارجيين السياسيين والاقتصاديين، كما قال لي أحد الدبلوماسيين الأوربيين، على أن سورية لا تزال بعيدة جدا عن أن تتغلب على العقلية الماضية وتدخل في اطار مشروع جدي للاصلاح يمكنها من أن تصبح شريكا مقبولا من قبل الدول الصناعية ويبعث الثقة بقدرتها على التغيير ومستقبلها.

لا أدري كيف وقعت الحكومة في شرك هذه السياسة المتطرفة ومن أشار عليها بالعودة الى سياسة العصا الغليظة في عصر الانفراج والحوار والمصالحة في كل بلاد العالم حتى تظهر النظام وكأنه يسير في عكس اتجاه التاريخ. فهي سياسة معكوسة النتائج لا تخدم النظام ولا البلاد. واتمنى كما يتمنى كل أولئك الذين يعنيهم مستقبل سورية وتطورها أن تسعى الحكومة بأسرع وقت الى التخلص من هذه الهدية المسمومة التي اوحت بها عقليات غير ملهمة بالتأكيد والتي تهدد بتسميم المناخ الوطني الداخلي وعلاقات سورية الخارجية معا من دون أي مبرر آخر سوى الاستجابة لمشاعر الخوف الغريزي وربما لدى البعض الانتقام. والمخرج الاسهل والأبسط هو الأصدق ايضا، أي العودة عن هذه السياسة والافراج الفوري عن المعتقلين والاعتذار منهم واعلان الحكومة التزامها باحترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كما هو جاري في كل بلاد العالم المتمدن. وسوف يكسبها ذلك ثقة المثقفين وتأييدهم واحترام دول العالم أجمع.