قانون الامبرطورية أو واشنطن الخصم والحكم

2002-07:: الوطن

 الخلط المقصود الذي تمارسه السياسة الأمريكية بين السيطرة والقيادة أو حتى أحيانا المطابقة بينهما ليس صدفة ولا عبثا. فمن غير الممكن تحقيق تقدم مهما كان جزئيا في الحياة الدولية، تماما كما أنه من غير الممكن تحقيق أي تقدم في الحياة الوطنية، من دون قيادة. لكن القيادة لا تعني السيطرة ولا تستدعيها بالضرورة.

ماذا تعني القيادة بالضبط؟ إنها تعني شيئين: التوجيه والتنظيم. فلا تتحقق القيادة لشخص أو لطبقة إلا لامتلاكهما رؤية تتمتع بدرجة أو أخرى من المعقولية، في منظور عصرها وشروطها الاجتماعية، أي من وجهة نظر المجتمع الذي تظهر فيه. ولا تستمر إلا بتحويل هذه الرؤية إلى سياسة عملية أي إلى ترجمتها عبر النظام الاجتماعي ومن خلاله. وكل عمل، مهما كان نوعه، يحتاج إلى تنظيم، أي تشكيل للقوى وترتيب للمسؤوليات وإعداد للوسائل. ولا يتحقق إلا عبر نظام من التراتبية مرتبط هو نفسه بتوزيع المسؤوليات والمهام. وهو ما يفترض وجود سلطة وقواعد ثابتة ومعروفة لممارسة السلطة. والقيادة الاجتماعية تحتاج ربما أكثر من أي نوع آخر من القيادة رؤية واضحة وتحديد صحيح للأهداف وتنظيم ناجع للقوى وإعداد سليم للوسائل. وليست كل رؤية أو عقيدة اجتماعية قابلة بالضرورة كي تكون مصدر قيادة، أي ذات قوة توجيهية فعلية بالنسبة للجماعات التي توجه إليها،  ولا يملك أي نظام سلطة أو تنظيم للسلطة والمراتبية إمكانيات معقولة لبث الاتساق بين القوى وتعظيم الموراد. فلا قيمة ولا جاذبية للرؤية إلا بقدر ما تظهر قدرتها على التعامل مع المعطيات الفعلية المادية والمعنوية وإنارة الواقع أو الكشف عن بعض أوجه تركيبه حتى تمكن السيطرة عليه وتحويله. ولا قيمة لنظام سلطة وترتيب ما لم يظهر قدرة ملموسة على توفير حد أدنى من الانسجام في التشكيلة الاجتماعية وتجاوز التنافر وامتصاص التناقضات وتقنين النزاعات وتوحيد القوى. وكل ذلك يحتاج إلى فضائل عقلية وأخلاقية معا، ولا يستمر إلا بقدر ما تظهر النتائج العملية أن نموذج القيادة القائم يقدم للمجتمع أو الجماعة فرصا جديدة ويفتح لهما أفاقا لم تكن ممكنة أو متصورة. ولا يحصل الالتفاف الطوعي من حول القيادة إلا لأن ما تقدمه من رؤية وتقترحه من نظام للترتيب والتنظيم والحكم يساعد على إخراج الجماعة أو يبدو أنه يساعدها، في منظور معين، وعلى مدى ما، من حالة الفوضى إلى حالة الاتساق والانسجام وبالتالي الإنجاز معا. وهذا الاعتقاد هو الذي يدفع الأفراد إلى الإيمان بصلاح النظام ومعقوليته ويشجع على الالتفاف الإرادي والطوعي من حوله. 

ونستطيع أن نقول إن القاعدة الوحيدة لتكوين القيادة، أي لتعميم رؤية موحدة ومشتركة في المجتمع أو الجماعة، رؤية تعرف بالموارد وتحدد الغايات والأهداف، وبالتالي لإقامة نظام للسلطة تضمن استقرار المواقع والمراتب والمسؤوليات هي قاعدة الانتخاب الطبيعي. فالأقوى هو الذي يفرض إرادته ومن خلالها سلطته ورؤيته لكيفية توجيه دفة السفينة الجماعية. وهذا هو الأمر السائد في عالم الحيوان. فالحيوان الأقوى هو ملك الغابة، والأقوى بين الأقوياء هو سيد القطيع. والجميع مكره على اتباع سنته وخطه أكان ذلك على خطأ أو صواب.

ولا يمكن لجماعة بشرية أن تعيش من دون قيادة وإلا فهي لا محالة في حالة فوضى أو اقتتال. فإذا انعدمت شروط تنصيب القيادة العضوية أي القائمة على التفاهم بين القمة والقاعدة عبر الحوار الحر والتفاعل والتواصل، وهو ما يفترض اعترافا بالجدارة والندية بين جميع أعضاء الجماعة، كانت النتيجة لا محالة نشوء قيادة ميكانيكية، أي غير قائمة على أسس من التفاهم الواعي والحوار، ولكنها مفروضة بقوة الأشياء، أكانت هذه القوة مادية، أي بالعنف المادي المحض، أو قوة معنوية كتلك التي ارتبطت بتقديس الملوك أو الأرستقراطية التقليدية. وفي الحالتين لا تصبح القيادة من الأمور المفكر بها ولكن من الأمور الطبيعية التي تقوم من تلقاء نفسها وتفرض نفسها كما لو كانت بداهة عقلية أو قدرا. فاختيارات الملك المقدس وحاشيته الارستقراطية ليست موضوع نقاش من قبل أحد من الجماعة الخاضعة له، وكذلك ليس هناك مجال لوضع سياسات النظم الديكتاتورية موضع السؤال.

وليس هناك شك عند أحد أن انهيار نظام ثنائية القطبية الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد زعزع الأسس والمعايير التي كان يقوم عليها التوازن الدولي السابق والتي كانت تحكم اتخاذ القرارات الدولية وتنظيم الساحة العالمية. فقد أدى زوال الاتحاد السوفييتي كقوة عظمي موازية للولايات المتحدة إلى صعود هذه الأخيرة إلى مصاف الدولة العالمية الوحيدة أو القطب الأوحد القادر على إملاء إرادته. كما أن انتهاء حالة وشروط الحرب الباردة قد حرر هذا القطب من تبعيته السابقة النسبية لحلفائه الأوربيين. وقد أجهزت حرب الخليج الثانية، وهذه هي أهميتها، على كل الالتزامات الدولية المتبادلة وحيدت الأمم المتحدة ووضعت العالم أمام واقع غياب أي قاعدة للتعامل بين الدول، باستثناء قاعدة القوة. وهكذا أصبحت الولايات المتحدة القائد الفعلي للعالم والمقرر الوحيد في شؤونه ومستقبله. فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تدعي تفوقا نسبيا في مواجهة جميع دول الأرض اليوم. وفي شروط غياب أي قواعد جديدة متفق عليها في إطار الأمم المتحدة أو خارجها، الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هي التي تستطيع أن تبث، من خلال سيطرتها العالمية الفعلية، درجة من النظام والاتساق والتوجه العام في نظام العلاقات الدولية. وهكذا أصبحت تلعب بالفعل دور القيادة الدولية، وتقرر وحدها كيف يمكن أن تواجه الشؤون العالمية وكيف يمكن توفير الحلول المطلوبة لها. لكنها وهي تضع نفسها في موقع القيادة العالمية، وفي غياب أي مشاركة فعلية من قبل الأطراف الأخرى، لم يكن هناك بد من أن تفرض في الوقت نفسه وبهذه المناسبة رؤيتها الخاصة وسلطتها معا على العالم لتصبحا أساس السياسات الدولية جميعا. هكذا صارت الولايات المتحدة تدير العالم في الواقع حسب أولويات السياسة الأمريكية ومصالحها وجدول أعمالها.

وليس من الصعب على أي محلل أن يعاين كيف أصبحت أي سياسة دولية غير ممكنة من دون الولايات المتحدة الأمريكية وبالأحرى ضدها. فالولايات المتحدة بسبب ما تتمتع به من قوى استثنائية تضغط بقوة على المصير العالمي في مجال الأمن كما هو الحال في المجال الاقتصادي والثقافي والاعلامي والسياسي. وهي تحدد أيضا، إلى حد كبير، لأنها مصدر التجديدات والابتكارات الرئيسية في العالم المعاصر، جدول أعمال أو رزنامة التقدم العالمي ولا يمكن لأي دولة أخرى أن تملي على العالم أولوياتها أو تفرضها عليها كما يمكن ذلك للولايات المتحدة.

بل إن تفوق الولايات المتحدة وقدرتها على المبادرة والتدخل يجعل منها في شروط غياب قيادة بديلة الملجأ الوحيد لجميع الأطراف المتنازعة والقوة الرئيسية التي تتوجه إليها أنظار العالم في كل مكان كي تضع شيئا من النظام والأمن والعقلانية في حقل الفوضى الذي يمثله الوضع العالمي الراهن. وهذا يعني أن دول العالم جميعا تعترف للولايات المتحدة بأسبقيتها وتطلب منها المساهمة في تنظيم شؤون الساحة الدولية، بل أحيانا في تنظيم شؤون وحل مشاكل الساحات الاقليمية والوطنية. وبالتأكيد لم تقصر الولايات المتحدة في رد هذه الطلبات التي توجه إليها للتدخل وايجاد الحلول المنتظرة هنا وهناك. وحتى عندما لا تنجح الولايات المتحدة في تحقيق ما هو مأمول منها، فإن هذه الديناميكية التي تجعل العالم متطلعا كليا لواشنطن في حل نزاعاته وتحقيق الاستقرار بما في ذلك التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يعزز من الدور القيادي للولايات المتحدة ويزيد من سيطرتها أيضا. وبالمثل، يبدو تعزيز سيطرة أمريكا على العالم أكثر فأكثر وكأنه شرط إحلال النظام والاتساق فيه. وهذا ما يتيح لواشنطن حرية مبادرة وهامش حركة استثنائيين تستفيد منهما لتهميش دور الدول الصناعية الأخرى، وفي مقدمها أوربة الطامحة إلى لعب دور قيادي أيضا في الحياة الدولية. ولا يشك أحد اليوم، أكان معاديا للسياسة الأمريكية أم محبذا لها، في أن الولايات المتحدة هي التي تفرض صيغ التطور الراهن ووتيرته على الأوضاع الدولية وتنظم المسيرة العالمية، سواء أتعلق الأمر بالاقتصاد أو بالتجديدات التقنية أو القانونية أو بالامن أو بالسلام. فإذا أرادت تعميم منطق حرية التجارة أو نزع سلاح الدمار الشامل أو تحقيق السلم في منطقة أو حرمان منطقة أخرى منه، فليس هناك من يستطيع أن يقف عقبة أمامها أو يحول دون تحقيق مآربها.

لكنها وهي تفعل ذلك قد تحولت، كما تتحول كل امبرطورية، إلى الخصم والحكم في العالم كله. فتدخلها مطلوب لفض النزاعات وايجاد الحلول لمشاكل العالم المتزايدة، ولا حل ممكنا من دون موافقتها أو مشاركتها. وسيطرتها التي تعني ترتيب الأوضاع بما يتماشى مع مصالحها وأولوياتها مرفوضة لما تعنيه هي نفسها من زعزعة للاستقرار وتدمير للتوازنات الداخلية في الأقاليم والدول التي تتدخل الولايات المتحدة فيها أو لصالحها لمساعدتها. وهذه هي النتيجة الطبيعية لأي سيطرة مفروضة أو ثمرة التفوق والقوة لا نتيجة تفاهم وتعاون وحوار مستمر بين القيادة والقاعدة. وهي مفارقة القوة التي تمثلها أمريكا والتي تجعل منها عامل استقرار لا بديل عنه للعالم كله وفي الوقت نفسه عامل تفجير وزعزعة للاستقرار العالمي والاقليمي أيضا. فترتيب العالم من وجهة مصالح الولايات المتحدة, وهو ما تتطلبه السيطرة والدور الأمريكي القيادي نفسه يعني تفكيك العالم وإعادة بنائه على أسس جديدة تمكن واشنطن من الحضور الشفاف والمباشر أو الفوري في كل مكان وفي الوقت نفسه. فالاستقرار نفسه يستدعي تدمير التوازنات السابقة واستبدالها بتوازنات ليست معروفة تماما ولا ترتبط بوجود قوى اجتماعية أو إقليمية متبلورة وواضحة وإنما تعتمد على قوة التدخلات الأمريكية. وهنا نكتشف إلى أي حد يمكن للسيطرة العولمية أو للامبرطورية العالمية كما نسميها اليوم, أن تكون حلما جنونيا تماما كما كان الحلم النازي عندما راهن على التفوق العرقي الجرماني لتحقيق سيطرة قارية بل امبرطورية ألمانية شبه عالمية.