في منهج مواجهة أزمة الشرق الأوسط

2004-12-04::

يطرح العنف المتفجر في الشرق الأوسط على الدول الصناعية الكبرى، كما لم يحصل في أي حقبة سابقة، قضية التطور في العالم العربي ومستقبل التحولات السياسية والاقتصادية فيه. ولا ينكر أحد من المسؤولين الكبار عن بنية النظام العالمي الراهن أن السبب الرئيسي لهذا العنف المتزايد هو ما ساد في العقود الماضية من سياسات وطنية وإقليمية قادت المنطقة بشكل متسارع إلى أزمة عميقة أصبح من المتعذر على أبنائها لوحدهم تأمين وسائل الخروج منها. ولا يزال غياب الحلول الناجعة لمشاكل الافقار الجماعي والقهر المتزايد وتفاقم النزاعات الداخلية والمحلية يمثل مصدر ضغط هائل على شعوب فقدت أو هي في طريقها لأن تفقد الحد الأدنى من الحياة القانونية والمدنية والسياسية الطبيعية والعادية. وتترافق هذه الضغوط الاستثنائية الوطنية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تشكل الأبعاد الرئيسية للأزمة الراهنة التي يعيشها العالم العربي منذ ثلاثة عقود مع جمود استثنائي للنخب الحاكمة وتصطدم بقوة بتخلف نظمها وانعدام شعور رجالاتها بالمسؤولية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يعمق الشعور باليأس والاحباط وانعدام الثقة بالنفس ويدفع الشرائح الأكثر شعورا بالتهديد والأكثر حساسية ونفاذ صبر إلى اللجوء إلى الحلول العنيفة التي تأمل أن تهز من خلالها السلطات والنظم والدول المسؤولة أو التي تعتقد أنها في أصل الأوضاع السلبية القائمة وأن تنقل حالة زعزعة الاستقرار إليها.

يشبه وضع العالم العربي المشرقي اليوم الوضع الذي كانت تعيشه منطقة أمريكا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية· فهناك أيضا جعلت السيطرة الخارجية والافقار المستمر والتفاوت الطبقي المفزع وتكالب النخب الاجتماعية الحاكمة على السلطة، والدعم الدائم لديكتاتورية هذه النخب من قبل الولايات المتحدة ضد إرادة الرأي العام المحلي، أقول جعل كل ذلك، من أمريكا اللاتينية، خلال عقود الخمسبنات والستينات، الموطن الرئيسي للارهاب العالمي الموجه إلى المصالح الامريكية بالذات في أمريكا اللاتينية وفي مناطق العالم الأخرى·
وقد تتلمذ العرب منذ السبعينات على أمريكا اللاتينية هذه وتعلموا منها أساليب الاغتيال والعنف وحرب العصابات وحروب المدن قبل أن يصبحوا معلمين فيها. وترجموا مختلف كتب وأدبيات حرب العصابات وحرب المدن والحركات الثورية الأخرى التي انتشرت فيها انتشار النار في الهشيم· ولم يتوقف نمو العنف والارهاب في أمريكا اللاتينية إلا منذ عقدين أو أكثر قليلا وذلك في موازاة نجاح هذه القارة في تجاوز نزاعاتها الداخلية وتحرير نفسها من التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وأخذها بمناهج الحكم الديمقراطي واعتمادها سياسات تنموية جديدة أخرجتها من دائرة الفقر والهامشية وضعف معدلات النمو الاقتصادي أو انعدامها· وقد حصل ذلك نتيجة إدراك مشترك في واشنطن وفي البلدان الأمريكية اللاتينية بأنه قد أصبح من المستحيل الحفاظ على الأمن والسلام مع استمرار الأوضاع على ما هي عليه وأن من مصلحة الطرفين، أعني الإدارة الأمريكية، الدولة المهيمنة الرئيسية على مصائر شعوب أمريكا اللاتينية، والنخب المحلية الحاكمة العمل في اتجاهين متلازمين: أولهما تعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن طريق تكثيف الاستثمار وتوحيد السوق الاقتصادية الاقليمية وثانيهما التوصل إلى تسويات سياسية قابلة للحياة بين النظم القائمة والمعارضات المحلية الثورية أو السلمية عن طريق الالتزام بالتعددية والدمقرطة الحثيثة والفعلية للحياة السياسية.
وكما كان عليه الحال في أمريكا اللاتينية، ليس من الممكن في العالم العربي فصل العوامل الداخلية وسياسات النخب المحلية عن استراتيجيات الدول الكبرى التي كانت ولا تزال وراء ترتيب الأوضاع السياسية والجيوسياسية المشرقية. وليس هناك أي أمل في التغيير في هذه المنطقة من دون التقاء مصالح القوى الخارجية المهيمنة على النظم والنخب الحاكمة المحلية ومصالح الجمهور الواسع الذي يحتاج إلى التغيير ويتطلع إليه بفارغ الصبر. إن الخروج من الأزمة المثلثة التي تضرب العديد من مجتمعات الشرق الأوسط العربية،أعني من حالة الفقر والاستبداد والنزاعات التاريخية المستديمة سيكون مستحيلا إذا ترك الأمر للنخب المحلية الحاكمة التي فقدت أي مفهوم للمعايير القانونية والسياسية للحكم وبالتالي من دون دفع بل من دون مبادرة دولية حكيمة قادرة على فرض الحوار الداخلي على النخب القائمة ومدعومة بإرادة جدية للمساهمة في حل النزاعات الداخلية والاقليمية المستشرية ومساعدة هذه البلدان على الخروج من العزلة السياسية والهامشية الاقتصادية التي تعيش فيها منذ عقود.
يعني هذا أن أي خطة أو مبادرة بناءة تستدعي من أصحابها الالتزام بخطة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ولضخ دماء وأفكار ورساميل جديدة أيضا في المنطقة تمكنها من امتصاص الفقر وتخفيض نسبة البطالة وفتح آفاق حقيقية للأجيال الشابة معدومة الأمل اليوم· كما تستدعي القيام بجهود فعالة في سبيل التقريب بين وجهات نظر الحكومات والمعارضة السياسية والقوى الاجتماعية وفتح آفاق التعاون والتفاهم فيما بينها على أساس عقد وطني يضمن الحد الأدنى من الحقوق المدنية والسياسية ويلغي التفرد بالسلطة واغتيال الحياة السياسية واستخدام القمع والتعذيب والاعتقال التعسفي، ويؤكد فصل السلطات وسيادة القانون واعتماد الانتخابات الحرة كطريق وحيد لتداول السلطة· كما يستدعي أخيرا التصدي بشجاعة وقوة للنزاعات الاقليمية والداخلية المتفسخة التي سممت الحياة السياسية في المنطقة وتكاد تسمم الحياة الدبلوماسية الدولية ذاتها، وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي والفلسطيني الاسرائيلي·
ومن الممكن أن تأتي هذه المبادرة التي لا بد منها في أي مواجهة جدية وناجعة لأزمة الشرق الأوسط في شكل مؤتمر دولي يوضع تحت إشراف الأمم المتحدة تشارك فيه جميع الأطراف الدولية والإقليمية وممثلين عن المجتمعات المدنية وأصحاب الرأي والمسؤولين السياسيين في الحكم والمعارضة يكون إطارا للنقاش والمفاوضات الجماعية حول جميع المسائل العالقة ويهدف إلى ووضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. وتستمد فكرة هذا المؤتمر مشروعيتها من أن مشاكل الشرق الأوسط مترابطة ولا يمكن مواجهتها بتجزئتها وإنما لا بد من طرحها مجتمعة وعلى مائدة واحدة سواء ما تعلق منها بالاحتلال والتدخلات الخارجية أو بالتحولات السياسية الداخلية أو بمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتنمية مرتبطة بالتحولات الديمقراطية والديمقراطية مرتبطة بالسيادة الشعبية والسيادة مرتبطة بالسلام الذي يفترض الاستقلال وتصفية الاحتلال وقيام علاقات اعتراف متبادل وتعاون طبيعية ومثمرة بين جميع الأطراف داخل كل قطر على حدة وفي علاقة الأقطار في ما بينها.
من الواضح أنه ليس لهذه المبادرة أي علاقة بمشاريع الاصلاح الشكلية والفارغة التي لا تكف عن الإعلان عنها النخب الحاكمة المحلية كما أنه لا علاقة لها بتلك المبادرات والمشاريع التي تتردد منذ سنتين على ألسنة مسؤولين أمريكيين وأوروبيين والتي لا تهدف في الواقع إلا إلى التغطية على مشاريع الهيمنة وتقاسم النفوذ الغربية التي كانت ولا تزال الدافع الرئيسي لتهميش المنطقة ودعم نظم العنف والاستبداد فيها. إن المبادرة المطلوبة تستدعي بالعكس التخلي عن استراتيجيات الهيمنة والتسلط والالحاق الأجنبية التي تبرر مشاريع التسلط والاستتباع الداخلية وتغذيها وتفترض التعامل مع المجتمعات والشعوب العربية على أسس جديدة، أسس الشراكة الاقتصادية والسياسية والتعاون من أجل السلام وقطع الطريق على مسار الانحدار والتدهور والسقوط الحثيث نحو البربرية. وكل محاولة للفصل بين مسألة السلام والاستقرار الإقليمي ومسألة الاصلاح السياسي ومسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية تعكس غياب الإرادة الجدية لمواجهة الأزمة الشرق أوسطية ولا بد أن تقود إلى الفشل.
فكما أنه لا يمكن تحرير الشرق الأوسط من إرادة الانتقام والعداء والرفض التي تتملكه تجاه السياسات الغربية من دون إخراجه من أزمته التاريخية ومساعدته على الاندراج في دائر الحضارة العصرية وتمثل قيمها وتقاليدها، لا يمكن أيضا القضاء على العنف الموجه أو الذي يمكن أن يوجه نحو الخارج من دون إلغاء العنف كوسيلة للحكم والممارسة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الذي يقوم عليها النظام الداخلي القائم· ومن الصعب على الانسان المحروم من التنظيم السياسي والنقابي ومن التظاهر ومن الإضراب ومن التعبير عن الرأي في الصحافة والإعلام، أي من استخدام أي وسيلة سلمية وسياسية للدفاع عن نفسه وضمان حقوقه الدنيا، أن يتمثل معنى الحياة القانونية· كما أنه من الصعب على الانسان الذي يعيش في ظل أنظمة تعسفية ولا إنسانية ويتعرض للاحتلالات والاعتداءات والتدخلات الخارجية المستمرة ولم يعرف معنى الشرعية الوطنية أو يشارك في بنائها أو يتمتع بقانونها أن يفهم معنى الشرعية الدولية ويقبل التكيف معها والخضوع لها·